سير وأعلام

محمد بن عبدالعزيز: أمير القوة والضبط!

الأمير محمد بن عبدالعزيز (1328-1409=1910-1988م) هو رابع أبناء الملك المؤسس، وواحد من ثمانية أبناء شاركوا في مسيرة توحيد البلاد مع والدهم الملك المؤسس -رحمهم الله جميعًا-. هؤلاء الشجعان الثمانية هم: الأمير تركي الأول، والملك سعود، والملك فيصل، والأمير محمد، والملك خالد، والأمير ناصر، والأمير سعد، والأمير منصور، -رحمهم الله جميعًا-، ومصدر هذه المعلومة هو حساب تاريخ آل سعود على منصة إكس، ومعلومات هذا الحساب دقيقة ومفيدة.

مما يلفت النظر، أن الملك المؤسس، أطلق اسم جده الرابع الإمام محمد بن سعود على نجله الرابع الأمير محمد، ولعبدالعزيز في تسمية أبنائه رمزية ذات دلالة، فقد اختار أسماء أجداده الأربعة لتكون أسماء أول أربعة أبناء له. ليس هذا فقط؛ بل اختار الأسماء بما يتناسب مع الخط الزمني لاستعادة ملك آبائه وتوحيد مملكته، حتى مع دواعي التسمية على جدٍّ أو شقيق أو عم، فقد قرر عبدالعزيز أن يترك المنفى، ويستجلب السعود باسترداد الرياض، ثمّ كانت المعركة الفيصل في أرض القصيم، وأيقن بعدها أن أمره ومستقبله محمود، وتفاءل بأن سيرته سيُكتب لها الخلود، وأن شأنه كله مترافق مع النصر والسعد.

يُعدُّ الأمير محمد أول أمير تولى بقرار من والده المؤسس إمارة منطقة -فيما أعلم- حينما أسندت إليه إمارة المدينة النبوية عام (1344=1925م)؛ فكان أول فرد من الأسرة الملكية يصبح أميرًا على إحدى البلدتين المقدستين. وهو أول من تتازل عن ولاية العهد في الدولة السعودية الثالثة بعد أن رشحه لها الملك فيصل، وأول رئيس لمجلس العائلة الملكية، وهو مجلس أسري خاص بشؤون الأسرة، وبعيد عن الخوض في السياسة. ومن خبره أنه عديل لوالده، وجده الإمام عبدالرحمن الفيصل، وعمه، ومجموعة من إخوانه، الذي تزوجوا من كريمات الأمير أحمد السديري.

اشتهر محمد بالقوة والضبط، ومن استهان بالقوة سيجد شرًا ولا ريب، ومن حاول إرباك الضبط فسيرى شرًا ولا محالة، وربما ورث الأمير هذه القوة من طريق جديه اللذين يصلانه بجده الأكبر الإمام الفارس تركي بن عبدالله. وقد عُرف الأمير محمد بلقب “أبو شرين”، وإن من خُشي شره سترجى خيراته، هذا غير أن الألقاب شائعة داخل الأسر، وفي الأسرة الملكية ألقاب مثل: “راعي الأجرب، معزي، شقران، غزالان، خيال الرجليه، المطوع،…”، وروى حساب تاريخ آل سعود أن محمدًا في صغره ضرب أخًا له؛ فوبخه والده وقال له: في عيونك شر!، فأجاب الابن: بل شرين! والحقيقة أن صور الأمير في شتى مراحله العمرية تخبرنا أن عينيه لسانان ناطقان، وهذا الوصف سبق أن نعت به الإمام الذهبي الخليفة أبا جعفر المنصور -رحم الله الجميع-.

 مما أذكره أن رجلًا مسنًا حضر لمجلس الوالد -رحمهما الله- فقال على مسمع مني وكنت حينها في الابتدائية: سجن ولدي بسبب خطأ ارتكبه في عمله العسكري، فسافرت للأمير محمد، وقابلته طالبًا شفاعته، وحينها سألني: هل على ابنك حكم شرعي أو حقٌّ لأحد من الناس؟! فأجبت بالنفي، وحينها قال لي: إن كان ما تقوله حقًا فارجع إلى بلدتك، وستجده أمامك، وهو ماكان بالضبط! وللأمير وقائع في الشفاعة، وفكاك العاني، وتخليص ذوي الهيئات من ورطاتهم.

