الإحصاء على جماله وفائدته؛ إلّا أنه وحده لا يكفي، بل ربما كان إلى الخديعة والتضليل أقرب في بعض الأحوال، والحل ليس في الاستغناء عنه أو هجره، وإنما بإتباع أي عملية إحصاء مباشرة بأخت لها تختص بالتحليل الدقيق والدراسة الصريحة بعد الاستقصاء والجمع. هذا المسلك العلمي النافع هو عين ما صنعه كتاب حديث الصدور عنوانه: حالة التشريعات في المملكة العربية السعودية: دراسة في الموضوعات والإنتاج والمنهج، أعدها المستشار القانوني صالح بن مسلي الذيابي.
صدر هذا الكتاب عن الجمعية العلمية القضائية السعودية “قضاء” ضمن الدراسات القضائية (86) عام (1446=2025م)، وهو واحد من سلسلة مؤلفات وندوات ومحاضرات تشكر عليها الجمعية النشيطة النافعة المواكبة. يقع الكتاب في (167) صفحة مكونة من مقدمة الجمعية فالمستخلص ثم مقدمة حول القانون والسلوك (التحول من التنظيم إلى التحفيز). عقب ذلك تأتي الفصول الستة عن إطار الدراسة، وحالة الوثائق القانونية في المملكة، فالتشريعات السعودية، ثم أدوات الإصدار الأربع، وبعدها إصدار الأنظمة واللوائح والقرارات التنظيمية، وأخيرًا النتائج والتوصيات، ثم فهرس للرسوم البيانية وعددها (12) رسمًا، وفهرس للجداول وعددها (23) جدولًا، وفهرس المراجع التي بلغت (14) مرجعًا.
يرصد هذا البحث بالإحصاء الذي يعقبه التفسير والاقتراح تطور البيئة التشريعية، ونمو الوثائق القانونية في المملكة منذ عام 1931م حتى عام 2023م، ويقسم هذه المدة إلى مراحل تاريخية يتضح منها أن السنوات الثمان الأخيرة قد تجاوزت في إنتاجها التشريعي بعدة أضعاف ما صدر في ثمانية عقود سابقة لها، وهذا يعود بعد فضل الله إلى ضرورة التوافق مع رؤية المملكة (2030)، والتركيز على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية فيها، وهو ما ظهر جليًا في التشريعات التجارية والاستثمارية والتقنية، وفيما يخص السياحة وجودة الحياة والترفيه، والعمل المجتمعي وغير الربحي، والنقل والطاقة والعقار والإسكان.
وقد أطلق الباحث الموفق المستشار الذيابي أوصافًا كاشفة على هذه المراحل؛ فأولها ساد فيه الحذر التشريعي، ثم بدأ النمو اللافت عقب إصدار الأنظمة الأساسية الثلاثة، لكنه ازدهر بعد اعتماد رؤية المملكة (2030)، وهذه الأوصاف الحقيقية مفهومة ومتسقة مع بداية نشوء الدولة الحديثة، ثم وضوح المعالم بالأنظمة الأساسية، وصولًا إلى الازدهار التشريعي بالتحول التاريخي عام (2016م) نحو التقنين المكثف لموضوعات بعضها استعصى على الحراك أزمنة متطاولة، وبأعداد لافتة جدًا قياسًا لما مضى من عقود وسنوات.
كما تنوعت الأعمال التشريعية بتوازن بين إصدار نظام جديد، أو تعديل نظام قائم، ومثله في التشريعات الفرعية من لوائح وتنظيمات وقرارات وقواعد وتعليمات. هذا التنوع المتوازن يشير إلى أمرين مهمين في العمل التشريعي، أولهاما ضرورة الاستقرار التشريعي وحفظ المراكز القانونية، والثاني حتمية التفاعل مع المستجدات بإحداث مفقود أو مراجعة موجود، ولهذا التوازن أهمية واقعية دعت بعض الدول إلى إصدار دليل يخصه، وهو ما تمنى المؤلف في توصياته أن يوجد مع التركيز على بعض المتطلبات قبل إصدار التشريع أو تجديده، وبعد سريانه؛ كي تكون المسوغات القبلية يقينية، والآثار البعدية مرصودة، وقمين بالأجهزة المعنية أن تولي تلكم التوصيات أهمية وتلتفت إليها؛ وهو المتوقع.
