أقامت قيصرية الكتاب أمسيتها الأولى ضمن سلسلة شخصيات وطنية. كانت الأمسية موضوعًا عن معالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ (1352-1407=1933م-1987م)، ومكانًا في بهو جميل وسط جامعة الأمير سلطان. سوف تستمر هذه الأمسيات لتكريم عدد من الشخصيات الوطنية الراحلين منهم والأحياء -للجميع الدعاء بالرحمة والقبول-. إن لسان الصدق في الآخرين، والثناء الجميل، لمما تطرب له الطبيعة البشرية، ويبرز المعاني الحسنة في المجتمع، وهو بحول المولى من عاجل بشرى المؤمن، وهو من علائم وفاء المجتمع وعراقته.
ينتمي الشيخ حسن لأسرة علمية عريقة توارثت العلم عبر أزيد من ثلاثة قرون، وطلب العلم فيها باق إلى يومنا. إن ظاهرة الأسر العلمية لجديرة بالدراسة والإفادة من مسيرتها، وطرائق التأهيل والتربية فيها، مع الإقرار المسبق بأن العلم حق مشاع لا يحتجز، ولا يمكن منع أحد من نيل شرفه، بيد أن مثل هذه الدراسات حجة على الأسر، ودليل لغيرهم، وفيها شيء من تاريخنا الاجتماعي والعلمي والثقافي.
امتاز الشيخ حسن بخصائص جديرة بالتنويه عنها، وله فيها مناقب مشهودة محمودة، تستبين من دراسة مجموع ما روي عنه أو كتب حوله؛ فمنها:
- وفق الله الشيخ لتمثل أهم سمات الخدمة العامة، مثل التوجه صوب الهدف مباشرة دون التفات لهامش أو صارف، والتواضع للمستفيدين، والتفاهم مع المعترضين، وإدراج التغييرات الملائمة رويدًا رويدًا حتى يكون بقاؤها أطول وأثبت.
- الكتابة المتواصلة في أدب النفس، وطبيعة المجتمع، وسمت المجال العام. لو استخلصت بعض آراء الشيخ حسن المختصرة التي صاغها بقلم أديب وعقل فكر وقلب ناصح، لجاءت في مجموع يضم مقولات حسنية سعودية متداولة بين العرب والمسلمين وغيرهم.
- الشفاعة لكل أحد، وبلا طلب من المشفوع له أحيانًا، ودون معرفة، أو انتظار مقابل أو رجاء مصلحة مستقبلية من المشفوع له. وكان من أعجبها إن إحدى شفاعاته قبلت بعد وفاته المفاجأة، حتى خلّد الكاتب الأديب حمد القاضي تلكم الحادثة التي يحيط هو بتفاصيلها بكلمة عنوانها: ميت يشفع لحي!
- اتخاذ القرار السريع بعيدًا عن التأخير والمماطلة الإدارية. أتاه طالب في منزله بالطائف ومعه طلب قبول في المتوسطة لأنه يأمل أن يدرس الهندسة مع أنه أنهى الابتدائية في مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم! فكتب الشيخ موافقته التي عجب منها مدير التعليم بمكة. بعد عقود أصبح هذا الطالب المهندس ذا منصب كبير، وتحدث في محافل دولية مستخدمًا لغته العربية الفصيحة، رافضًا التنازل عنها مع أنه يجيد الإنجليزية.
- ديمومة التحفيز لمن أحسن وأجاد، وقد أشار لذلك أ.د.أسامة شبكشي، وأ.د.محمد الرشيد فيما دوناه بسيرتهما. اللافت أن الشيخ حسن تفرس فيهما، وأثنى عليهما، وفيما بعد خلفاه على منصبيه الوزاريين، إذ كان الشيخ وزيرًا للمعارف أصالة وللصحة تكليفًا. حكايات التحفيز والتشجيع من الشيخ أبي هشام لا تنتهي، وهي مئنة على طهارة القلب، وخلوه من الحسد.
- الوطنية الصادقة؛ فخلال جولاته الدائمة على المبتعثين، لاحظ تلبس بعضهم بما لا يليق بالبلاد، فعمل على إصلاح ذلك بالرفق، وطلب من كبار مسؤولي الحكومة غض الطرف عنهم دون تسمية أولئك الطلبة. بصنيعه الحكيم هذا حفظ لنا الشيخ حسن ومن وافقه من المسؤولين: الطالب وأسرته، الطالب وعلمه الذي اكتسبه، وحفظ لنا استمرار نعمة الابتعاث، ولو فعل غير هذا لكانت الخسائر أعظم.
