أي عمل متخصص يضمن لنفسه أحد أسباب التأثير والخلود؛ ذلك أن العمومية سبب من أسباب التلاشي أو الانزواء على الأغلب. أحد البراهين على هذا الرأي أن الصحافة الورقية قد سوّد بياض صفحاتها، وأريق الكثير من المداد على أوراقها، فما يستحق البقاء منه اليوم من المواد إلّا ما احتوى على دواعي الاستمرار ومنها التخصص، وأما غيره فكان كلامًا ثمّ هوى وربما غدا ركامًا بلا جدوى، أو أعمدة صارت قاعًا صفصفًا؛ وهذا المصير يؤكد على أن نظريات الانتخاب والبقاء للأصلح والأجود ليست محصورة في نطاق الإنسان والعملة فقط.
أقول ذلك وبين يدي كتاب عنوانه: “في مكتباتهم.. 44 يتحدثون”، للدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن التركي العمرو. صدرت الطبعة الأولى منه عام (1445)، ويقع في (486) صفحة، والإهداء كالعادة التي تأسرني كثيرًا كثيرًا؛ إذ يهدي أبو يزن كتبه لوالديه، ولا يحيد عن ذلك البتة، ولا قطع الله له في الخير عادة؛ ذلك أن إجلال الأبوين، والاعتراف بفضلهما، وترك التقدم عليهما، بر، ومروءة، وعراقة، وعبادة.
ابتدأ الكتاب بتقديم كتبته د.خيرية إبراهيم السقاف، فجعلت عنوانه “المحاور البارع”، وقالت في تقديمها كلمة تختصر المحتوى: “نجد هنا مفاتيح السير الذاتية لعدد بارز من شخصيات الوطن الثقافية التي انتقاها بموضوعية”، وأشارت د.خيرية بنت إبراهيم السقاف بلفتة ذكية إلى كتاب المؤلف الآخر بعنوان “واجهة ومواجهة” الذي يقع في جزءين، وهو حوارات قديمة مع عدد من رجال الدولة؛ وكأنها تشير إلى مكونين مهمين في حياة المؤلف هما: الثقافة والإدارة.
يحتوي كتابنا هذا على أربعة وأربعين حوارًا مع علماء وأساتذة وكتّاب وشعراء ونقاد ومثقفين من السعودية، ومنهما اثنان عاشا في المملكة وهما من مصر وفلسطين. وقد رتبت هذه الحوارات بناء على الأسبقية التاريخية لإجراء اللقاء، وهذا المنهج يسدّ أبواب التأويل التي ابتلي بها أقوام ليس في قاموسهم “دعها تمر دعها تعبر”. وفي مستهل كل حوار صورة للشخصية المجيبة مع محاورها البارع، إضافة لسطور تبرز أهم ما في الحوار. وسوف يلاحظ القارئ أن المحاور يضيف أسئلة للاحق بناء على إجابات السابق، مانحًا عمله بهذه المتابعة حيوية تزيل التكرار الرتيب.
كما سيلاحظ القارئ أن هذه الحوارات تمت قبل أربعة عقود مع رموز وأشياخ كبار؛ بيد أن الطرف الآخر شاب في العشرينات من عمره -جعله الله مديدًا بالطاعات والسعادات-، وهذا هو عمله الصحفي الأول الذي حدّد مساره الصحفي، لكنه ولج إلى هذا العالم من أبهى أبوابه، فكان يحاور ضيوفه حوار العارف بمؤلفاتهم وآرائهم، المدرك للتاريخ الثقافي والحضاري القريب والبعيد لأمتنا، العارف بالمذاهب والأسماء والمدارس الفكرية، ولذلك جاء الحوار لا ليخبرنا عن سيرة ثقافية أو جزء منها، بل ليطلعنا بهدوء على حراك فكري ليس من صالح الفكر، ولا من صالح المجتمع، إذا ركد أو سكن.
ومما يتبين في هذا الكتاب أنه شمل مناطق المملكة كافة، ولم يقتصر على مهنة أو اهتمام ثقافي أو مدرسة فكرية، وكذلك سيلمح القارئ ويلاحظ أثر التكوين الشرعي واللغوي والتاريخي الكبير سواء في الضيوف على تباينهم، أو في المحاور الذي درج نحو العلم والثقافة بين يدي والده المثقف القارئ -رحمه الله- ثمّ أكمل مسيرته في معاهد عديدة وعدنا يومًا بأن يوقفنا على أخبارها وإنا لمنتظرون بلهفة. ومن لوازم هذه الملاحظة الإشارة إلى تلك الوحدة وذلكم الترابط الذي تنعم به المكتبة العربية والإسلامية؛ فلا انفصال بين علومه ومعارفه حتى وإن ظن الناظر أنها متباعدة.
