لم يكن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- بعيدًا عن الشأن الدبلوماسي، ولا غريبًا على الشؤون الخارجية حينما بدأ مشروعه الجرئ والكبير لاستعادة عاصمة الأجداد، وتوحيد البلاد في دولة واحدة حديثة. اكتسب الملك المؤسس خبراته السياسية وراثة من أسرته التي مارست الحكم عدة قرون، ثمّ بما وعى عليه عند والده الإمام عبدالرحمن الفيصل -رحمه الله- خاصة في الكويت. لأجل ذلك وضع الملك في ذهنه عدة مسارات لهذا العمل المهم والضروري، وطبقها بالتزامن والتوالي حسب الأنسب والممكن.
المسار الأول تمثل في الاستعانة برجال من أهل بلده، عملوا في التجارة، وتنقلوا بين البلدان، وربما نالوا من التعليم قسطًا أكثر من المعتاد، ولدى بعضهم تخصصات غير معهودة، وقدرة على الحديث بلغات أجنبية. أولئك الرجال الأوائل كان جلّهم من تجار العقيلات، وأهل الزبير، والأحساء، والحجاز، وحائل، وفيهم من عمل مع خصوم الدولة القدماء. سيذكر تاريخنا الدبلوماسي أسماء كثيرة مثل الأمير أحمد بن ثنيان، وآل المنديل، والصقير، والرميح، وحمزة غوث، ورشيد بن ليلى، وفوزان السابق، وآل القصيبي، والنفيسي، وصالح باشا العذل، والمانع، والفوزان، والخطيب، وإبراهيم بن معمر، والعتيقي، وغيرهم.
أما المسار الثاني فكان في استقبال أو استقطاب كفاءات عربية عانت من التضييق في بلدانها بسبب المحتل الأجنبي غالبًا، وتبرز لنا في هذا المسار أسماء من سورية الكبرى بأقطارها، ومن العراق، وليبيا، ومصر. من هؤلاء: حافظ وهبة، ويوسف ياسين، ومدحت شيخ الأرض، ورشاد فرعون، وفؤاد حمزة، ورشدي ملحس، وخير الدين الزركلي، وعبدالله الدملوجي، ورشيد الكيلاني، وبشير السعداوي، وخالد القرقني، وغيرهم. يتضح من استعراض سير هذه الأسماء أنهم كتّاب وأدباء ومؤرخون وساسة وأطباء، وأصحاب نشاط سياسي وفكري وتأليفي.
ثمّ كان المسار الثالث في الإذن للموفدين الأجانب بالزيارة أو الإقامة والتنقل والمرافقة، حتى أن بعضهم استقر في البلاد، أو خرج منها وهو بها متعلّق، وبزعيمها الكبير معجب منبهر، ولهم عنه وعنها كتب ومؤلفات. من هؤلاء محمد أسد، وعبدالله فلبي، وقد أسلما وتزوجا من بنات الجزيرة العربية. منهم شكسبير وهو من أبكرهم قدومًا للمملكة، علمًا أنه فقد حياته بسبب رغبته في رؤية المعارك التي خاضها عبدالعزيز ورجاله. ومنهم أمين الريحاني، وبيرسي كوكس، وهاملتون، وعدد من الأجانب الذين مثلوا دولهم في دول الجوار.
ورابع مسار اختص بالتواصل الكتابي، أو إبرام الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية أو المتعددة. ومن أوائلها معاهدة دارين أو العقير عام (1334=1915م) مع بريطانيا التي تطورت إلى معاهدة جدة عام (1345=1927م)، ويوجد غيرها ترتبط مع دول الإقليم. ويدخل ضمنها التصديق على معاهدات دولية بخصوص الحرب ومكافحة المخدرات وغيرها. ثمّ تطور الأمر للمشاركة في تأسيس منظمات عربية ودولية، والانضمام إلى تحالفات أو كيانات دولية قائمة. ومن مفردات هذا المسار الزيارات الملكية على ندرتها التي قابل فيها الملك عبدالعزيز روزفلت، وتشرشل، والملك فاروق، وشكري القوتلي، أو استقبال بعض هؤلاء الزعماء الزائرين إضافة إلى الأمير عبدالله بن الحسين، وحفيده الملك حسين، واللواء محمد نجيب.
ثمّ اجتمعت هذه المسارات كافة من قبل وبعد؛ لتتحد في المسار الخامس بتأسيس شعبة الشؤون السياسية عام 1344=1925م، ثم مديرية الشؤون الخارجية التي عملت تحت هذا المسمى منذ إنشائها عام 1345=1926م، إلى أن صدر الأمر الملكي بإلغائها وتحويلها إلى وزارة الخارجية عام (1349=1930م)، لتصبح أول وزارة سعودية بالمعنى الحديث، ويغدو الأمير فيصل أول وزير لها، وأول وزير في تاريخ السعودية الحديثة. ابتدأت الوزارة بمكة، ثم نقلت إلى جدة عام (1366=1946م)، حتى استقرت في الرياض عام (1404=1984م). خلال هذه التحولات لم يبتعد عبدالعزيز عن إدارة علاقاته الخارجية؛ فهي مركزية في مشروعه وفكرته.
