الفجيعة التي رافقت وفاة الأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز (١٣٧٠-١٤٤٦= ١٩٥٠-٢٠٢٥م) لافتة جدًا. لا غرابة من حيث المبدأ بمقدار الألم المصاحب لمصيبة الموت، فكل أحد غال عند ذويه والمحيطين به، لكن اللافت في رحيل الأمير محمد بن فهد -رحمهما الله- أن وقع الخبر وهوله ظهر جليًا في الحضور الكثيف لأفراد الأسرة الملكية سواء للصلاة عليه، والمشاركة في الدفن، أو التوافد للعزاء والمواساة حتى ممن شارك في الصلاة والتشييع، مع ملاحظة آثار الشحوب والحزن البادية على الوجوه، ويضاف لذلك نشر الخبر والتعليق عليه من قبل شرائح مختلفة من الناس.
بشيء من التتبع والتأمل عقب الوفاة لاحظت حرص الأمير على صلة الرحم، وجمع الأقارب في مناسبات عدة. من ذلك كثرة استضافته في مخيمه البري، أو في مصيفه الخارجي، أو في موائد رمضانية على الفطور والسحور، مع تخصيص وقت لإخوانه وأبنائهم. ومن ذلك مشاركته في عزاء الراحلين من أسرته العريضة، وحضوره اليومي في مجلس العزاء بعض الأحيان، مع أن الراحل ليس من درجات القرابة الأولى بالنسبة له. إن الصلة، والاستضافة، وبشاشة الوجه للقادم، والسعي إلى لمِّ الشمل، وجمع الآل، لمما يكسِب المرء محبة ومحمدة ومثوبة.
كما يمكن إرجاع سبب هذا الاهتمام اللافت إلى وقوع الموت فجأة، وحلوله بساحة رجل ممتع بصحته، محافظ على نظامه الغذائي والرياضي، مع التزامه بجودة الحياة حضرًا وسفرًا، دون ظهور آثار لمرض عضوي عليه، لكنه أمر الله الذي إذا جاء خضعت له الخلائق كافة، القوي منها والضعيف على حد سواء. كم في الموت من عظة وعبرة، وهو مصير محتوم لكل حي، والله يقبضنا إليه وهو عنا راض غير غضبان، في ميتة حسنة سوية.
وليس بخاف أن للمدة الطويلة التي قضاها أميرًا للمنطقة الشرقية بين عامي (١٤٠٥-١٤٣٤=١٩٨٥-٢٠١٣م) تأثير في هذا الباب، ذلك أن المنطقة الشرقية مزار للغالبية، ولها أهمية بما فيها من ثروات وتنوع سكاني يحتاج للحصيف الحكيم من المسؤولين. ويضاف لأسباب هذا التأثر الضخم ذلكم التاريخ الكبير في الحكم لوالده الملك فهد -رحمه الله- منذ كان نائبًا ثانيًا مشاركًا في إدارة الدولة، فولي عهد مفوض، ثم ملكًا متوجًا. كذلك من عوامل الاعتناء بهذا الخبر المؤلم تلك الصداقة العميقة التي ربطت الأمير الراحل مع عمه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -أمتع الله به- حتى اقتبس الأمير من عمه فوائد إدارية، وأعجب ببصيرته التاريخية، وقدرته على التحليل السياسي الصائب، والكتابة الرزينة في هذا المجال.
مما أذكره بالرواية عمن سمعها ممن عايشها مباشرة، أن مكتب الأمير محمد في إمارة المنطقة الشرقية، اجتمع فيه خلال ساعة واحدة، سفير دولة أوروبية عظمى، وقاض شرعي منقول للمنطقة نقلًا حديثًا، وكان السؤال المطروح في دواخل الرجلين: من سيؤذن له أولًا؟! ولم يطل بهما الانتظار إذ دخل القاضي والعالم الشرعي والمواطن قبل السفير الذي كان يتكلم العربية بطلاقة، وأعجبه هذا الموقف حتى وإن تأخر ترتيبه في الزيارة. ويُروى أن الأمير احتفى بالقاضي، وأمر بإسناد خطابة جامع له، وترتيب دروس مسجدية له كذلك، وهي الأعمال التي لم تكن ممكنة له فيما سبق انتقاله.
