سير وأعلام عرض كتاب

موضي البسام: تلكم الباسقة!

موضي البسام: تلكم الباسقة!

لأسرة البّسام من عنيزة حضور كبير في تاريخ الجزيرة العربيّة، وفي تفاعلات منطقتنا مع الخليج، والعراق، والشّام، ومصر، والهند، فضلًا عن مآثرهم التي تصف المروءة والعقل في المواقف والحوادث. كما حفظت طرق التّجارة، وتمر البرحي، وتحفة المشتاق، وعلماء نجد، وخزانة التّواريخ، شيئًا من خبرهم العبق.

واشتهرت هذه الأسرة بكثرة التّجار، والعلماء خاصّة في الفقه والتّاريخ، ومن المعاصرين أطبّاء سبّاقون، وعلماء في الرّياضيات والقانون وغيرها من فنون. ومع أنّ الأسرة تجافت عن الحكم، إلّا أنّ تأثيرها السّياسي يضاهي غيرها، وكانت مع أسرة الزّامل السّليم كفرسي رهان. والشّيء بالشّيء يذكر، فآل البّسام أخوال لوالد الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب.

ولم يقتصر بروز الأسرة على رجالاتها، فقد سمت للكمال والفضائل نساؤهم، وعلا اسم المحسنة موضي بنت عبدالله بن حمد البّسام (1270-1363)، فأصبحت خالدة ليس في تاريخ عنيزة فقط، بل في تاريخ المنطقة كلّها، فلا تروى معركة الصّريف، وموقعة البكيريّة، وسنة الجوع، وسنة الرّحمة، دون أن تذكر هذه المرأة السّامية.

عاشت موضي طفولتها يتيمة، بيد أنّ الله حفظها بصلاح أبيها ثمّ بثروته، وبقاء والدتها، ثمّ قيّض لها وكيلًا صالحًا، ووصيّاً مصلحًا، وهو العَلَم المعروف في تاريخ الدّولة السّعوديّة الثّانية والثّالثة عبدالله العبدالرّحمن البّسام، وكان من أقاربهم، وصديقًا لوالدها، وإنه لصاحب سيرة جديرة بالتّداول.

وقد تزوّج الوصي والدتها هيا النّاصر السّعدي، وأحسن لموضي وأختها، وعلّمها القرآن والكتابة والقراءة، ثمّ اصطفى موضي النّابهة زوجة لابنه عبدالرّحمن، وما أعظم أجر هذا الرّجل في رعاية الأيتام، والأرملة، مع حسن التّربية والتّعليم، والنّصح في التّزويج، وحفظ المال، وتثميره، ولا يضيع عند الله شيء، فربيبته وأعمالها من حسناته.

كذلك كان للوقف أثر مبارك في حياة هذه المرأة، إذ أفادت من وقف والدها، ووالدتها، وزوجها، ووقفها هي فيما بعد، وفعلت بالمال الوفير مالم يفعله رجال ومؤسسات، وشاركت في نواحي كثيرة، سياسيّة، وعسكريّة، وإغاثيّة، وتنمويّة، واجتماعيّة، ودينيّة، وتربويّة، وإصلاحيّة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. علمًا أن وقفها يزال قائمًا كما أنبأني حفيدها سامي العبدالرّحمن البّسام.

من أشهر أعمالها استضافة النّاجين من جيش الكويت بعد انصرافهم من وقعة الصّريف عام 1318، وصنيعها هذا فيه مخاطرة بمواجهة ابن رشيد الشّرس، خصوصًا أنّه تعقّب الجيش وأثخن فيه، ولم تكتف بالاستضافة، بل منحتهم مع الإيواء طعامًا وشرابًا خلال مكوثهم، وبعد أن سكنت الأحداث، وتقاعس طالبهم، جهزت لهم الرّواحل على دفعات ليقفلوا إلى ديارهم دون أن يشعر بهم أحد. وفي عملها شجاعة، وإحسان، وتخطيط، ولم تندم على نهجها إذ كرّرت هذه الخدمة الجريئة مع جيش الرّياض عقب معركة البكيريّة عام 1322، بعد شهور يسيرة من سنة السّطوة!

كما أبانت سنة السّطوة عن سمو هذه المرأة ونبلها، فبعد عشرة أيام من أحداث السّطوة في الخامس من محرّم عام 1322، هطلت أمطار غزيرة على عنيزة، وتضررت منها مئات المنازل، ومن ضمنها بيت حامل البيرق عايد الصّقيري، فاحتاج إلى أخشاب وأثل لإصلاح داره، ووجد ألّا مناص من الاستعانة بموضي العبدالله، مع شنيع فعل الجيش بمنزلها، وبيوت أهلها، وبقيّة بيوت عنيزة.

فاستنجد بها الصقيري ولذا منحته ما أراد وزيادة مع حداثة العهد بالواقعة، ولأنّه يحفظ المعروف لأهله، قال كلمته الخالدة: “إذا جاك ولد سمه موضي”، وحين أراد البعض إحراجه أمام الملك عبدالعزيز، وسألوه أعاد مقولته التي صارت لسان صدق في الآخرين لموضي بالإحسان، وله بالوفاء والثّبات، ووافقه الملك المؤسس على ذلك، وأثنى على موضي، وأسرتها؛ ولا غرو فمن سمات الأكابر أنّهم يعرفون الفضل لأصحابه.

وللجوع والقحط حكايات مريرة في الجزيرة العربيّة وغيرها، والله يحمينا من شرور الجوع وغوائله. ولمّا ضرب الجوع أطنابه في نجد عام 1327، هبّت موضي الكريمة لنجدة النّاس بتوزيع التّمر، والبّر، وتوظيف النّساء للخدمة، وتقصّي أحوال البيوت، وأشرفت بنفسها على ذلك؛ فكانت وزارة اجتماعيّة، وهيئة إغاثيّة، وهي امرأة واحدة فقط، وربّما أنّ أجيالًا عاشت ببركة إنقاذها لأوائلهم، وما أسعدها بالحسنات.

ثمّ بعد عشر سنوات من الجوع انتشر وباء الكوليرا والحمّى الإسبانيّة، وبليت البلاد بموات عام حتى عرفت تلك الأيّام بسنة الرّحمة عام 1337، تفاؤلا برحمة الله لمن مضى، ورحمته بمن بقي، ولم تتوان موضي الصّابرة عن العمل مع أنّها فجعت بابنتيها وابنها مع الرّاحلين، وكانت تجهّز الأكفان، وتستأجر المغسّلين من الجنسين، وحفاري القبور، فشمل إحسانها الأموات الذين ناهزوا في عنيزة وحدها ألف إنسان -كما قيل- جلّهم من النّساء.

وفرضت المرأة نفسها في مجتمع رجالي، وكانت مشاركتها مع توقير أعراف المجتمع ونظمه، ودون إساءة لأسرتها وبلدها. ولها تواصل بالرّسائل مع الملك عبدالعزيز في السّراء والضّراء، حيث دعته للزّيارة والعشاء، وبعثت له التّعازي والتّهاني، وروي عن الملك ثناء عاطرًا عليها وعلى آلها وأسرتها العريقة خاصّة الوجيه القيّم عليها عبدالله العبدالرّحمن، وكان الملك يخاطبها بالعمّة.

وفيما بعد تزوّج الملك سعود حفيدتها مضاوي البّسام من ابنتها لولوة وليس لهما ذريّة، وكانت هذه الحفيدة بارعة الجمال حتى وهي عجوز مسنّة. وبعد أن توفيت المحسنة موضي في شهر ذي القعدة عام 1363، تلّقى ابنها كتاب عزاء من الملك سعود، وكان وليّاً للعهد حينذاك. 

