سير وأعلام مواسم ومجتمع

إشارات سعودية من خطبة عرفة

أزيد من مئة عام مضت على ارتقاء منبر عرفة من قبل علماء المملكة العربية السعودية ابتداء من حج سنة 1343= يونيو سنة 1925م، حين أشار الملك عبدالعزيز-رحمه الله الله- للشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ -رحمه الله- كي يلقي الخطبة، وهذه أول إشارة سعودية ترتبط بموضوعنا. وفي هذه المدة التي تجاوزت قرنًا من الزمان رصدت عدة إشارات سعودية يمكن التقاطها بوضوح من الخطبة والخطباء الذي صعدوا فوق منبر مسجد نمرة، وخطبوا في ملايين المسلمين أمامهم، ونقلت خطبهم إلى آخرين في الآفاق ممن يرتقبون الفرصة، ويدفعهم الشوق تلو الشوق لموافاة الموسم الميمون، والله يحقق لهم هذه الأمنية ويتقبلها منهم.

من أبرز تلكم الإشارات ذلك الحضور الكبير الواضح لعقيدة الإسلام كما نزلت في القرآن الكريم، ووردت في السنة النبيوية، واضحة جلية بلا رموز ولا تعقيد ولا طلاسم، وعلى رأسها ترسيخ التوحيد والإيمان حتى أن الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- كان يعلن إعجابه بهذه المعاني التي تتكرر في خطبة عرفة التي ألقاها مرارًا الشيخ المفتي عبدالعزيز آل الشيخ -أمتع الله به-. إنها عقيدة المسلمين الواردة في القرآن والسنة، وهما المحجة التي تركنا عليها النبي الأكرم -عليه الصلاة والسلام- فلا يزيغ عنها إلّا هالك، وما أحرانا بالعودة إلى مصادرنا الصافية مباشرة.

ومن الإشارات أن الخطباء يذكرون مع الحكم من النسك أحكام الحج، مع التركيز على الأركان والواجبات دون الدخول في تفاصيل فقهية، أو ذكر خلافات وترجيحات، تاركين للحجاج حرية الاستفتاء، وإتباع ما يعتقدون أن الذمة تبرأ به، وهذا لعمركم من الحكمة والسماحة وحسن النظر، شريطة ألّا يرجف بفئام شطط فيخالفوا في موعد لا مجال للخلاف فيه، فيوم عرفة واحد لا يتكرر، ومثله عيد الأضحى، وبقية أيام الحج.

كما استبان للمنصف من المستمعين، أن الخطباء ممن آتاهم الله العلم بالوحيين الشريفين، والفهم في الفقه والسلوك، والبصيرة باحوال المسلمين والعالم. ومما يتبين أيضًا ذلكم المستوى الرفيع من الفصاحة والبيان، والالتزام الكبير بعلوم العربية نخوًا وصرفًا، فما أبشع من خطأ تطير به الألسن الآفاق، ويفرح به العذال. ويضاف لهذه الإشارات جمال الأداء الخطابي، حتى لو اختلفت المستويات فيه، فطبيعة البشر تقتضي أن التساوي بينهم مطلب صعب للغاية.

كذلك يظهر الاهتمام اللافت بالخطبة والمنبر، فجميع الخطباء من كبار علماء البلاد، ومن أصحاب المناصب الدينية الرفيعة في الإفتاء والقضاء والتدريس والإمامة بالحرمين الشريفين ورئاسة المجامع العلمية، حتى أصبحت الخطبة أحد سبل التعريف بعلماء المملكة، وربط الناس بهم أينما كانوا. ومن هذا الباب أن بعض الخطباء كانوا وزراء في الحكومة، أو مستشارين في الديوان الملكي، أو أعضاء في هيئة كبار العلماء، وهي إشارة تدل على المكانة الرفيعة للخطبة والمنبر والموسم والضيف الآتين من كل فج عميق.

