هذا الكتاب الضخم معلمة بلدانية بيئية حوت في باطنها النفيس شيئًا من علوم الدين والأدب والتاريخ والحيوان والنبات والرحلة والقانون. عنوانه: التاريخ البيئي للمملكة العربية السعودية من حافة الإنقراض إلى المحميات الملكية، تأليف: الدكتور عبدالله بن ناصر الوليعي، صدرت الطبعة الأولى الأنيقة منه عن دارة الملك عبد العزيز عام (1445=2024م)، وتقع هذه الطبعة في ثلاثة مجلدات من الحجم الكبير، مجموع صفحاتها (1526) صفحة، وعلى غلافها الأمامي صورة ظباء ترتع آمنة في محمية عروق بني معارض.
يتكون الكتاب من تقديم من دارة الملك عبدالعزيز، وتصدير كتبه الدكتور فهد بن عبدالله السماري الأمين العام المكلف لدارة الملك عبد العزيز، ثمّ المقدمة التي وضعها المؤلف البروفيسور عبدالله الناصر الوليعي. عقب ذلك كسر المؤلف كتابه على ثلاث عشرة وحدة. جاءت هذه الوحدات السمان في ثلاث مجلدات امتازت بالطباعة الجميلة المريحة، وبتمييز وحداتها بألوان، مع إثراء المحتوى بالصور والخرائط والهوامش من المؤلف أو المنقولة من مصادرها حسب توضيح المؤلف الذي رجع لأكثر من أربعمئة وأربعين مصدرًا أو مرجعًا بالعربية والإنجليزية.
ورد في التقديم الذي كتبته الدارة، والتصدير الذي سطره د.فهد السماري، الإشارة إلى قيمة المحافظة على البيئة والعناية بها، وأن هذا الكتاب يتناول تاريخ الحوادث البيئية في المملكة، وبدء المحميات والجهود للحفاظ على الحياة الفطرية ومعالجة التصحر؛ بإصدار الأنظمة والقوانين، وإنشاء الهيئات والمؤسسات الداعمة للبيئة، وتأسيس منظومة المناطق المحمية، وإنشاء المحميات الملكية، وتشجيع القطاع الخاص للدخول في هذا الميدان؛ كي تتغير الصفة التاريخية القاحلة لأرض المملكة إلى أرض طموحة خضراء.
بينما ذكر المؤلف في مقدمته بأن هاجس البيئة قد لازمه طيلة أربعة عقود، وكانت رسالته للدكتوراة عنها. ثمّ عمل مستشارًا في الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية، مع التدريس في جامعتي الإمام والملك سعود. هذه العلاقة العلمية والعملية زادت من تعلقه بالحياة الفطرية والحفاظ عليها؛ حتى أنه رثى ظبيًا دُهس عنوة في إحدى في إحدى محافظات المملكة! وتساءل: لماذا عندما يرى بعضنا الحيوانات خارج المملكة يرفعون الكميرا للتصوير بدهشة، وإذا كانوا في المملكة يحل البارود محل آلة التصوير كأننا نستوصي بإفنائها ومعاملتها كالعدو مثلما قال الشاعر الأديب ابن خميس؟!
يضم المجلد الأول خمس وحدات. الوحدة الأولى عن جيولوجيا المملكة العربية السعودية وتضاريسها وما فيها من بحار وسهول وجبال وهضاب وبحار رملية “صحارى”. بينما تدرس الوحدة الثانية من هذا الكتاب الأحوال المناخية والمناخ في الماضي، وفيها معلومات عن الأمطار والحرارة، وفصول السنة، وموقف المملكة العملي من التحديات البيئية التي تواجه العالم بسبب التغير المناخي، وأبان المؤلف الإجراءات المنفذة لتحقيق هذه الغايات بتفصيل.
أما الوحدة الثالثة فعنوانها البيئات المختلفة والمجموعات النباتية والحيوانية في المملكة العربية السعودية وفيها رصد نباتي وحيواني مع التعريج على أحكام شرعية وآداب إسلامية في التعامل معهما. وتختص الوحدة الرابعة بالنظر في تاريخ الأحداث البيئية في المملكة العربية السعودية وفيها تتبع لتاريخ بعض السيول والعطش والزلازل والبراكين في شبه الجزيرة العربية والأمراض المنتشرة والعدوى والصحة العامة في المملكة مع إشارة خاصة لموسم الحج. واختتم هذا المجلد بالوحدة الخامسة عن تاريخ الحمى والأحماء في المملكة العربية السعودية، وهي وحدة بلدانية تاريخية تقدم لجزء مهم من موضوع هذه الموسوعة.
