أفطرتُ ظهر هذا اليوم دون أن يجب عليّ القضاء، وسكرت بلا مأثمة ولا مذمة؛ بل كان سكرًا حلالًا والحمدلله، وقد كان ماكان وأنا أتجول داخل أدوار متعددة في مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية بالرياض، وأقابل طواقمه في إداراته المختلفة، انتهاء باللقاء مع أمينه العام أ.د.عبدالله الوشمي، وكل من صادفناه من الزملاء والزميلات يستحق الثناء بدءًا من المواقف، وعودة إليها من جديد.
انطلق المجمع متوافقًا مع رؤية المملكة 2030؛ ولذا كان منطلقه من ركن شديد، ومن فلسفة ترى القوة لا الضعف في كل ما لدينا ومنها اللغة، وتنظر إلى هذه اللغة من سعة الثقافة؛ فلا تحصرها في نطاق واحد فقط، وترتاد روضات أنف خصيبة، ولا تزاحم على ما تتكاثر في جنباته المجامع الأخرى القديمة السابقة على مجمعنا؛ بل تتركها لهم مع الدعاء لأعمالهم بالتوفيق، دون تثريب عليهم أو ملامة.
لقد التزم المجمع في فلسفته ومشروعاته ألّا يخضع لضغوط صيحات الخوف من ذبول اللغة، وألّا يستريح لمسلمات تفخيم اللغة باعتبارات عدة؛ فسعى مجمع الملك سلمان العالمي لاستثمار الفرص الجديدة أو التي لم يلتفت إليها أحد البتة أو بما يكفي، مع صرف النظر عن الأعمال المخدومة حتى لو كانت مهمة. فمن أعمال المجمع مثلًا الشروع في تأليف “معجم الرياض” وهو معجم حديث يتطور باستمرار. ولم يقف المجمع عند معجم واحد مع فرادته، بل أصدر معاجم تخصصية كثيرة تصل إلى العشرين عن القانون والحج والطرق وغيرها، وتشارك فيها مع مؤسسات حكومية، وإن الإفادة من هذه المعاجم المحكمة متاحة بمستويات وضوابط معينة بعد التواصل مع المجمع من قبل الدارسين والباحثين.
ومنها الدخول بقوة في عالم الأطفال لتحبيب اللغة إليهم عبر التعليم التفاعلي، والألعاب والتطبيقات، والمجسمات المعبرة عن اللغة حتى في حركاتها وعلامات ترقيمها، ولا أكتم القارئ أني وددت لو عدت طفلًا ساعتها، وسأضع بعد نهاية تجربتي الطفولية الكرة الصفراء في الوعاء الأول عن قناعة تامة! يضاف لذلك أن المجمع لم يغفل عن الكبار عمرًا وقدرًا؛ وقابل الأيام مليئة بما ينفعهم ويجذبهم من المجمع وطواقمه الباهرة، وغدًا لناظره قريب.
ثمّ سعى المجمع سعيًا حثيثًا منجزًا، أو مكيثًا مثمرًا، للحضور المنتج المؤثر حيث لا يتوقع أحد من أبعد الناس في الخيال وجود المجمع وأمثاله؛ ولذلك فقد يغيب المجمع عن بعض معارض الكتب، بيد أنه يحجز مكانًا بارزًا وركنًا ظاهرًا في معارض التقنية، والحوسبة، والذكاء الاصطناعي، والبيانات، فللمجمع في هذا الحقل الذي يتطور ويتحور بسرعة مذهلة متابعات ومنجزات وفرق لا تغمض لها عين، ولا تفتر منها همة، ولا يغيض ماء إبداعها الصافي النمير.
هذه المسألة تقودنا إلى الإشادة بجهود المجمع في هذا الباب عبر إدارات ومعامل وتطبيقات تستفيد من التقنية، والذكاء الاصطناعي، والروبوتات التي تنطق بالعربية المبينة، وإن لم يتسنَّ لنا الحديث مع الروبوت “ثريا” إذ توافق صيامها عن الكلام مع موعد الزيارة! وفي اسم “الثريا” إشارة ذكية إلى عمل عال باسق مضيء، يحلّق في الأفق الفسيح، ويتحرك في الفضاء الواسع، ويشع دون اكتفاء بغيره من النجوم؛ فيبهر الناظرين، ويدل الحائرين، ويمتع السمار.
