سياسة واقتصاد

وزراء بلا أوزار!

وزراء بلا أوزار!

لا أعرف بالضبط كم وزيراً دخل إلى مجلس الوزراء، ومن المؤكد أن عددهم يتجاوز المئة، وقد يكون من الفرص في التأليف جميع سيرهم موجزة في كتاب؛ حتى يعرف الناس المعلومات الضرورية عن كل من دلف إلى المجلس وزيراً منذ أول انعقاد له بعد تكوينه عام 1373.

وتختلف مدد بقاء الوزراء في مناصبهم، والوزارات التي أداروها، والشهرة التي تحصّلوا عليها، وأما أسباب التعيين، ومسوغات الإقالة فكانت ولازالت موضع تكهنات وتحليلات، والشيء الأكيد أنه قبل يوم السبت منتصف شهر صفر عام 1439 الذي يوافق الرابع من نوفمبر عام 2017م، كانت أحلام الوزارة، وطيف اتصالات الدّيوان الملكي، تداعب خيالات البعض، جالبة معها السعادة والانشراح، وهي بحمل الهم أولى، لثقل الأمانة في الدنيا، وشدَّة السؤال في الآخرة.

وبعد النشاط الكبير في حملة محاربة “الفساد”، الذي لم يستثن أميراً ولا وزيراً، بدا لي الكتابة عن وزراء عُرفوا بالنّزاهة المالية والإدارية؛ بغض النظر عن رؤاهم وتوجهاتهم، وحاولت استرجاع بعض ما سمعته أو قرأته عن عدد منهم، ولا يعني هذا البتة اتهام الآخرين أو من شملتهم هذه الحملة، وإنما هذا مبلغ علمي دون تقصي، وضرب المثال يغني عن الإطالة.

ففي أوائل الثّمانينات الهجرية انضم إلى مجلس الوزراء خبير نفطي مفعم بالنّشاط، وحب الوطن، والنّظرة البعيدة، وتولى حقيبة وزارة النّفط ليكون أول وزير لها، ونال شهرة واسعة في بلاد العرب قبل أن يصبح وزيراً للنّفط في أكبر دولة في العالم تنتجه، وتختزن أراضيها كميات هائلة منها، زادها الله، وبارك فيها، وأطال عمرها، وصانها.

وحين أصبح الجيولوجي الشيخ عبد الله الطّريقي الرجل الأول في صناعة النّفط، حاولت شركات النّفط وبلدانها القوية إغراءه، وشراء رضاه وسكوته، بيد أنّ الرجل اختار تقديم مصلحة شعبه ووطنه وأمته، وظلّ محارباً في عالم النفط، حتى أسهم في تكوين منظمة المنتجين، وتعديل الأسعار، وكبح جماح الشّركات التي كانت تنهب أموال العرب نهباً مفرطاً بلا رحمة ولا مهنية.

وبعد خمسة عشر شهراً، ترجل الوزير الطريقي عن مقعده الوزاري، بعد أن ملأ قلوب الأعاجم غيظاً، وأحرج أصحاب المصالح والعمولات. وعمل بعد الوزارة معتمداً على خبراته واستشاراته، ولم يُعلم عنه امتلاك أرصدة، وشركات، أو سمسرة عقود وصفقات، ثم رحل عن الدنيا ليبقي لنا سيرته ناصعة في سجل النّزاهة والكفاح السلمي، وأظن أنّها لما تجد بعدُ من يكتبها بما يوفيها حقها من جميع الجوانب، مع وجود عدة كتب عنه مختصرة وطويلة.

وفي عشر التّسعينات الهجرية دخل إلى مجلس الوزراء في سنوات متفرقة ثلاثة رجال، وتفاوتت مدد بقائهم في المجلس، فأقلهم مدّة كان الشّيخ القانوني صالح الحصين، الذي آثر التّقاعد المبكر، وغادر الوزارة والعمل الحكومي، بيد أنه ظل عامل نفع في بقاع كثيرة، وبقي علامة فارقة في تاريخ المجلس وهيئة الخبراء، واشتهر عنه قوله: أنا لا أدخر، ولا استثمر، فاللهم اجعل في وزرائنا قبسًا منه في الثّانية؛ بحيث لا يستثمرون؛ لأنّ في تشابك التّجارة مع السياسة فساد عريض.

وممن أصبح وزيراً معمّراً الدّكتور عبد العزيز الخويطر، واستمر وزيراً من عام (1394) حتى توفي عام 1435، وتولى مسؤولية عدّة وزارات أصالة أو تكليفًا أو نيابة، وأطولها كانت في وزارة المعارف- التّعليم حالياً-، وسجل النّاس له مواقف غير مسبوقة، منها أنه دقيق جدًا في صرف موازنة وزارته، وهذا الصنيع فيه أمانة كبيرة، وقد يخفي داخله شيئاً من المآخذ الإدارية.

