سبع زيارات للتّاريخ (4)
ألبرت آينشتين
على كثرة من استطاع الأستاذ هيكل مقابلتهم من رموز العالم، إلّا أنّه لم يتمنّى تكرار زيارة مرّة أخرى غير زيارته لألبرت آينشتين، وربّما أنّ مكانة عالم الطّبيعيات، وصاحب نظرية النّسبيّة، هي التي ألهمت هيكل لوضع هذه الزّيارة في وسط الكتاب؛ فجاء ترتيبها الرّابع بين سبعة.
عنوان زيارة ألبرت آينشتين الذي اختاره هيكل هو: النّسبيّة، القنبلة، وإسرائيل، ويعترف الكاتب بأنّه لم يستوعب آينشتين إلّا بعد مقابلته فعليًا في 12 من ديسمبر عام 1952م، ولم يكن اللقاء في حسبان هيكل، وإنّما طرأ مصادفة خلال عشاء في نيويورك ضمّ أشياخ السّياسة المصرية مع بعض شبابها.
وحين علم د. محمود عزمي أنّ هيكل سيقضي نهاية الأسبوع في جامعة برنستون، تعجّب من إغفاله زيارة آينشتين، وهو أعظم الأحياء حينذاك! فتشجع هيكل وطلب من وزارة الخارجيّة الأمريكية ترتيب موعد مع آينشتين، فوافق الأخير بشرطين، الأول: أن تكون خلال ممارسته رياضة المشي، والثّاني: ألاّ تتجاوز نصف ساعة!
وفي مطعم جامعة برنستون، التقى هيكل بالكاتب المصري لويس عوض، الذي أبدى سروره بالمقابلة المرتقبة؛ على اعتبار أنَّ أحد طرفيها هو الخالد الأكبر من أهل زماننا. وحين طرق هيكل باب البروفيسور آينشتين، فتحت شقيقته وأخبرته أنّه جاهز للقاء.
ولاحظ هيكل بأنَّ جدران الصّالة كلّها كتب، ومعظم الكتب باللغة الألمانيّة، وهي اللغة التي ظل آينشتين يفضِّل طوال حياته الحديث والكتابة بها، والشّيء بالشّيء يذكر، فقد كانت الألمانيّة لغة الفكر والفلسفة، والفرنسيّة لغة السّياسة والأدب، ولم تتجاوزهما الإنجليزيّة إلّا قبل مئة عام، والله يعيد للعربيّة قوتها، وعالميتها.
ومن اللافت أنّ جامعة برنستون بعثت لعالمها ملفًا عن هيكل بمجرد ترتيب الزّيارة، وبعد قراءته عرف قرب هذا الصّحفي من ضبّاط الانقلاب خاصّة عبد النّاصر، وكان أول سؤال واجه آينشتين به هيكل عن اليهود، فهم أهله كما يقول، وسؤاله عنهم من دافع إنساني كما يزعم، وعجب هيكل من أنّه صار المسؤول لا السّائل، وتعجبه من موضوع السّؤال أكبر!
وينتقد آينشتين عنف اليهود وقادتهم، ويرى أنَّ النَّصائح لا تنفع معهم، وأنّ الوطنيّة الضّيقة التي يعانون منها، نجم عنها اختناق المكان، ونزعات عدوانيّة عنيفة، وإفساد روح الشّعب، وإثارة مشكلات متلاحقة، وبالجملة فليت بعض البارزين من أمتنا يحدبون عليها حدب الرَّجل على قومه، وليت المفتونين من “مثقفينا” يرون عنف يهود كما يراه اليهودي آينشتين!
ويقول آينشتين إنَّ تصادم أسس أيّ فكرة مع عملية تجسيدها، يدّل على خلل في مكان ما، وقد يكون الخلل عضويّا في الفكرة، أو ضمن إجراءات التّطبيق. ومن الطّريف اعتراض آينشتين على طريقة هيكل التي يراها كالاستجواب؛ لأنّ الاستجواب يحيط الحديث بأسلاك شائكة.
ولا يجلس المرء على مكتبه وفي نيته اكتشاف نظريّة حسبما يذكر آينشتين، وإنّما تجيء مع سياق البحث، والخيال الطّلق، والتّفكير العميق، والإرادة الإنسانيّة، وقرأت في كتاب آخر أنَّ آينشتين يقترح لتنمية ذكاء الأطفال، قراءة حكايات خياليّة لهم باستمرار، ولا غرو؛ فكلُّ منجز نراه ماثلًا كان فيما مضى خيالًا.
وليست هناك قضيّة تتعلق بالإنسان يطاوعه قلبه لتركها في يد جنرال! ويتحّسر على أنّ الحرب تفقد المجتمعات إنسانيتها، ويرجع مشكلة البشريّة إلى أنَّ قوة الإنسان سبقت يقظة ضميره، ونمت عضلاته أكثر من نمو تفكيره، وما أصعب العيش مع نشيط بلا عقل.
ويرى بأنَّ الإنسان صنع فكرة الدّولة، ثم أسلم نفسه لها، وغلب عليه مفهوم الالتزام، بينما ضمر لديه معنى المسؤوليّة، حتى باع العلم نفسه لصالح الحرب، وأرخص الأدب نفسه لحساب السّياسة، وحصر الفكر نفسه في قيود الوطنيّة الضّيقة، وربّما زاد سعر الإنسان دون زيادة في قيمته.
وكان لآينشتين موقف من القنبلة، وهو يرى أنّ خطرها كبير، وسرّها لن يظلّ حكرًا على بلد، وأنَّ وقف العمل بها أولى بعد استسلام الدّول، ويبدي خوفه على أمريكا من هستيريا القوة؛ ولذلك طلبت منه الإدارة الأمريكية أن يقلّل من تصريحاته!
ومن أجمل ما في لقاء هيكل مع آينشتين الذي تجاوز السّاعة، أنَّ الأخير قال كلمة رائعة لمن يحب التّفكير، ولمن يعشق المشي، حيث ذكر بأنّه لم تخطر له فكرة ذات قيمة وهو جالس على مكتبه، وأنَّ أهم ما خطر له من أفكار عرضت له وهو يمشي بين الشّجر! وقرأت أخيرًا مقالة للرّئيس التّونسي السّابق المنصف المرزوقي عنوانها: فضل القدمين على الدِّماغ!
إنَّ الحديث مع الشّخصيات الملهمة، وأصحاب التّفكير المنطلق، ليزيد من لياقة الذهن، ويفتح مساماته، ويبهج الخاطر، في زمن صار كلُّ شيء فيه ملغومًا، وأضحى صفاء القول، ونقاء الفكر، وصراحة التّعبير عيبًا وربّما جريمة تقود إلى قعر من الأرض مظلمةٍ؛ وبالله نستجير!
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرّياض
ahmalassaf@
الإثنين 24 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1439
12 من شهر مارس عام 2018م
2 Comments
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه. ووفقك الله لما يحبه ويرضاه . مقالا قيما . يستحق القراءة والاستفادة . مما جاء فيه .