قراءة وكتابة

قراءة رجل الدّولة ومكتبته!

Print Friendly, PDF & Email

قراءة رجل الدّولة ومكتبته!

زارني رجل مبارك له عناية فائقة بالقراءة وشؤونها، وهو صاحب إسهام كبير في نقش المعرفة، ونشر الوعي، ودار بيننا حديث ومقترحات عديدة، ومنها أن يضيف لمنتجاته قائمة منتقاة بأهمّ الكتب التي يفضّل ألّا تخلو منها مكتبة رجل الدّولة، ليكمل الزّائر مشروعه المثمر في بناء قوائم الكتب المناسبة لفئات وأحوال.

والقراءة عمل يومي يضفي على الوقت بهجة وسرورًا، ولابدّ من ساعة قراءة على الأقلّ مهما كان الإنسان مشغولًا، ويبرز في سير أكثر الزّعماء علاقتهم الوثيقة مع الكتاب، وقد يتعمّدون التّصوير معه، أو في مكتباتهم العامرة؛ كما صنع زعيم شيعي حين عقد لقاء متلفزًا في مكتبته، والرّفوف التي خلفه مليئة بكتب أهل السّنة في التّفسير والفقه الحديث.

نعني برجل الدّولة كلّ من يتولّى عملًا له صفة التّأثير العام سواء في موقع الرّئاسة وما يحيط به من علماء ومستشارين وأعوان، أو في مجالس النّواب، والوزراء، والخبراء، والقضاة على اختلافهم، ومنهم كبار الدّبلوماسيين والعسكريين، وولاة المقاطعات والأقاليم، كما يشمل أيّ إنسان يطمح لهذه المناصب.

وأوّل أمر لا يغفل عنه رجل الدّولة فضلًا عن غيره، هو النّهل من معين ثقافته التي يمثلّها، والاستزادة من أركانها بغضّ النّظر عن مدى توافقه معها، فليس حسنًا أن يجهل المسؤول ضرورات دينه، ومفاصل تاريخه، وأسس لغته، ويلي ذلك في الأهميّة أن يتبحّر في شؤون المهمّة التي يليها، فيقرأ عنها حتى يكون عالماً قادراً على الفهم والنّقاش والحِجاج، ويحمي نفسه وأمانته من تدليس ذوي الأهواء والمصالح.

 

من الضّروري أن تحتوي مكتبة رجل الدّولة على كتب تخصّ البلدان المحيطة به، وثقافتها، وتاريخها، ومثلها عن البلاد ذات التّقاطعات أو التّحالفات السّياسيّة أو الاقتصاديّة أو العسكريّة مع دولته، وفي هذا السّياق تبرز الحاجة الماسّة للاطلاع على السّير الذّاتيّة التي يتتابع إصدارها من الوزراء والرّؤساء، فبعضها معين في تمهيد الطّريق الوعر، أو كشف أسرار وخفايا، وفيها دليل للانتقال إلى العالم الأوّل، ومنها ما يروي تجارب ناجحة في التّحوّل الجميل الآمن.

كما يحسن برجل الدّولة حماية نفسه من مغبّة نقص المعرفة في شؤون جغرافية، واقتصاديّة، وقضائيّة، ونيابيّة، ودبلوماسيّة، مع إلمام كاف بالمعاهدات العالميّة، وركائز القانون الدّولي، والمنّظمات الكبرى، والأعراف المرعيّة، وفنون الحرب، وعالم الاستخبارات والجاسوسيّة، وأهميّة هذه الحقول تختلف بحسب الموقع، والصّلاحيات، والاستعداد الفكري، ولا مناص من وجود قابليّة ذاتيّة للانتفاع من هذه المؤلّفات؛ فلا فائدة من عزّة تأخذ بالإثم وتقود إليه!

وعلى أيّ حال فلو التزم رجل الدولة بتقسيم كتبه إلى أصناف، يكون أحدها خالصًا له، والباقي ينصرف إلى مراجع من جنس ما ذكر سابقًا في فنّ الحكم، وفقه السّياسة الشّرعيّة، والتّاريخ بأحقابه، وعلم الاجتماع، وفروع الإدارة والتّفاوض، وحقول التّنمية والاقتصاد، لكان حسنًا له في خاصّة نفسه، ولبلاده، ولزملائه في العمل، وشركائه في إدارة مقاليد الدّولة، ومن لم يطق ذلك فبيته يسعه.

 

ويمكن لمن وفقه الله أن ينتخب مجموعة متنوّعة، تكون بمثابة تجديد وإضافة له، وزيادة في العقل والفهم، فيتناقش معهم فيما قرأ، أو يسمع منها خلاصات كتبهم المقروءة؛ فالثّقافة السّماعيّة سائدة في أوساط نخب الحكم والسّياسة، ولن تجدي نفعًا إلّا حين تكون مشاركة هذا الفريق رزينة وعلميّة، خالية من النّفاق وقرع الطّبول، ويقول واحدهم ما يعتقده دون تثريب حتى لو لم يرق لذي المنصب.

إنّ رجل الدّولة الذي يقرأ يكتسب الهدوء، وبعد النّظر، فيكون صمته وسيلة للتّفكير والتّأمل، وأقواله درر تمتزج فيها حكمة الآخرين مع تجاربه ورؤاه، وألفاظه تخلب العقول، ومنطقه يجبر المحاورين على توقيره، وتصف أعماله الصّواب من جوانبه، وأمّا تصريحاته فبعيدة عن التّناقض، وحمّالة أوجه، فمن طبيعة كلام السّاسة الاختصار، وتعدّد الاحتمالات، وتوافر المخارج لتفسيره.

ومن الطّريف أنّ أهل تونس يفرقون بين قسوة بورقيبة، وعنف بنعلي، فثقافة الأوّل التي حرم منها الثّاني جعلت زين أشين الرّجلين، وخير منهما أن يكون رجل الدّولة عادلًا مثقفًا أمينًا، يتوجّه نحو المصلحة العليا مباشرة، ولا يقع في وحل قول أو خطل فعل، ومن نفيس وصايا الفاروق رضوان الله عليه أن يتعلّم النّجباء ويتفقهوا قبل أن يسودوا!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الجمعة 29 من شهرِ ربيع الأوّل عام 1440

07 من شهر ديسمبر عام 2018م 

 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)