التقدم والتأخر سنة حياتية وأخروية كذلك. ليس العيب ألّا تتقدم؛ إنما العيب يكمن في الرضا بتأخر المنزلة، والعيب كل العيب يكون مع بقاء الإنسان ضمن خانته الحالية جامدًا بلا حراك، ساكنًا بلا رؤية، ولا أمل، ولا تدبير. إن التسويغ بالمستحيل من أسهل ما يكون، لكن الشأن كل الشأن أن يبحث الموفق عن مسارات ومنافذ ومسارب يستطيع الدخول منها، وخلخلة كيان هذا المستحيل على أرض الواقع، بعد أن يزيله من الذهن تمامًا، وهذا عين ما قامت عليه رؤية المملكة 2030 التي ابتكرها ووقف على رأسها سمو ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله ووفقه وأعانه-.
قطار الرياض نموذج يصدق عليه القول الآنف تمامًا. من كان يتصور أن يتم المشروع في مدينة مزدحمة مكتظة؟ من كان يأمل بنجاحه بعد عدد من التوقفات والتعثرات؟ من راوده هذا الأمل اللذيذ بوجود القطار دون أن تنغص عليه الصعوبة والتكاليف والمدة ودعوى الثقافة السائدة وغير ذلك؟ لقد كان حلمًا جميلًا فصار، كان خيالًا بعيدًا محلقًا في الأفق، لكنه أصبح اليوم -بل صباح هذا اليوم- على الأرض واقعًا يجري. كان القطار مجرد أمنيات، بيد أنه اليوم غدا -مع الغدوة- سلسلة من العربات والمحطات. كان القطار مشروعًا، وهو اليوم مؤسسة سعودية كبرى تحت مسمى فخم هو مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام.
لقد بدأت أولى رحلات قطار الرياض صبيحة هذا اليوم الأحد، ومع هذه البداية لا مناص من الإشارة إلى بعض الملامح المهمة في سيرة القطار التي لا تزال فيها بقية منتظرة تزيد الكمال كمالًا، وتهب للجمال جمالًا. فأول أمر يمكن ذكره هو أن الأفكار قابلة للتحقق إذا نالت من الدرس المجرد للحقيقة ما يكفي، مع اليقين بأن أي شيء فعله غيرنا يمكن لنا فعله وإن بطريقة أخرى، فالقطار فكرة لا تعاندها طبيعة، ولا تصادمها ثقافة، ولا تعجز عنها همة، ولا يحول دونها أمر أو نهي.
ثمّ إن هذا القطار قد أفاد من التجارب الأخرى دون أن ينسخها ويقلدها كما هي، وهذا أساس من أسس العمل، فلكل بقعة طبيعتها، ولكل شعب طريقته، ولكل ثقافة لوازمها. ولم يكتف القطار بنقل الفكرة ممن سبق بل زاد وتفرد، ومنح لقطار الرياض سمة سعودية لها السبق والذكر. ومن حسنات القطار أولئك الجمع الكبير العاملين فيه من شباب السعودية وشاباتها، وفقهم الله، وحفظهم، ونفع بهم، وزوج العزاب منهم والعزباوات، ذلك أن القطار يحتاج إلى مستفيدين، ولا مناص من أسر تتناسل وتمد المجتمع بكثافة بشرية، والله يزيد ويبارك، وهذه الإضافة دعابة لكنها صادقة للقطار وغيره، أبعد الله عن الديار وأهلها العزوف عن الزواج والإنجاب.
ومما يجدر الإشارة إليه، ما صنعته إدارة القطار لتسهيل استخدامه وركوبه حتى على من كان بعيدًا عن محطاته، وهذا من عوامل نجاحه المأمول، وهذه العوامل كثيرة دون حاجة لإحداث زيادة أو إرهاق، فعلى القطاع الخاص -مثلًا- أن يضع بعض الحوافز لمستخدمي القطار، ومثله كذلك الإدارات التي تقيّد حضور الموظفين وانصرافهم إذا ركبوا القطار، ومثله وسائل التأثير والتوجيه، والأفكار في هذا الباب كثيرة، ولن تغيب عن أذهان المبدعين العاملين في إدارة القطار الذين يسروا خدمته بأكثر من وسيلة.
وقد حرص مشروع القطار على السلامة المالية، والسلامة الفنية، والسلامة البيئية، وعلى الظفر ببهاء المنظر من الداخل والخارج، وأسأل المولى أن يحقق لنا ولهم الحسنى وزيادة في الدنيا والآخرة. ومن أجلّ وأجمل وأرقى وأنقى وأبقى ما صنعته إدارة القطار الموفقة، أنها أطلقت عليه اسمًا عربيًا بليغًا هو “قطار الرياض”، واستعملته في كل ما صدر عنها من إعلانات وأخبار وتعليمات، وليتهم أن يلوموا من جعل القطار القاطر بالمقطورات والقاطرين مجرد “مترو”!