ومن فرائد خطباء عرفة في العصر السعودي وخطبتها، أن الشيخ المفتي عبدالعزيز آل الشيخ خطب في عرفة منذ موسم حج عام 1402 حتى موسم حج عام 1436، ولا أظن – من غير بحث- أن أحدًا ممن سبقه ينافسه في هذه الخصيصة. ومنها أن الشيخ عبدالله بن منيع -عافاه الله وأمتع به- أرتقى المنبر الشريف عام (1441) وقد تجاوز التسعين من العمر، ومن المؤكد أنه من أكبر خطباء عرفة سنًا عبر التاريخ.

وقد لا يخفى على النبيه أن الخطبة تخبر عن الجهود السعودية في إعمار الحرمين والمشاعر وتوسعتهما، وتاريخ بناء مسجد نمرة وتوسعته يفصح عن شيء من ذلك. ومما يظهر بلا مواربة تلكم الخدمات المتطورة لنقل الخطبة صوتًا، ثم نقلها صوتًا وصورة، وبعدهما البث الحي بالصوت والصورة مع تعليقات المذيعين، وصولًا إلى البث عبر شبكات الاتصال والتواصل، والترجمة الفورية، ومواكبة أي جديد في التقنية والذكاء الاصطناعي لخدمة الفريضة والمشاعر والحرمين، وهذه كلها مما يحسب للبلاد في هذه المناسبة الجليل قدرها، الجدير تقديرها.

ومن أجلّ الإشارات وأزكى الدلائل، أن تسمية الخطيب شأن تصدر به موافقة ملكية، وقد صدرت اليوم موافقة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله وأمتع به- على أن يتولى معالي الشيخ أ.د.صالح بن حميد -وفقه الله وسدده- خطبة عرفة هذا العام؛ ليصبح الخطيب السادس عشر في العهد السعودي، والخطيب العاشر في عصر الملك سلمان، والله يجعلنا ممن حضر واستمع ونال الأجر والمثوبة.

والشيخ صالح كما يعلم أكثر القراء ذو مكانة علمية وعمليه، وتاريخه العلمي والوظيفي يبرهن على ذلك، فهو إمام المسجد الحرام وخطيبه، وأستاذ جامعي وعميد لكلية شرعية، وعضو في هيئة كبار العلماء، ورئيس للمجلس الأعلى للقضاء، ورئيس لمجلس الشورى، ورئيس لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، ورئيس لمجمع الفقه الإسلامي، وبذلك يصبح سابع خطيب من أئمة الحرمين، وتاسع خطيب من هيئة كبار العلماء، وثامن خطيب يحمل شهادة عليا، وثالث خطيب ترأس المجلس الأعلى للقضاء، وثاني خطيب تولى رئاسة شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي. وللشيخ مؤلفات كثيرة؛ بعضها خاص بأئمة الحرمين المكي والمدني ومؤذنيهما حتى سنة طباعة الموسوعتين.

أسأل المولى لمعالي الشيخ أ.د.صالح بن حميد التوفيق والتسديد، وأن يلهمه الخير والنفع، فخطبة عرفة خطبة موسمية مشهودة مسموعة متابعة خالدة، وللشيخ تاريخ من الخطب العظيمة في العيدين وغيرهما. وعسى أن تنشط مؤسسة حكومية معنية، لحفظ تاريخ خطبة عرفة، وخطبائها، فهي مادة تاريخية، وعلمية، وإدارية، وتوثيقها مهم كي تكون مرجعًا مأمونًا للدارسين، ومعينًا للباحثين.

ahmalassaf@

الرياض- الأحد 27 من شهرِ ذي القعدة عام 1446

25 من شهر مايو عام 2025م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. بارك الله فيك أخي الدكتور أحمد العساف ، أفدتنا بعلومات قيمة عن خطبة وخطباء يوم عرفة . نتمنى لشيخنا وحبيبنا صالح بن حميد التوفيق والسداد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)