كذلك سمعت عن أحد المهندسين العاملين في وزارة الأشغال العامة، أنه أحيلت له معاملة لصيانة قصر الأمير محمد، وطلب منه الذهاب للقصر، والاستماع من الأمير لما يريد، حتى تكتمل الإجراءات حسب النظام. ذهب المهندس الشاب عدة مرات، ولم يتمكن من لقاء الأمير، وفي زيارة ثالثة أو رابعة، جلس منتظرًا، ثمّ أتى إليه رجل وسأله ماذا تريد؟ فقال: أريد أن أسمع من “أبو شرين” طلباته بخصوص الصيانة حتى نجهز المواصفات وتنتهي الموافقات، فأخذه بيده، وأخبره عن جميع المطلوب، وربما أن المهندس تعجب من إحاطة الرجل بالمراد، فسأله: من أنت حتى أكتب اسمك في التقرير، وأنسب إليك هذه المعلومات؟ فقال له: أنا “أبو شرين”! فما كادت أقدام المهندس الشاب أن تحمله، حتى تبسم الأمير، وطمأنه، ونفحه بخمسين ألف ريال أعانته على زواجه، وهذا يدل على أن هذا اللقب شائع سائغ، وقد سمعت قصيدة ترحيبية في الملك خالد بالكويت، وأثنى الشاعر فيها على فزعة شقيقه محمد بلقبه.

أحبّ الأمير البَّر والقنص والشعر، وقرّب إليه الشعراء والندماء، وكانت له غيرة حميدة على تعاليم الدين، ورعاية ظاهرة لأعراف المجتمع وتقاليده، وله في هذا الباب آراء ومواقف. وقد شارك الأمير محمد في عهد والده وإخوانه بمهمات سياسية داخلية وخارجية، من أهمها توقيع ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو، والانضمام للوفد الملكي في رحلاته الخارجية القليلة إلى مصر، وحضور استقبالات الملوك للزائرين من الزعماء. وبالمقابل نال استقبالًا رفيعًا إذا رجع للبلاد، ورأيت الملك فهد وولي عهده الملك عبدالله، يستقبلانه في المطار، ويقبلان كتفه، ويحيطانه بالتجلة والتوقير -رحمهم الله جميعًا-.

ومن لطيف الموافقات أن مباني مؤسسة “تحلية المياه” في مدينتي الرياض وجدة تقع على طريقين يحملان اسم الأمير محمد بن عبدالعزيز وهو الاسم الرسمي لهما، ويقابله شعبيًا اسم “شارع التحلية”، وهي شوارع نابضة بالحركة والزحام. وقد ألف الأستاذ عبدالرحمن بن سليمان الرويشد كتابًا عنوانه: “محمد بن عبدالعزيز: أمير الأمراء وسليل الملوك: سيرته .. تاريخه .. حياته”، لكني لم اطلع عليه لندرته في المكتبات التجارية، ولضيق الوقت عن زيارة المكتبات العامة.

بيد أن أحد أهم الأحداث في سيرة الأمير محمد أنه تنازل عن ولاية العهد، والبعض يروي عنه تعليل ذلكم التنازل بأنه لا يصبر على متطلبات الحكم والمسؤولية المرهقة، أو بأنه يخشى من فرط شدته على مساعديه من أعوان ووزراء وغيرهم. والذي يبدو لي أنه حتى لو صحت هذه الروايات؛ فإن سبب التنازل يعود إلى حكمة أخرى دنيوية وأخروية، وهما الأساس، وما من شيء يمنع من وجود غيرهما، وأيًا كان فهو اجتهاده، وهو بنفسه أبصر.

أما الأخروية فهي التخفف من الحساب عن البلد كله وأهله، ويا له من سبب للكفاف والعفاف، بينما تنحصر الحكمة الدنيوية في إثبات أن التنازل يمكن أن يكون قرارًا اختياريًا صرفًا، وتستهدف به مصالح تتجاوز المتنازل إلى الفكرة الأساس والمشروع الكبير، وأن التنازل والابتعاد عن المنصب ابتعادًا نهائيًا لا يمنعان المرء من خدمة حكومته ومجتمعه وأسرته بإخلاص؛ وأصدق برهان أن الأمير محمد -رحمه الله- غدا في أسرته وتاريخها الحاضر رمزًا مقدمًا، وجبلًا معظمًا، إليه يؤرز، وبه يحتمى، ويكاد أن يشابه في هذه الخصيصة الرفيعة جده الأمير الفارس عبدالله بن محمد بن سعود، وذلكم الفضل من الله يهبه لمن يشاء من عباده، فيكون سبب اجتماع وألفة، ومصدر قوة وضبط، وعامل أمان واطمئنان، وهي خير على خير في إهاب من الخيرات والبركات لا يخفى ولا يبلى!

ahmalassaf@

الرياض- الجمعة 29 من شهرِ شعبان عام 1446

28 من شهر فبراير عام 2024م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)