سير وأعلام قراءة وكتابة

كتبت عنهم وهذا بعض ما جرى!

كتبت عنهم وهذا بعض ما جرى!

كتبت عن شخصيات عديدة من الراحلين والأحياء. تلك المقالات منها ما تطور إلى كتاب دون سابق قصد. بعض هذه الشخصيات كتبت عنها عدة مرات، وبعضها لدي عنها مادة إضافية لكن الوقت لا يسعف. ثمت شخصيات تنتظر المادة المحفوظة لدي عنها إكمالًا أو تأكدًا قبل النشر، والله منه نستلهم العون والسداد. هذه الكتابات الكثيرة جلبت حسنات، ومن المؤكد أن لها آثارًا أخرى. من المهم الإشارة إلى أن أصل الكتابة السيرية لم يكن لطلب مصلحة شخصية، أقول هذا حكاية عمّا في نفسي، وما في نفوس الآخرين لهم وعليهم ولا شأن لي به.

لا يفهم من هذا أني زاهد في المكاسب؛ فالمراد فقط أنها لم تكن باعثة الكتابة من مرقدها. لذلك حين همس البعض لي متسائلًا: بشر عن المغانم؟ أجبتهم: ليس سوى خيار وطماط! هما نعمة يحمد الرب الجليل عليها ولا يستهان بها، خاصة إذا تصاحب معهما في صحن واحد زيت أصلي، وبصل فاخر. لهذه السَّلطة قصص لطيفة سوف أنبئكم عنها لكن في مقال آخر لاحقًا. بالمناسبة كلمة “لاحقًا” تغضب بعض من حولي.

المهم أنه وقعت لي قصص بعد تلك الكتابات السيرية التي أعان الله على انتشارها مع اختلاف في مستوى الذيوع حسب نشاط من يرتبط بالشخصية أو يحبها؛ لأني مع الأسف ضعيف في النشر بالجملة. من هذه القصص أن أحد الرجال الكبار قدرًا وعمرًا تواصل معي لنقل رسالة من رجل عيَّنه وأسماه. خلاصة الرسالة الاعتراض على ما كتبته عن أحد رؤوس مهنة مشتركة بين المكتوب عنه والمعترض الذي يزعم أن من ترجمتُ له صلف متغطرس خلافًا لما دونته عنه. قلت للناقل بعد شكره: لم أكتب عن ذلكم المهني الكبير إلّا بعد أن سألت قريبًا من أربعين إنسانًا ممن تعاملوا معه على اختلاف أزمان التعامل وطبيعته ومواقعهم منه، وأجزم أن اتفاقهم بالثناء عليه أقوى من قدح إنسان واحد، فضلًا عن معرفتي به عن قرب. وافقني الناقل على هذا المذهب، وموافقته حقيقية؛ لأنه عاقل ولا شيء يدعوه لمجاملتي.

لا أنسى في هذا السياق أني كتبت مرة عن شخصية راحلة منذ عقود، وراق لي إكمال البحث عنه. لأجل ذلك سألت أحد العارفين لعله يعلم بعض ما جهلته، أو يسأل بعض زملائه من بلديي هذا الرجل. بعد مدة قال لي هذا العارف: سألت فلانًا -وسماه-، وحين علم أنك صاحب السؤال الأصلي رفض التجاوب مردفًا رفضه بقوله: ألا يكفي كتابة مقال واحد! طبعًا غضبت من جوابه الذي فهمت منه حسد الميت على كلمة ثناء عابرة، وقادني غضبي لكتابة غير مقال عن هذا الراحل، ولو تفرغت يومًا فلدي مادة تحوي المزيد عنه، وتستحق النشر.

كما وقعت لي طرائف غريبة حين كتبت عن بعض الشخصيات. اتصل بي رجل لا أعرفه يشكو النجل الأكبر لشخصية كتبت عنها، ويتهمه بأكل ماله وسوء التعامل التجاري معه، فأخبرته بأني لست جهاز ضبط ولا تحقيق ولا محاكمة! آخر تواصل معي حانقًا لأن القاضي الذي ترجمت له حكم على ابن هذا الحانق بالسجن، فهل يعتقد المسكين أني محكمة استئناف؟! شخص ثالث أعلم من صفاته التي ابتلي بها الحدية وسوء الفهم، ورأيه عندي في الآخرين ساقط لكثرة ما سمعت منه عن معاصرين وقدماء من تخليط وغثاء؛ لأجل ذلك لم أحفل بنقده، ولم آبه لكلماته التي لا قيمة لها في أي ميزان، مع أني لا أجفل من مبدأ النقد، وموقفي هذا من النقد أعلنه حقيقة لا تصنعًا، ومن اختبرني يستطيع الحكم.

‏ومن ملح الكتابة عن الشخصيات أني مرة كتبت رثاء عن شاب ثري راحل؛ فتقاطرت على حسابي في منصة “إكس”، وعلى بريدي والواتساب طلبات الشفاعة والاقتراض وحل الإشكالات المالية. هذه علّة تترافق مع أي كتابة عن وجيه أو ثري. إن أصحاب الحاجات، وأهل الاستذكاء والحيل، يعتقدون أن الكتابة عن الأثرياء والوجهاء لها لازم هو الصلة الوثيقة، والمعرفة اللصيقة، والأهلية للشفاعة، أو الصلاحية لجعل الكاتب جسر عبور حربي! ليست الطريق هنالك، والكتابة السيرية لا تستوجب اللقيا والمعايشة أبدًا. إن حصل الاقتراب فهو أفضل وأدعى للإصابة، وفقدانه لا يمنع من الكتابة.

‏ كذلك تصلني مقترحات كثيرة للكتابة عن شخصيات. بعض هذه المقترحات تكون عن أسماء سبق لي الكتابة عنها؛ فيصبح المقترح فرصة لدفع رابط المقال إلى من سأل، فلست كثير الإرسال لمنتجاته كما يصنع آخرون، وصنيعهم هو الأصوب. بعض هذه المقترحات تكون مشفوعة بسيرة من ابن عن أبيه، أو طالب لشيخه، ومع تقديري لوفائهم وحسن عهدهم إلّا أن ما أرسلوه لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يخدمني في كتابة تليق بي وبالقارئ وبالمكتوب عنه.

بعض هذه المقترحات تكون عن راحلين فضلاء، ومع تفهمي لرغبة من تمنى عليّ الكتابة، إلّا أنه يصعب الكتابة في كل وقت، عن كل راحل، وإلّا صدّق البعض أني لا أكتب إلّا عن الأموات! طبعًا هذا قول غير صحيح، والواقع يفنده، وهو لا يعيبني البتة وإنما أوضح فقط. من الطريف أني حين أكتب عن إنسان حي يقول لي بعضهم: نخشى عليه من الفتنة! في كلا الحالين، أشكر حملة القولين، وأتقيد بما يهديني الله له بعد الاستخارة؛ إذ لا أنشر قبل صلاة الاستخارة غالبًا، وأما رضى البشر فغاية لا تدرك ولا حتى عشرها.

 مما أذكره أني نويت الكتابة عن ثري مبارك راحل، وطفقت أجمع عنه أخباره، إلى أن هاتفني نجله الأكبر شاكرًا ومستمهلًا؛ لأنهم في طور نشر كتاب عن أبيهم، وقد فعلوا، وأرسلوا لي نسخة كتبت عنها في حينه ما أسعد أبناءه وبناته. وكتبت عن راحل قديم، فاتصل بي نجله من خارج المملكة، وبعد الشكر قال بلطف: لدينا مشروع إصدار كتاب عن الوالد، ومقالك “أحرق” علينا الكتاب! فأجبته بأن المقال القصير لا يحرق الكتاب، وأنه يمكن لي حجب المقال الآن! فأبى وطلب استمرار النشر. مرّ على هذه المكالمة سنوات غير قليلة، ولا أعلم حتى الآن بصدور أي كتاب عن والده!

ثالث هذه الحكايات كانت عن رجل معاصر، بلغه أني أُعدُّ العدة للكتابة عنه؛ فهاتفني شاكرًا شافعًا الشكر برغبته في تأجيل الكتابة عنه لأسباب وجيهة، وقد فعلت مع أن مالدي عنه شبه مكتمل. آخر أمر وقع لي حديثًا من هذا الباب هو أني نويت الكتابة عن علمين كبيرين راحلين، فتواصلت مع حفيد لهما، وبيننا تواصل هاتفي فقط؛ فأخبرني بقرب طباعة كتاب عنهما، وعليه قررت التوقف انتظارًا لهذا الكتاب عجل الله به. نيات الكتابة وليس نواياه – النوايا جمع ناوية وهي الناقة فيما أذكر- كثيرة تتوالد، والله يمدني وغيري بفيوض مدده وتوفيقه.