وهذا الملحظ الفخم -لعمركم- يطيح بدعوات التزهيد بهذه الأصول الكريمة العالية، وينبه الشباب والشابات إلى ضرورة التشبث بالأصول والأركان، وأهمية فهمهما، والتضلّع الرشيد منها، والرجوع الدائم إليها، قبل الانطلاق إلى غيرها أو التوسع فيها وبعده، هذا غير أن الارتباط بهذه الأمهات والكتب العميق محتواها، المتين سبكها، المأمون نهجها، سيحمي الأجيال من الغثاء والتفاهة في الذهن والقلب واللسان، وهذه يدٌ مرجوة لهذا الكتاب وأمثاله.
إن هذا الكتاب يضيف ثقافة حسنة للقارئ، ويعطيه مفتاحًا رفيقًا للحوار والسؤال، ويطلعه على شيء من التاريخ الثقافي والفكري المحلي والعربي، ويدله على بعض رموز العلم والتأليف والصحافة والشعر والكتابة والنقد في بلادنا وغيرها. وأيضًا سيغنم القارئ حصيلة ممتازة من الكتب في حقول مختلفة، وسوف يستمتع ببعض القصص والطرائف، وربما أن نفسه لن تنكسر لو قرأ شيئًا فما فهمه، أو كتب عملًا أدبيًا لم يجد من ينشره، أو ابتلي بناشر خادع، أو كتاب لا غناء فيه ولا رواء، فقد سبقه أقوام هم اليوم من سادات الثقافة.
كذلك سيثبت كتاب د.إبراهيم وما فيه من حوارات أن بلادنا مليئة بالعلماء وحملة الفكر والقلم الذين يستحقون أن يعرّف بهم، وأن يكونوا مزارًا لمن يجول في أنحاء المملكة من سياح وزوار. وليت أن أولئك المثقفين ومن في عيارهم، يكون لهم جلسات أسبوعية ثابتة مفتوحة غير متكلّفة إن في منازلهم أو في غيرها؛ ذلك أن هذه المجالس والديوانيات ذات محامد لا تخفى، ومحاسن لا تغيب، ومآثرها الجليلة تظهر وإن رويدًا رويدًا. ولا يمكن في هذه الكتابة المختصرة نسيان شكر صحيفة الجزيرة، ورئيس تحريرها الأستاذ خالد المالك، وأيضًا الجمعية الخيرية الصالحية بعنيزة، وأسرة مؤلفنا التي أعانته ولم ترهقه.
ومما يحدثنا به هذا الكتاب قيمة المكتبة المنزلية، وضرورة وجودها ولو كانت غير كبيرة، وحتى لو نافسها الكتاب الرقمي والإلكتروني، أو زاحمتها الوسائل المرئية والصوتية الجاذبة دون مزيد فائدة في قسم منها. وإن أغفل عن شيء فلن أغفل عن مآل مخيف صارت إليه مكتبات منزلية كثيرة، حتى غدت إلى الغرم أقرب منها إلى الغرم مثلما أشار المؤلف، وحتى مع نشوء جمعية فريدة للعناية بالمكتبات المنزلية؛ إلّا أن المسؤولية تقع على ملاك المكتبات وورثتهم وأسرهم؛ فاللهم احفظ لنا المكتبات والكتب، واحفظ لنا من يطربنا بالحديث أو الكتابة عنها، وعسى أن يكون لي مع هذا الكتاب مقال آخر في قابل الأيام، ولعل القارئ أن يكون قد طالع الكتاب وامتاح من فوائده قبل ذلك.
الرياض- ليلة الأحد 06 من شهر ذي القعدة عام 1446
04 من شهر مايو عام 2025م
2 Comments
الأديب إبراهيم التركي .. ظاهرة تستحق الدراسة.. بل هو دراسة تتفرع منها دراسات بحثية جديرة بالاهتمام وتسليط الضؤ عليها.. أكاد أجزم أنه كما قيل هو “الكاتب الذي لا مَطمعَ له في الشهرة يعامل الكتابة على أنها علاجٌ روحي.. وحاجةٌ ماسّة للعيش الطيب المطمئن، فهو يستقطِر سحائبَها ليبُلّ صَداه، ولا يسعى إلى غايةٍ وراء ذلك.. وأزعم أن من كان كذلك كان أقرب إلى روح الإبداع وإلى الصدق الذي هو وقود البوح والتأثير.. بخلاف الكاتب الباحث عن الشهرة فهو غالباً يتكلف ما لا يحس به، ويتناول من المعاني ما لا يُماسُّه..”
هو الكاتب والأديب، والشاعر، تجد روحه وبصمته الخاصة في كتاباته، تتلمس ذوقه وجمال حروفه، ووفرة مخزونه اللغوي وحلاوة عباراته؛ وتناسق تراكيبه، ينطبق عليه قولا جميل واقتباسا أجمل (الكاتب الذي تقرأ له قراءةً عابرةً يبقى أثره ضئيلًا محدودًا .. أما الكاتب الذي تمعن النظر في نتاجه فإنه يتوغل في الأعماق فيؤثر على جهازك المفاهيمي ورؤيتك النقدية وأسلوبك الكتابي، ويترك بصمةً عميقة على تفكيرك وإن لم تشأ .. فتخيّرْ لعقلك!) والدكتور إبراهيم التركي هو الكاتب الذي يؤثر فيك شئت ام أبيت.
شكرا لكم والدكتور يستحق