إدارة وتربية سير وأعلام

أبواي والقرآن الكريم!

ليس هناك علاقة أنفع من الارتباط بالقرآن الكريم، فهو كلام رب العالمين -سبحانه وتعالى- المنزل بواسطة جبريل المكين -عليه السلام- على قلب النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم-. وما أحرى الآباء بتوريث أولادهم حب هذا الكتاب العزيز، وتلاوته، والمحافظة على ورد يومي منه، مع إبقاء مصحف لهم في البيت، كي يستمر الأجر لهم بالقراءة منه. وقد كان لأبوي -رحمهما الله- صلة مع القرآن العزيز بحسب ما استطاعا إليه سبيلًا، ولا يكلّف الله نفسًا إلّا وسعها.

الذي يبدو لي أن الوالد -رحمه الله- تعلّم القرآن وقرأه في كتّاب الشيخ ابن سايح -رحمه الله- في عيون الجواء، ثمّ اقتبس فوائد في التفسير من دروس الشيخ فيصل المبارك -رحمه الله- في الجوف إبان مروره بها. ثمّ تابع الوالد مسيرته مع الكتاب المهيمن بمشاهدة بعض البرامج الإعلامية الخاصة بالقرآن، ومنها برنامج للشيخ المفسر محمد الراوي -رحمه الله- عرضه التلفزيون السعودي، وكان أبي يحب الشيخ جدًا، ويرسل له السلام والدعاء، مع أنهما لم يلتقيا في الدنيا البتة.

وظلّ والدي حفيًا بكل ما ينفعه ويقربه من القرآن الكريم؛ ولذلك بادر لعرض قراءته على أستاذ مصري أزهري في المسجد، وفرح بأي ملحوظة تصحيحية للتلاوة ترده ممن كان، وبأي فائدة في التفسير والبيان القرآني. وقد وفقه الله لكثرة التلاوة بأداء نجدي شجي غير متصنع، واتخذ غير مكان وحال للتلاوة؛ فله في متجره مصحف، وكذلك في بيته، وفي مسجده قبل الصلاة وبعدها، إذ كان من أوائل الداخلين بعد الآذان، وآخر المصلين خروجًا من المسجد على الأغلب.

فصار من آثار ذلك تتابع ختماته التي يحرص على جمعنا حوله في المنزل لحضور الختمة، والتبرك بكتاب الله يتلى بيننا، ولعله يعلمنا ضرورة اتخاذ نصيب يومي من القرآن، وحظٍّ دوري من الختمة، دون أن يأمرنا بذلك صراحة. وفي رمضان تزداد ساعات التلاوة التي يقضيها مع كتاب الله، ويتبع الآيات بالدعاء المناسب معها، وفي آخر عمره صار يقبل على كتاب الله أكثر مما سلف، ولعله ممن زادت حسناته وصالحات أعماله في أواخر أيامه.

كما كان للوالد مصحف خاص من الطبعات الشامية أو المصرية قبل أن يأمر الملك فهد -رحمه الله- بإنشاء مجمع لطباعة المصحف الشريف في المدينة النبوية، فأصبحت نسخ مجمع المدينة هي الأجود والأشهر، ويا له من مشروع عظيم حالفه التوفيق كله. وبعد وفاة الوالد وضعنا مصاحفه في المسجد لتكون له أجرًا ووقفًا، وليتنا احتفظنا بواحد منها، ولا أزال أذكر غلافه الأخضر الذي سقط من كثرة القراءة، والريشة السوداء في وسطه، وهي تستخدم للدلالة على موضع التوقف.

مما أذكره أن الوالد صحح لنا عقب صلاة الجمعة معلومة ذكرها خطيب الجمعة حين نسب آية لسورة وهي في غيرها، ومرة وردت آية في كتاب التوحيد، فقال أستاذنا حسين الغرّوز: هذه الآية لم أجدها في السورة المشار إليها، فمن يدلنا عليها؟ وحين رجعت للبيت سألت أبي فأخبرني من فوره أنها الآية رقم (163) من سورة النساء، ففرح الأستاذ بالجواب، وكلما مررت بالآية تذكرت هذه القصة. ورددت مرة على قارئ في المسجد وأنا صغير السن؛ فأبتهج بفعلي، وأخبر به جدتي التي فرحت وخافت في آنٍ معًا!

كما تجادل عربيان في المسجد قبل إقامة صلاة العصر، والسبب أن أحدهما أنكر على الآخر نطقه لكلمة “الحمار” وهو يتلو القرآن! فاحتكما للوالد لكثرة ما يشاهدانه يقرأ من المصحف، فأخبرهما عن الحيوانات المذكورة بالقرآن، وبعضها سميت عليه السورة بأكملها، فتعجب الرجل المنكر. وذكر لي شقيقي عبدالعزيز أن الوالد إذا سجد للتلاوة لا يضع المصحف على الأرض؛ فإما يمسكه معه، أو يجعله فوق مكان مرتفع لائق به.

ولا يحرص الوالد على تقدم المصلين إلّا إذا لم يجد ذا أهلية للإمامة، وكان المصلون يحبون إمامته لأنه لا يكتفي بقصار السور فيدركون الركعة، ويسمعون منه آيات وسورًا لم يعتادوا عليها من الإمام الراتب؛ حتى أنه حين قرأ بالسجدة وهل أتى على الإنسان حين من الدهر في فجر الجمعة، وسجد مع الأولى، تعجب بعض جماعة المسجد؛ حتى أخبرهم أنها سنة مهجورة. وعندما انتظم مع جماعة المسجد قراء حفاظ من مصر سعى لتقديمهم، وأصبح موضع محبة وإجلال منهم. وفي حادثة لا تُنسى، رد على شاب غير مرة في صلاة جهرية واحدة ردّ مصحح أو فاتح عليه، وبعدها شعر بألم في رأسه مع  تكاثر النسيان، ولم يرفع الله عنه هذا العارض حتى أخذنا من أثر الشاب له واغتسل به.

أما الوالدة -رحمها الله- فلها مع القرآن والمصحف شأن خاص بها، إذ حرصت على إتقان القصار من السور، وتكرار آية الكرسي وآخر آيتين من سورة البقرة لتحفظها، وكانت تتمنى حفظ سورة الملك لتجعلها من وردها الليلي، ولم تقصر في مساندة بعض الدور النسائية بالمال قدر وسعها. وكم من مرة ومرة أهدت مصاحف مجلدة تجليدًا فاخرًا لمن حولها من نساء وأقارب، وكان تفرح حينما أزف لها خبر ختم القرآن من قبل أي حفيد أو حفيدة لها، وترى ذلكم الإنجاز بعين الإجلال والتقدير والحمد.

اللهم اغفر لأبوي وآبائهم وأمهاتهم، واجعل الجنة مثواهم، وارفع لهم الدرجات بفضلك ثم بمحبتهم لكلامك وكتابك الكريم. اللهم اجعل لنا من القرآن العظيم أوفر الحظ والنصيب في خاصة النفس وعامتها، وفي الخلوة والجلوة، وفي البيت والعمل، والسفر والحضر، ومن المسطور أو الصدور، وانفعنا به يا مولانا، واجعله لنا ذخرًا وأجرًا وشفيعًا، ولوالدينا، ولجميع من يقرأ ويؤمن ويبادر لمصحفه قارئًا أو خادمًا لهذا الوحي المقدس المحفوظ.

ahmalassaf@

الرياض- الأحد 03 من شهرِ شعبان عام 1446

02 من شهر فبراير عام 2025م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)