ومما وفق له المجمع فأجاد، إنجاز اختبار معياري مرجعي للغة العربية، يشبه فكرة “التوفل” وغيره، وهذا الاختبار مطبق حاليًا، ومطلوب من قبل جامعات ومؤسسات كبرى خارج المنطقة العربية. كما افتتح المجمع برنامج “أبجد” لتعليم العربية “المجتمعية” لغير الناطقين بها، بعد فرز المتقدمين إلى هذا البرنامج، وتصنيفهم إلى مستويات، ويكفي أن نعلم أن بعض خريجي هذا البرنامج وفدوا إلى المملكة، ولم يفتق لسان الواحد منهم بحرف واحد من هجائية العربية من قبل، وبعد شهور تسعة من التدريب والتعليم ولد إنسان جديد بلسان عربي واضح، يمكنه من الظهور الواثق في قناة شهيرة مشاهدة، وفي برنامج حواري مهم؛ ليجمع من المجمع العربية إلى لغته الأم وما يجيده من لغات أخرى.
هذا البرنامج الذكي يستقطب أولئك الأذكياء، ويتكفل بهم في كل شيء، ويهيئ لهم زيارة مناطق المملكة، والمسلم منهم يعتمر ويحج، وغير المسلم تتحسن نظرته للبلاد وثقافتها، وهذا من القوة الناعمة التي هُجرت عقودًا متطاولة آنفة. ومن الجميل بناء برنامج آخر من قبل المجمع يستهدف “انغماس” القادمين في الثقافة السعودية، فيعرفون ثقافتنا عن قرب، ويدخلون بيوتنا، وينامون في البراري، ويأكلون الأطعمة، ويشاهدون الفنون والأزياء كافة، ويكتسبون اللغة المحكية بسبب هذا الانغماس، وهذه اللغة التي ظفروا بها جسر يربط المجتهد منهم بالعربية الفصحى.
وعند المجمع عناية بلهجات أربعين منطقة من مناطق المملكة، يحفظون بها المفردة لفظًا وصوتًا ومعنى، وهذا المشروع مخدوم بالحوسبة عبر معامل وقاعات درس وغيرها. كذلك لدى المجمع ست مجلات بعضها محكمة، والبعض الآخر في طريقها لأن تصبح محكمة. ولدى المجمع كتب رائقة فائقة، منها ما يختص بديوان أحد أعظم شعراء العربية وهو المتنبي، ودراسات وبحوث أخرى عن الكتابة الإدارية، والعربية في المنظمات، وغير ذلك من كتب متاحة إلكترونيًا بنسخ شرعية من قبل المجمع، وهذا جزء من فلسفة مجمعنا خلاصتها توسيع دائرة النشر، فليس بالضرورة أن يكون ورقيًا. وفي المجمع إدارة نشطة عاكفة على التخطيط اللغوي، وعلى البحوث والدراسات، وأخرى معتنية بالتسويق، ونجم عن هذه الممكنات حضور المؤتمرات بفعالية، وتنظيمها بإبهار، وإبرام الشراكات مع المؤسسات الحكومية بنجاح، ومع الكيانات الأخرى المهتمة باللغة العربية بعيدًا عن كدر التنافس.
كما اتخذ المجمع سياسة تكاملية تخادمية بين أعماله؛ فلكل منتج دراسات وأبحاث، وخبراء وعلماء، وتطبيقات ومواقع، وتسويق ونشر، ومراجعات وتطوير، وتدور هذه الأعمال الجليلة في فلك خدمة المجمع وأعماله وفكرته المنبثقة عن تعمق اللغة في بلادنا، في تاريخها، وإطارها البلداني، وسجلها الحضاري، واسمها السياسي المشير صراحة للانتماء العربي والهوية العربية، وفي رؤيتها الحديثة؛ ولذلك أصبح مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية مجمعًا عالميًا لا مجمعًا وطنيًا أو إقليميًا، وينظر إلى اللغة من منظار ثقافي واسع، مستفيدًا من القديم والحديث والمتوقع، ويخدم الثقافة، والسياحة، والدين، والاقتصاد، والسياسة، والتعليم.
قبل ذلك وبعده، أفاد المجمع من العناية المشتهرة عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله- باللغة العربية، والمتابعة المستمرة من ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان -أعانه الله- بهذه الخاصية المرتبطة بعراقة بلادنا، والمساندة الكبيرة من وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله فرحان آل سعود -وفقه الله- بالمجمع، وما بني على ذلكم التأييد الكبير من مجالس إدارة واستشارة فيها علماء وأساتيذ كبار، وفرق عمل نابضة بالحياة محبة للنتيجة، تؤمن بالمجمع ومشروعه، حتى صار مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية المجمع الأخير زمانه، لكنه المجمع الأول في ابتكاره وإتيانه بما لم يأت به الأوائل!
الرياض- الثلاثاء 11 من شهرِ رمضان عام 1446
11 من شهر مارس عام 2025م
مقالات مرتبطة: