أقدار خلف القدر!
من عبر قصة يوسف عليه السّلام، أنّ المنح الكثيرة الواردة فيها، جاءت في طيّات محنها، فالبلوى وإن عظمت، تجلب معها خيرات وبركات تهوّن البلاء، والله سبحانه وتعالى يقدّر أقداره بما يخفى علينا، فحين ألقاه أخوته في الجبّ، أوقف عليه قافلة لتخرجه، ولما بيع كان المشتري عزيز مصر، وفي سجنه رافقه نديم الملك، وهذا الملك سينام وتقلقه رؤيا لن يعبرها له إلّا رفيق نديمه، فيخرج من معتقله بريئًا عزيزًا، يدير شؤون مصر وما حولها، ويستضيف أهله ويكرم إخوانه، وكم في السّورة من إشراقات وإشراقات أخرى!
ويحفل تاريخنا بالقصص من هذا الجنس، فقد فقدت أم سلمة رضوان الله عليها زوجها مبكرًا، ثمّ كان العوض عظيمًا عظيمًا، فأصبحت زوج النّبي صلّى الله عليه وسلم، وإحدى أمّهات المؤمنين، وراويات الحديث من النّساء، وصاحبة المواقف في السّيرة، والمشورة في الحديبيّة.
وسأروي هنا حكايات سمعتها أو عرفتها، لأناس غير مشهورين، ومعها تأملات في وقائع، والعبرة منها بادية، فضلًا عن كونها حدثت لمعاصرين، في مسائل يوميّة تعرض لكلّ أحد، والموّفق من رضي بالقضاء، ودافع القدر بأقدار من العمل والتّفاؤل.
فقد حدثني رفيقي في المشي، أنّه كان في أحد أفخم فنادق كمبوديا، ودخل شاب يفيض حيويّة ونشاطًا، فأخبره صاحبه الكمبودي، أنّ هذا الشّاب خرج في مظاهرة ضدّ حكم استبدادي سابق في بلده، فاعتقل وسجن، وصادف أن تقاسم المكان مع رجل أعمال كبير، وبعد أن خرجا، وتغيّرت أحوال البلاد، أضحى رجل الأعمال رئيسًا للحكومة أو نائبًا للرّئيس، فاستوزر شريكه في المعتقل!
وأخبرت عن فتاة تقدمت إلى وظيفة الإعادة في أحد أقسام القانون الحديثة، وكانت هي الأفضل من بين خمس مرشحات، ولكنّها لم تنل الوظيفة، وذهبت ليس لواحدة من الخمس، بل لصاحبة واسطة كانت خارج المنافسة أصلًا، والله يطهّر بلادنا من هذا الفساد. والعبرة أنّ الفتاة المظلومة لم تيأس، وواصلت الدّراسة العليا، وحصلت على شهادتين عاليتين، وأجادت لغة أجنبيّة، ثم عادت إلى الجامعة التي لفظتها بمنصب أعلى، وفتاة الواسطة لم تبرح مكانها، ولم تزدد علمًا!
وسمعت عن طبيب أطفال أعير من جامعته لمشفى حكومي يعطي رواتب جيّدة، ويرتبط بوزارة قويّة، وبسبب خلل في التّوقيت، انتهت إعارة الطّبيب، ولم يعد ممكنًا رجوعه لجامعته، ولا فرصة لديه إلّا العودة لمستشفاه بعقد جديد وراتب أقل. وكان من حكمة الله سبحانه أن تعلّق به أحد مرضاه من الأطفال، وكان ابننا محببًّا لكبير الوزارة التي يتبعها المستشفى، ومن هذا الطّفل الأثير، امتلك الطّبيب قصرًا فخمًا، وسيّارة فارهة، ومكانة الآمر النّاهي!
ووقفت على مكان عمل هيّأه قيادي مبتلى بالبذخ، وصرف الأموال دونما حساب، ثمّ ولأسباب إداريّة خرج منه هو وفريقه، وحلّ مكانهم فريق آخر، كان يعاني من ضيق في المساحة، وتقادم في التّجهيزات، وبعد في الموقع، فورث الفريق الثّاني مباهج المكان الجديد وتجهيزاته، وليس عليهم من إثم التّفريط والمصروفات الزّائدة شيء!
ونقل لي عن أستاذ جامعي أعير إلى شركة غذائية، ولم يشأ الله أن تستمر الشّركة رابحة، ومنيت بخسائر فادحة، بعد سنوات من الأرباح، ولم تقبل الجامعة عودة أستاذها طبقًا لنظام الإعارة، ثمّ استقطبه مدير جامعة متخصّصة مهمّة، فاضطر للقبول والرّحيل عن مدينته، وبعد فترة وجيزة، أصبح هذا الأستاذ مديرًا للجامعة بدلًا من صاحبه!
وممّا يروى أنّ كاتبًا ناشئًا كان يراسل مطبوعة دوريّة شهيرة، ذات أصداء في بقاع شتى، وتأثير معروف، فلم تنشر له، ولم تعتذر له، وبعد أقلّ من عقدين أضحى عضوًا في هيئة تحريرها، ثمّ رئيسًا لتحرير هذه المطبوعة، وكم من منعٍ جاءت بعده نعم وألف نعم!
ونحفظ قصصًا كثيرة عمّن تأخر عن طائرة، فركبه الهمّ؛ لكنّه سجد شكرًا حين سمع مصير الطّائرة وركابها، ومثلها حكايات عن رفقة تخلّف أحدهم عن المشاركة بسبب ضيق المكان، أو اختلاف المواعيد، فكان النّاجي الباقي.
والأمر ليس حكرًا على الأفراد فقط، بل يشمل المؤسسات والمجتمعات والدّول، فالجامع الأزهر أنشأه حاكم شيعي ثم غدا منارة سنيّة باسقة، ويحكى أنّ جامعة إسلاميّة، منحت أرضًا كبيرة، في مكان قصيّ؛ كي لا تجاور جامعات مدنيّة، فأصبحت الجامعة المبعدة في الواجهة، وهي أولّ ما تقع عليه عيون زوار المدينة!
وابتلي المجتمع الحضرمي والنّجدي بشظف العيش، فكانت هجراتهم، ورحلاتهم التّجارية، خيرًا في نشر الإسلام والسنّة، وغنموا من الأجور والمحامد ما عمر صحائفهم، وأضاء تاريخهم، وأفادوا البلاد التي حلّوا بها من تجارتهم، ودعوتهم، ولغتهم.
وكم من فضيلة طويت، فلم تنشر إلّا بلسان حسود معارض لها يملك إفكًا وقدرة ووسائل، وكم من وعي انتشر بسبب انتفاخ الباطل، وكثرة الهراء، وكم من حقوق استرجعت كاملة؛ بعد أن أظلمت الدّنيا بزوالها فترة من الزّمن، وكم من شعوب كانت خانعة، فأشعل فتيل الشّجاعة فيها جيش غاشم.
والمؤمن، يعرف من أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، ما يجعله رابط الجأش، واثق النّفس، رخيّ البال، فالذي قضى وقدر، سميع عليم، قريب رقيب، مجيب قادر، قوي قهار، غني حليم، وأمره بعد الكاف والنّون، لا يرد أحد فضله، ولا يمنع شيء خيره، وقد كتب على نفسه الرّحمة، وجعل مع كلّ عسر يسرين، والخير بيده، وكلّ الخير من ربّنا مأمول مرجو، وإنّه لكائن لمن تعبّد بحسن الظّن، وجميل الصّبر، وصادق العمل، ودوام الحركة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الاثنين 23 من شهرِ رجب الحرام عام 1439
09 من شهر أبريل عام 2018م
11 Comments
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الابن الفاضل حفظك الله ورعاك وبارك الله لك في قلمك وجزاك الله خيرا . وانت تكتب ما ينتفع به الناس من القراء واليوم الاخير من شهر رمضان الكريم . وابنتي تحضر للدكتوراه طالت المدة عليها كثيرا .ولقت مصاعب خارجة عن ارادتها . وانا اقرا مقالك عن القدر واليسر بعد العسر . تفاءلت بالمقال . الذي جاء بوقت انا بحاجة الى تذكير برحمة الله الواسعة . خفف المقال من حزني وقلقي على ابنتي . وعاجزة عن عمل اي شئ للتخفيف عن معاناتها الا دعائي لها بالنجاح والتوفيق داعية من الله ان ييسر امرها وامر جميع المسلمين انه السميع المجيب . سوف اقرا لها المقال ان شاء الله
يسر الله أمرها، وفتح لها وأعانها
جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد ووفقه الله لما يحبه ويرضاه . على هذا المقال القيم .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته جزاك الله خيرا لما تخطه يداك من مقالات مفيدة وهادفة جعلها الله في ميزانك وميزان حسناتك وحسنات والديك . ومنها هذه المقالة التي كانت سلوى وطمانينة لنفسي . العاجزة عن عمل اي شئ سوى الدعاء لقد من الله العلي القدير علي بنجاح ابنتي وحصولها على شهادتها بتوفيق من الله العلي القدير . وفقك الله لما يحبه ويرضاه . ووفق جميع القراء هم واولادهم . ويسر امورهم. انه هو السميع المجيب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
ماشاء الله
مبارك لكم ولكريمتكم
وبالتوفيق دوما.