ومن قصصه أنه يكتب طلباً لوزير المالية، ثم يذهب في اليوم التالي إلى وزارة المالية لأنّه الوزير المكلف، ويجيب على طلب وزير المعارف بالرفض، فيتعجب من حوله لأنّ الخويطر يرفض طلباً كتبه الخويطر نفسه! فيعلّل لهم تصرفه بأنّه طلب وهو وزير معارف يرى منطقية الطّلب، ورفض وهو وزير مالية يجد ألاّ مناص من الرّفض، وحتى تستطيع المعارف إقناع المالية بحجتها، فتأتيها الموافقة من وزيرها الشيخ محمد أبا الخيل بعد عودته من إجازته، وللقصة تفسير أوسع في موضع آخر.

ومما رواه وزير الإعلام الأسبق الشّيخ د.محمد عبده يماني عن الوزير الخويطر، أنّه تكررت عليه رؤيا في المنام ملخصها أنّ ثعباناً يحاصر جزءاً من مكتبته، فقال له يماني: لابد من الاحتراس، فقد تكون رؤيا حقيقية، أي رؤيا قد جعلها الله حقاً، ويريد أن يحذرك من وجود هذا الثّعبان.

وحين صعد الخويطر إلى المكان المحدد في مكتبته، وجد فيه كتابين سبق أن استعارهما من مكتبة الجامعة، ونسي إرجاعهما، فأعادهما من فوره، وكم من ثعبان في بطون البعض، وجيوبهم، وأوراقهم، لكنّهم لم يروها، ولن يروها، ما لم تتداركهم رحمة الله؛ بصدق التوبة، وحسن النية.

وثالث وزراء التّسعينات هو الدّكتور غازي القصيبي، الذي امتلك شهرة أدبية وثقافية تنافس شهرته الإدارية، وتميز بأنّه دخل المجلس ثم أعفي، وبعد سنوات عاد إليه بقوة أكبر ونفوذ أعمق. ومع كثرة المشاريع في وزاراته، إلا أنّ مناوئيه قبل محبيه لم يجرؤ أحد منهم على غمز ذمته المالية، تلك الذّمة التي حذره والده من صعوبة الحفاظ عليها حين فضّل العمل الحكومي على التّجاري؛ لأنّ الموظف الحكومي قد لا يكفيه راتبه، والاختلاس طريق مطروق!

بيد أنّ القصيبي الابن اختار أن يكون موظفاً نظيف الجيب أبيض الرّصيد، واستمر على ذلك فيما أحسب، وكان معاونوه يتبارون في رفض العمولات والتّحرز عن المال العام، ولهم في ذلك روايات مشتهرة، ويا لفجيعة من ولغ في المال العام حين يقوم النّاس لرب العالمين.

وهذه الأمثلة الأربعة تتميز بأنّها لوزراء طواهم الموت بأكفانه، وهم من توجهات متباينة، وكفاءات متنوعة، ففيهم الخبير، والقانوني، والشيخ، والأكاديمي، والإداري، والمثقف، ثم إنّهم استوزروا في زمن المشاريع، وبداية الطّفرة وفيضان المال، وكان لديهم من الصّلاحيات ما يمكنهم من أي عمل؛ فضلاً عن ضعف الرّقابة الإدارية حينها.

وما أكمل أن يكون المنصب العالي، وصفة المعالي، مرتبطة بسمو النفس، ونزاهة اليد، فضلاً عن المعرفة والخبرة، فالمصالح العامة والكبرى لا يقوى عليها إلا القوي الأمين، الحفيظ العليم. وعسى أن تستمر مسيرة اجتثاث الفساد-كل فساد- دون استثناء أحد-كائناً من كان-، على أن يكون تعريف الفساد شاملاً وواضحاً، كي لا يضيع حق، أو يتأخر عمل، أو يعلو في البلد فاسد أو مفسد.

ونأمل أن تكون المناصب الكبيرة مقصورة على من يستحقها لأنّه يستحقها بجدارة القوة، وشهادة الأمانة، وليس لاعتبارات أخرى، وهذا هو المأمول الظاهرة بوادره؛ وحينها تتضافر الرّقابة الرسمية، والمراقبة الشّعبية، مع حسن الانتقاء، والوازع الدّاخلي، والبيئة المحفزة الصحية، لتغدو المشاريع والموازنات سليمة بقدر كبير من أي خلل، وأي خطل، ويا لها من وثبة واثقة ستنقلنا بأمان واستقرار ونماء للمستقبل المأمول.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 11 من شهرِ ربيع الأول عام 1439

29 من شهر نوفمبر عام 2017م

Please follow and like us:

4 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)