ومع ترحيب الدولة الحديثة بما وجد قبلها من قنصليات أوروبية في جدة، فقد سارعت لفتح مفوضيات وسفارات وقنصليات لها في لندن وهي الأولى عام (1349=1930م)، وبغداد، ودمشق، والقدس، والقاهرة، وغيرها من البلدان،.كما وافقت على افتتاح سفارات عربية وإسلامية وأجنبية لبلدان سارعت بالاعتراف وطلب قبول التمثيل لها بالسعودية. ويبلغ عدد سفارات السعودية وقنصلياتها ومكاتبها حاليًا أكثر من مئة وثلاثين، ومثلها عدد السفارات التي افتتحت في جدة ثمّ انتقلت للرياض عام (1405=1985م)، إضافة إلى القنصليات العاملة في جدة والظهران، ومكاتب المنظمات الدولية، وهذا مسار مهم يمكن جعله السادس.
ولا مناص من التنبيه هنا إلى خطأ متداول يصف د.عبدالله الدملوجي بأنه أول وزير خارجية، وهذا يخالف الواقع، فقد كان الدملوجي مديرًا للشؤون الخارجية، وممثلًا للملك في عدد من المؤتمرات والمعاهدات، ومرافقًا للأمير فيصل، وربما أطلقت عليه هذه التسمية لأنه مدير الشؤون الخارجية، والممثل للمملكة في بعض المؤتمرات، والموقع باسمها على أوراق جلّ الموقعون عليها وزراء خارجية لحكوماتهم. طبعًا هذا التصحيح لا ينفي جهوده، ولا يقلل من قدره، ولا أدل على ذلك من أنه أصبح وزيرًا للخارجية حينما عاد إلى بلاده العراق، وزار المملكة وهو وزير لخارجية بلاده.
بعد تكوين وزارة الخارجية في شهر رجب عام (1349) الموافق لشهر ديسمبر من عام (1930م)، تعاقب عليها ستة وزراء خلال سبعة تعيينات حتى الآن، هم: الأمير فيصل، فالشيخ إبراهيم السويل، ثم رجع إليها الملك فيصل، وبعده أصبح نجله سعود وزيرًا للخارجية، ثم الأستاذ عادل الجبير، وبعده د.إبراهيم العساف، وأخيرًا الأمير فيصل بن فرحان. والملاحظ في هذه الأسماء أن اثنين منهم غادرا المجلس ثم عادا إليه، واثنين منهم تولوا وزارة المالية مدة من الزمن، وثلاثة منهم كانوا سفراء قبل الوزارة أو بعدها، منهم وزيران كانت سفارتهم في واشنطن. والملحظ الأهم أن الملك فيصل احتفط بالوزارة وهو رئيس للوزراء، واحتفظ بها وهو ملك على البلاد، وضم إليها وزارتين أخريين. رحم الله من توفي من وزراء الخارجية، وحفظ من بقي.
كما نجد أن الأمير سعود الفيصل أصبح وزيرًا للخارجية بعد والده مباشرة، واستمر في الوزارة أربعين عامًا، وهي مدة غير مسبوقة عالميًا دون انقطاع فيما أعلم. ومما يرتبط بالأمير سعود أنه ظلّ الحفيد الوحيد العضو في مجلس الوزراء مدة ربع قرن تقريبًا، وأن مشواره الوزاري ابتدأ بمسمى وزير دولة للشؤون الخارجية، وانتهى بمسمى قريب منه. كذلك شغل الأمير منصبه في عهد أربعة ملوك من الملك خالد حتى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله وأمتع به-.
هذا يقودنا للإشارة إلى أن وزراء الدولة للشؤون الخارجية مع عضوية المجلس ثلاثة حتى الآن أولهم السيد عمر السقاف، ثم الأمير سعود، فالأستاذ الجبير. كذلك توقفنا هذه المعلومة على أخت لها هي أن وزارة الخارجية أكثر وزارة حسبما يظهر فيها نواب، ووزراء دولة، ومساعدون، ووكلاء، وقد سمي جميعهم بمرتبة وزير أو بالمرتبة الممتازة. وهي أكثر وزارة عمل فيها الوزراء بعد نهاية عضويتهم المجلسية، ومن أكثر الوزارات التي جاء منها الوزراء بعد أن عملوا سفراء، وهي من أكثر الوزارات التي أسندت للمرأة مناصب مهمة، وإليها تنتسب أول امرأة عينت بمرتبة وزير. ومن سمات وزراء الخارجية إجادة لغة أو أكثر أو الإلمام الكبير بها، ومن لغاتهم غير العربية: التركية، والإنجليزية، والفرنسية، والألمانية.
ربما يمكن الإشارة أخيرًا إلى مسار سابع نعيشه حاليًا بوضوح؛ فالسعودية أصبحت خاصة بعد رؤية المملكة (2030) وجهة عالمية طالما تردد الزعماء والساسة والمؤثرون على الرياض أو جدة أو غيرها من المدن السعودية، وكثيرًا ما عقدت فيها مؤتمرات لكتلة أو لعدة كتل معًا، وهي لقاءات غير مسبوقة حجمًا وتنوعًا، إضافة إلى اجتماع قمة العشرين، والظفر بتنظيم فعاليات دولية مهمة حتى وإن طغى عليها الجانب الثقافي، أو الاقتصادي، أو السياحي، أو الرياضي، أو العلمي، أو الديني، فإن الدبلوماسية، ووزارة الخارجية، تكون حاضرة. هذا يعني أن سيرة العمل الدبلوماسي والمراسيمي السعودي ثرية، وخصبة، وأهل لأن تصنع نموذجًا وخبرة منها يُستقى.
الرياض- الخميس 11 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1446
12 من شهر ديسمبر عام 2024م