لأجل ذلك حجزت موضي مكانها السّامق في التّاريخ، فأشاد بها مؤرخون، ورواة، ونسابّة، وكتّاب، ووزراء، مثل حمد الجاسر، وعبدالله بن خميس، ومحمد بن بليهد، ومحمّد العبودي، وعبدالله العبدالرّحمن البّسام، وعبدالله المحمّد البّسام، وأحمد العبد العزيز البّسام، ودلال الحربي، ومحمّد القشعمي، وسليمان الشّاهين، وباسم الّلوغاني، وعبدالرّحمن الصّالحي، وصلاح الزّامل، وغيرهم.

أشير إلى أن أكثر ما ذكرته هنا من أخبار منقول عن كتاب عنوانه: المحسنة موضي العبد الله البسام، تأليف: د.أحمد بن عبد العزيز البّسام، صدرت طبعته الثّانية عام 1439=2018م، بمناسبة الاجتماع السّنوي السّابع والعشرين لأسرة البّسام، ويقع في (162) صفحة، وقد أهداني هذه النّسخة صديقي البّار عبدالله العبدالرّحمن البّسام، وكانت من نصيب نجله عبدالرّحمن، أصلحه الله، وأقر به العيون.

وبعد، فهذه ابنة بلادنا، هذه هي العربيّة الكريمة الأبيّة، وهذه هي المسلمة العفيفة النقيّة، وهي النّموذج المحتذى، والبذرة الموجودة في فطرة كلّ فتاة وإن اجتهد الأبالسة في اجتيالها وإفسادها، فبنات المسلمين، وكريمات العرب، والحرائر العقائل الماجدات، لديهنّ حصانة ذاتيّة، ومراقبة شخصيّة، وتأبى الواحدة منهنّ أن تكون سلعة يعبث الأفاكون بقيمتها، وتأنف أن يهبط بها الفسقة من عليائها وشموخها، وهي النّبيلة الطّاهرة الطّائعة لربّها ومولاها.   

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف -الرِّياض

ahmalassaf@

الاثنين 24 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1439

06 من شهر أغسطس عام 2018م 

Please follow and like us:

10 Comments

  1. جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل على هذا المقال القيم . الذي يدخل السرور والبهجة والاعجاب لهذه السيدة المتميزة . والله فخر لكل النساء كم اتمنى لو تقراءها معظم النساء . لتكون قدوة يقتدى بها . كل على قدر طاقته . حيث لايكلف الله نفسا الا وسعها. جعل الله مثواها جنة الفردوس الاعلى . وبكتابتك عنها جعلها الله في ميزان حسناتك وحسنات والديك . وفقك الله لما يحبه ويرضاه
    بكتاباتك هذه المقالات القيمة ونحن نقراها تحثنا وتعطينا الامل والتفاول بان الخير موجود عند امة محمد صلى الله عليه وسلم . رجالهم ونسائهم الى يوم تقوم الساعة
    .

  2. هذه من النساء المسلمات المعتزات بدينهن وعقيدتهن الصافيه ومن ذوات العقل المفكر المدبر، شكرا للكاتب على إظهار وإبراز مثل هذه الشخصيات التي تعتبر من القدوات الصالحه، أثابها الله على حسن صنيعها وجزاها عن المسلمين خير الجزاء، عزيزي الكاتب نحتاج أن تكتب لنا عن غيرها من نساء الوطن الفاضلات اللآتي كان لهن تأثير واضح في المجتمع السعودي سابقا.

    1. شكرا لكم، ويوجد مقالات منشورة في المدونة عن شخصيات نسائية أخرى مثل غالية البقمية وصديقة والدة د.عبدالله نصيف

  3. جزاك الله خير ،
    ووفقك لما فيه خير الدنيا والآخرة .
    عرض جميل وأسلوب رائع وشيِّق وفصاحة سلسة ومفهومة بعيدة عن التكلّف في السرد وفي النهاية توثيق سريع لأعلام ورموز كانت لهم بصمات في مجتمعاتنا ،
    ماشاءالله تبارك الرحمن زادك الله من فضله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)