- لم يتعسف الشيخ حسن في استعمال سلطته التي هي من الأساس حق له؛ ولذلك لم يأنف من التجاوب مع الإحالات التي تأتيه من مسؤولين آخرين، بل سارع لنصرة أي صاحب حق وإنجاز المطلوب الممكن. بعض ذوي المناصب يتورم لدرجة الانتفاخ القابل للانفجار لو رفعت طلبك لغيره ثم أحيل طلبك إليه! إن التطامن للحق والرفق بالخلق لمن سمات العظماء.
- رزق الله الشيخ بصيرة مستقبلية، تبدت في مواضع كثيرة، منها تكبير مساحة الأرض المخصصة لجامعة الملك سعود، ونصح بعض المبتعثين بدراسة تخصص ما، وإتاحة تعلم اللغة الإنجليزية للأطباء الذين درسوا في ألمانيا. كانت عين الشيخ على المصلحة الوطنية واسعة جدًا، صافية جدًا.
- التوفيق في انتقاء الرجال، ومن ذلك استقطابه معه في عمله بوزارتيه للدكتور أحمد محمد علي، و د.محمود سفر، ود.عبدالرحمن الشبيلي. وقد كانت مدة عمل الشيخ عبدالعزيز المنقور متوافقة مع سنوات مسؤولية الشيخ حسن عن البعثات، والشيخ المنقور ملحق تعليمي يندر أن يتكرر مثيله، وربما يكون اختياره من حسنات الشيخ حسن؛ فإن لم يكن فيكفي بقاؤه في المنصب وتمكينه بالصلاحيات أن تكونا من مآثر الشيخ حسن.
- جعل الله للشيخ حسن محبة راسخة في قلوب الخاصة والعامة، وقد رويت كلمات إجلال وتقدير له من قبل الملك فيصل، والأمير محمد، وغيرهما -رحمهم الله جميعًا-. كما تواتر على إعلان الثناء عليه من عملوا معه، ومن خدمهم بإريحية وتواضع، ومن سمعوا عنه أو قرأوا.
- كان الشيخ بصيرًا بمجتمعه وقبائله وأسره وأعرافه. من ذلك أنه حين عرضت عليه شهادة جامعية للتوقيع عليها، وهي لطالب من الأمراء، اتصل على عميد الكلية، وطلب منه البحث عن الاسم السداسي للطالب؛ لأنه يوجد في الأسرة الملكية العريقة أربعة أمراء شباب يحملون الاسم بالتسلل الرباعي نفسه. للقصة تكملة لطيفة ليس هذا موضعها.
- عاش الشيخ حسن متوازنًا في حياته، يعرف للدولة حكومة ومجتمعًا حقوقها وما يلزم للصالح العام. ويفهم آمال المواطنين ويسعى لغرس محبة بلادهم في نفوسهم بالعمل المثمر النافع. ويعرف للرجال منازلهم فهو نجل عالم كبير وسليل أسرة ذات مجالس وتاريخ. ويعي حقوق النساء وما يجب لهن وهو الذي فهم رسالة الإسلام اللطيفة نحو المرأة، ثمّ قضى عمره بين سارتين كريميتن نبيلتين. هذا التوازن من نوادر النوال الذي يسعد به المرء، وكم شقي بفقدانه آخرون!
- ترك لنا الشيخ حسن آل الشيخ بعد أربعين عامًا من رحيله هذا الأثر الطيب الباقي الذي يغرس الفضائل في المجتمعات والأجيال، ولعله أن ينال من أجوره عند الرب الكريم سبحانه.
هذا جزء من خبر رجل الدولة الشيخ الوزير الكاتب، الذي كان ثالث وزير للمعارف، وأول وزير للتعليم العالي، وواحدًا من أوائل الوزراء من أسرته العريقة، وجزء من هذا الجزء داخلت به في المحاضرة التي عقدتها قيصرية الكتاب وأدارها الأستاذ حمد القاضي، وتحدث بها د.طلال قستي أحد زملاء الشيخ، ود.ندى أبا الخيل التي كتبت رسالتها للماجستير عن الشيخ حسن، وفيها استمعنا إلى تعليقات جميلة، وكلمات نفيسة، وأشعار طيبة. ومن لافت الموافقات أن تعقد هذه الأمسية في اليوم نفسه الذي نعي فيه الشيخ حسن بالتقويم الهجري الأصيل، أي اليوم السابع عشر من شهر جمادى الأولى عام 1407. رحمه الله وجميع أمواتنا، ورزقنا وإياهم جميعًا أحسن المنال المرتجى في الدنيا والبرزخ والآخرة.
الرياض- الأربعاء 18 من شهرِ جمادى الأولى عام 1446
20 من شهر نوفمبر عام 2024م