كذلك شمل التنوع مصدر هذه التشريعات الذي يختلف باختلاف نوع التشريع، وإن كانت الهيمنة ظاهرة لمجلس الوزراء وذراعه القانوني هيئة الخبراء. ومن التنوع اختلاف الأدوات التي صدرت بموجبها هذه التشريعات، وهي الأدوات التي استقر حقلها الدلالي خاصة بعد تكوين مجلس الوزراء عام (1373=1953م)، وصدور أنظمته المتعاقبة فيما بعد، فكان من الطبيعي تراجع نسبة التشريعات الصادرة بأمر ملكي قياسًا لتلك الصادرة بمرسوم ملكي أو قرار من مجلس الوزراء. ومن التنوع وهو ما يحتاج إلى دراسة أخرى التفريق بين الأعمال التشريعية والإدارية، وهي مسألة علمية لها تداخل تطبيقي متشابك جدير بالنظر.
ثم أضاف المستشار صالح الذيابي (41) نتيجة علمية لدراسته، وأتبعها بست توصيات مهمة، تتلخص في تضمين الإطار الوطني لإعداد التشريعات قواعد تفصيلية تساعد على فهم تدرج القواعد القانونية والالتزام بها، وتحديد مفهوم التفويض والإحالة التشريعية، وتسهيل إجراءات الوصول للتشريعات وإلحاق الوثائق ببعضها تحقيقًا للانسجام التشريعي، وهذا مطلب يعين عليه الالتزام بالنشر الرسمي لكل عمل تشريعي بعد اعتماده دون تأخير.
ومنها تعزيز قدرات الأجهزة التشريعية على قياس الأثر السابق واللاحق للتشريعات؛ لضمان التحسين وتفادي أي آثار غير مرغوبة، ودراسة حدود المجال التشريعي للسلطة التنفيذية لجعلها في نسب منسجمة مع عملها التشريعي الاستثنائي، وأخيرًا تعزيز ممارسات التخطيط التشريعي عند الأجهزة التي تقترح التشريعات، وهذا الاستشراف استباقي للمستقبل، وفيه تهيئة العموم للتغيير.
ومع الجهد الواضح للمؤلف، وما صادفه من عناء في الجمع والفرز، وتحرزه المنهجي من أي إطلاق عام، إلّا أنه يلاحظ بأن السنوات الأولى لمجلس الشورى القديم ليست داخلة ضمن هذا البحث، مع أن الملك عبدالعزيز-رحمه الله- ابتدأ المسيرة القانونية بعد ضم الحجاز مباشرة، وكثير من معلوماتها متوافرة في بعض المراجع، وهي جزء من التاريخ التشريعي المهم حتى لو كانت سنواتها قليلة، وأعمالها محدودة. كذلك لم يشر المؤلف إلى مجلس الوكلاء الذي اشترك مع مجلس الشورى لمدة عقدين في إصدار الأنظمة أو بعضها، وكان نواة تمهيدية لمجلس الوزراء، ولم يذكر نظام هيئة البيعة مع الأنظمة الأساسية الخمسة.
لقد كان عملًا شاقًا مضنيًا في الجمع والتصنيف، ومحاولة الفرز والتقسيم، وحقيق بنا بعد شكر باحثنا على عمله، أن نطمع بالمزيد من جمعية قضاء ومن غيرها، وأن نأمل بتعاون الأجهزة الرسمية التي تحتفظ بالوثائق والمحاضر وغيرها، فهذا جزء مهم من تاريخ الأنظمة والتشريع في المملكة، وهو مما يعزز التصور والفهم، ويعين على المضاء خاصة مع الازدهار التشريعي المتنامي حتى في ذروة أزمة كورونا عام (2020م) مثلما ورد في هذه الدراسة المتوافرة إلكترونيًا، وهذه الإشارة فرصة مع الختام لدعوة القارئ للنظر في الكتاب والإفادة من محتواه معلومة وتحليلًا.
الرياض- الاثنين 14 من شهر ذي القعدة عام 1446
12 من شهر مايو عام 2025م