وشاهدت مقطعًا مصورًا للأمير يعبر فيه عن غضبه من مشهد غير لائق نشر في احتفال خيري رعاه في شهر رمضان، ولا أعجب من موقفه هذا لكثرة تنبيهه على ضرورة مراعاة أحكام الشريعة، ومقتضيات النظام، والتقاليد المرعية، وواجب الوقت. إن مثل هذا التنبيه من أي إنسان، والتأكيد عليه في تطبيقات المجال العام، له دلالته بغض النظر عن أيّ قناعة أو مسلك لدى الآخرين، وهو من دلائل التريث والأناة والعراقة.
أيضًا قرأت لقاء صحفيًا قديمًا أجراه معه الأستاذ محمد الوعيل -رحمه الله- قبل تسمية أبي تركي أميرًا للشرقية، وفي هذا اللقاء يفتخر بأن ابنته الكبرى “نوف” تؤدي الصلوات منذ بلوغها السادسة من عمرها، وأن ابنه “تركي” ليس مدللًا، وأن اختياره لأسماء أولاده ينطلق من اعتبارات أسرية. وصرح فيه علانية بمقته لمن يثني عليه بما ليس فيه، وهو تصريح ورد على ألسنة ملوك وأمراء وكبراء، وليت أن المداحين للتكسب أو بالباطل يعوا هذه الرسالة جيدًا.
وقال في هذا اللقاء: إنه يحب القراءة في التاريخ وممارسة بعض الهوايات الرياضية. إن ارتباط الزعماء الكبار بالتاريخ صفة سائدة في حكام المملكة، فالملك سلمان-حفظه الله- أوضح مثال على ذلك، ومما سمعته أن الأمير نايف-رحمه الله- كان كثير القراءة التاريخية، وكرر قراءة كتاب د.يوسف العش-رحمه الله- عن الدولة الأموية وكتابه الآخر عن الدولة العباسية. إن عناية الأمير محمد بالتاريخ تجلّت في لقاء تلفزيوني له مع الأستاذ محمد رضا نصر الله، وفيه تحدث عن جده الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله-.
وللأمير محمد بن فهد علاقة خاصة مع دولة الكويت وحكامها، وهو الأمر الذي أكده الحضور المميز الكويتي الرسمي والشعبي والإعلامي عقب وفاة الأمير. تعود جذور هذه العلاقة الوثيقة لموقف الملك فهد إبان احتلال الكويت، ومشاركة الأمير نفسه في استقبال أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد -رحمه الله- على الحدود، وقيادة السيارة به إلى داخل المملكة؛ ولذا نال الأمير تكريمًا شخصيًا من الكويت وأميرها، وقد استمرت هذه العلاقة بكثرة إيفاد نجله الأكبر الأمير تركي بن محمد -وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء- للكويت مبعوثًا من قبل ولاة الأمر.
اللهم اغفر لعبدك محمد بن فهد بن عبدالعزيز آل سعود، وتقبل منه أحسن الذي عمل، وتجاوز عمّا سوى ذلك. اللهم وفق ورثته لإدامة العمل الصالح له عبر أوقاف وأعمال خيرٍ هم أهلها وأولى الناس بها، وربما كان للأمير من هذا الباب الطيب المبارك خبيئة صالحة أو أكثر. ولئن حزن الناس عليه وفجعوا بفقده مرة واحدة، فثمّ من كان الخطب عليه أكثر من مرة؛ لأسباب عامة وأخرى خاصة، والله يتولى الراحل بعفوه وصفحه، ويتولى الباقين بجوده وكرمه وعوضه سبحانه.
الرياض- الجمعة غرة شهر شعبان عام 1446
31 من شهر يناير عام 2025م
2 Comments
رائع أخي الغالي أحمد 👆🏽👆🏽.. رحم الله الأمير محمد بن فهد وأسكنه الجنه .. لقد عرفته .. فقد كان مُحباً للعلم وأهله داعماً للشباب وإلتقيته رحمه أكثر من مرة حين كنت في جامعة الملك سعود .. وكان متميزاً علماً وخلقاً وتواضعاً
دوماً مميز القلم والإحساس وفي مع الغير
خاصة الراحلين … لأنك نبيل
وهنا النبل والوفاء الحقيقي.