تبرز عن القطار ومشروعه أسئلة مشروعة: هل سنركب القطار؟ وماذا عن ثقافة الناس؟ فيا قوم: لا تقلقوا، وسوف نركب القطار جميعًا. إن استخدام القطار لا يتصادم مع ثقافة الناس الراسخة في الأمشاج والأذهان، والمخالطِة لشغاف القلب وزوايا النفس، وخفايا الروح. إن استخدام القطار جزء من استعمال الطريق، وللطريق حقوق شرعية ونظامية وطبيعية. بل إن القطار يحفظ لنا الطاقة والوقت والمال وراحة البال. إن استعمال القطار يحتاج إلى تصحيح لطيف تدريجي للعوائد، وأي عادة لا تتصل بثقافة أصيلة، ولا ترتبط بحضارة راسخة، فما أسهل تغييرها بحكمة، وما أيسر تبديلها للأحسن، وما سوى ذلك فنطح صخر لا ينفع بل يضر ومآله الخسارة. خلاصة الأمر: لم لا نستخدم القطار والأصل – ولو بعد حين يسير- انفتاح الأذهان وإقبال النفوس على الترحيب بالجديد والمفيد بل الضروري لمدينة عصرية لها زوار وقصاد لا ينقطعون، والله لا يقطعهم؟
ولا يحسن بي أن أغلق المقال دون ختمه بأعلى ختام. إن القطار فكرة “سلمانية” انطلقت منذ كان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله ورعاه- أميرًا للرياض ورئيسًا لمجلس هيئتها العليا التي أصبحت الآن هيئة ملكية على منوالها تنسج باقي الهيئات. وللملك سلمان علائق وثيقة بالرياض، فتاريخ ميلاد مقامه السامي يتوافق مع استرداد والده الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله وغفر له- لعاصمة الآباء والأجداد.
ثمّ أصبح “سلمان” أميرًا تاريخيًا وحاكمًا للعاصمة خمسة عقود متوالية، فعرفها حق المعرفة بأناسها وشوارعها وأحيائها وتاريخها وبلدانها ومزارعها وأوديتها وكل ما له مساس بها. ويشاء الله أن يكون الافتتاح التاريخي لقطار الرياض في عهد الملك سلمان وعلى يديه، كتب الله أجره، وأمتع به. وبهذا القطار ستخف زحمة الرياض، تلك الزحمة التي كان يحذّر منها الملك سلمان إبان إمارته للرياض، ويطلب لتلافي زحام المستقبل زيادة سعة الطرق الرئيسية، ومضاعفة مساراتها.
أهلًا بالقطار المحبب المنتظر قطار الرياض. أهلًا به رافدًا أساسيًا من خطة النقل في العاصمة الكبرى، محطّ الأنظار والرحال، المؤثرة في أكثر من مجال، المقصودة من جلّ الأماكن، المطروقة آناء الليل وأطراف النهار. أهلًا به لنا، وللمقيمين، وللزوار. أهلًا بحسناته الكثيرة في الحال والمآل، والله يعين القائمين عليه، والمتشاركين في إدارته، على الإدراك والإصلاح لكل ما قد ينجم عن “النقل العام” من إشكالات هيكلية أو متوقعة بسبب كثرة الناس واختلاف الأجناس. أهلًا بالقطار الذي يسعدنا، والله يجعله سببًا من أسباب السعة، وبلوغ جودة الحياة، والحمدلله كما يحب ربنا ويرضى.
الرياض- الأحد 29 من شهرِ جمادى الأولى عام 1446
01 من شهر ديسمبر عام 2024م
2 Comments
تشهد مقالاتك مواكبة متجددة لكل الأحداث المهمة لمملكتنا الحبيبة، وحق لنا الافتخار بكل منجزاتنا و أيضاً بك كاتبنا العزيز لهذا السرد الممتع عن قطار الرياض الحدث المنتظر لتحقيق رؤية المملكة العربية السعودية في مجتمع حيوي واقتصاد مزهر ووطن طموح؛ قطار الرياض لقد تجاوز الأمر مجرد حلم، ليُصبح تفكيرًا مُمنهجًا واستيراتجيات مُخطَّط لها بنهضة تزدهر وتزخر بالعطاء، ثم تتحقّق بتوفيقه تعالى.. 💚
أهلا بكم