يبدأ المجلد الثاني بالوحدة السادسة حول جهود المملكة العربية السعودية في المحافظة على الحياة الفطرية ومكافحة التصحر، وهذه الجهود عملية بتأسيس الأجهزة، وتشريعية بسن الأنظمة أو التوقيع على اتفاقيات ومذكرات تفاهم والمشاركة في المؤتمرات الخاصة بالموضوع. وتطرقت الوحدة السابعة لتأسيس منظومة المناطق المحمية بالمملكة العربية السعودية، وتلتها الوحدة الثامنة عن المحميات الملكية والطبيعية والمتنزهات في المملكة العربية السعودية، ومن الموافقات أن يكون عدد المحميات الملكية ثمانية وداخل كل محمية أكثر من منطقة محمية، وبالتالي فمساحة المحميات الملكية كبيرة. في هذه الوحدة تطرق المؤلف أ.د.الوليعي للمحميات الأخرى، وتحدث عن مشروع الرياض الخضراء ومبادرة السعودية الخضراء ومبادرة الشرق الأوسط الأخضر، وهي من أطول وحدات الكتاب.
ثمّ جاءت الوحدة التاسعة بعنوان الخلفية التاريخية للحياة الفطرية في المملكة العربية السعودية بعد قراءة النقوش وتفتيش كتب الأدب، وعرضت الوحدة العاشرة قصة انقراض بعض أنواع الحياة الفطرية وتدهور أعداد بعضها الآخر مثل الأسود والفهود وحمر الوحش، لكن الوحدة الحادية عشرة فصلت هذا الموضوع المحزن بالكتابة عن حيوانات تدهورت أعدادها مثل النمور والذئاب والمها، وأرجعت أسباب التدهور إلى الاستطباب، والإسراف في القنص خاصة من طبقات اشتهرت عبر التاريخ بولعها في هذه الرياضة.
أخيرًا احتوى المجلد الثالث على الوحدة الثانية عشرة وموضوعها الحياة الفطرية في شبه الجزيرة العربية في المصادر الإغريقية واللاتينية، وهذا جهد بحثي باذخ يحسب لمؤلفنا ولا يستغرب منه. أما الوحدة الثالثة عشرة والأخيرة فجمعت مشاهدات الرحالين الأجانب عن الحياة الفطرية في المملكة العربية السعودية بداية من القرن الخامس عشر حتى منتصف القرن العشرين، وهي وحدة طويلة ماتعة كما هو شأن كتب الرحلات. في نهاية هذا المجلد سرد المؤلف مراجعه العربية والأجنبية، ووضع الكشاف العام. إن التكشيف عمل مرهق يلي نهاية التأليف؛ بيد أنه ينفع القارئ، ويدل على مدى عناية المؤلف بمادته وقارئه، وعلى نصبه في الدرس والبحث والتدوين.
آن لنا أن تمتلئ قلوبنا فرحة بالمنتجات العلمية السعودية مثل هذه الموسوعة، علمًا أنه سبق للمؤلف البروفيسور الوليعي ترجمة موسوعة أخرى وتحريرها والتعليق عليها ونشرها بعنوان “معجم البلدان والقبائل في شبه الجزيرة العربية والعراق وجنوبي الأردن وسيناء”. إن هذه المؤلفات المتينة والمستوعبة لا تمنع الأجانب من الخوض في دراسات إنسانية تخصنا بيد أنها سوف تجبرهم على الرجوع إليها والاستقاء منها، وستغدو منجزًا منافسًا في المكتبات والأروقة العلمية. إن هذه الأعمال لتؤكد العراقة الأصيلة العميقة لبلادنا وأهلها، والحمدلله.
لقد أضعف الإسلام روح الصيد الجائر في النفوس سعيًا إعادة التوازن البيئي. كما كان لحكومة المملكة عبر تاريخها جهود عملية وتنظيمية، وغاية منى المختصين أن يُحافظ على البيئة والحياة الفطرية، حتى جاء عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله وأمتع به-، وما تبعه من إعادة تنظيم للأجهزة وتحديث أو ابتداء للتشريعات في هذا الباب، وصولًا إلى رؤية المملكة (2030) التي قادها سمو ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان -وفقه الله-، وفيها نصوص تخص هذا الشأن، وتبعتها المحميات الملكية، والتشريعات الجديدة، والأجهزة المعنية لحماية البيئة، فأحدثت هذه الأمور مجتمعة تغييرات كبرى، وانتقالًا غير مسبوق ولا متخيل، من أجل بيئة صحية خضراء متنوعة، بلا جور ولا تصحر ولا انقراض، والمستقبل في هذا الحقل الخصيب يحمل بحول المولى من الخير المزيد المزيد.
الرياض- الأربعاء 06 من شهر ربيع الآخر عام 1446
09 من شهر أكتوبر عام 2024م