الطرف لا تنتهي، منها أني سألت واحدًا عن قريب له، وقرابتهما من أقوى درجات القرابة، فقال لي: كم تدفع لأحدثك؟! قلت له: لا شيء، ولعلك أن تكون شريكًا معي في الأجر بريئًا من أي وزر. هل أنا بحاجة لإخباركم أنه لم ينبس ببنت شفه! وأن تصرفه الغريب هذا حضني حضًا وحثني حثًا لإنجاز المادة عن قريبه ونشرها! من الطرائف أني حضرت برنامجًا تدريبيًا، وخلاف المعتاد شرع المدرب بتعريف المشاركين معه وكنا قلة قليلة. بعد أن عرفني إليهم، سألني أحد المشاركين بتبختر: هل سبق لك الكتابة عن غازي القصيبي؟! سؤاله ماكر؛ إذ ظن أنه سيحرجني بالجواب، لكني ألجمته بقولي: كتبت عنه خمس مرات! طبعًا هذا العدد زاد الآن، والمهم أن المستملح بالسؤال خنس فلم نشعر بوجوده طيلة ساعات التدريب الطوال.

امتناع بعض الناس عن المشاركة والتعاون لأسباب وجيهة أو غير وجيهة، يقابله سرعة استجابة آخرين، وتفاعلهم بتخصيص الوقت والجود بالمعلومات؛ بل إن بعضهم يتحدث وهو يبكي محبة للشخصية التي يتناولها ويروي عنها. هذه الاستجابة الكريمة المشكورة قد تعرّض بعضهم إلى اللوم والعتب، من ذلك أن معالي الشيخ عبدالعزيز الراشد -رحمه الله- اتصل بأحد مصادري عاتبًا على إخباره إياي ببعض الوقائع التي لا يعرفها إلّا المصدر الذي سعد بتواصل أبي وائل معه بعد أن انقطعا عن بعضهما عدة عقود بسبب الانتقال والانشغال. ماكتبته عن هذا الرجل النزيه هو من الكتابات السيرية التي ملأت نفسي غبطة وحبورًا.

 من التفاعل الانتقادي مع بعض ما أكتبه أن بعض القراء يتعجب من الكتابة عن شخصية لا تخلو من ملاحظات، أو شخصية مغمورة. أقول لهم: من فينا كامل نقي؟ وأكرر بأني أكتب بالدرجة الأولى من أجل الفكرة والمبادئ والعراقة التي تعبر عنها الشخصية قبل أن أتغيا التعريف بالشخصية نفسها. لذلك فأحيانًا يكون ليس لدي، وربما ليس لدى غيري، معلومات كثيرة عن شخص ما؛ فتغدو الكتابة عنه إلى التحليل وتجلية المبادئ أقرب منها إلى الإخبار، فتصلني سهام نقد صادقة أو غيرها، وأحيانا أقول لبعضهم: دعنا نرى مهاراتك وقدراتك فاكتب عنه لنستفيد! وما أحد من النقاد فعل فيما أعلم. بالمناسبة النقد يقوى عليه تقريبًا أي أحد، بيد أنه ليس أي أحد يقوى على العمل.

أنا أفرح بمن يكتب ما ينفع أيًا كان مجال الكتابة، وأسعد بكثرة الكتّاب في باب السير والتراجم والتاريخ. لكني غير كلف بتقييم أعمال الآخرين؛ فعسى أن نضبط ما وكل إلينا أو تطوعنا به، مع أن أصل النقد الصادق الأمين العلمي مقبول بل مطلوب. من الانصاف الإشارة إلى أن بعض الكرام ممن هم أهل للكتابة والتدوين قد استأخروا عن غشيان هذا الميدان ولهم وجهة نظرهم؛ لكنهم لم يتأخروا في المساندة والإمداد والتصحيح والنصح. إن أجر أولئك الخيرة على الله الكريم العزيز، وما أعظم حظ من كان حوله من أمثالهم مؤازرين مسددين مكملين، سلّمهم الله وسلّم لهم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 30 من شهر ربيع الأول عام 1446

03 من شهر أكتوبر عام 2024م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. مقالة بديعه، فيها وصف للجانب المُتعب الممتع من الكتابة؛ لم أكن أتصور أن كل تلك المقالات السيرّية التي تكتبها تحمل كل تلك الحكايا والمشاهد ومواقف البعض منها يعكس أنانية مفرطة وربما لاتخلو من اللئم، اما العجيب أن حتى الميت لم يسلم من حسد -بعض-الأحياء..
    طافت هذه المقالة بي نحو عالم الكتابة و صدق ميخائيل نعيمة حين ذكر”الكتابة عمل مرهق كسائر الأعمال البنّاءة. إلا أنه عمل لذته لا تفوقها لذة، وهي لذة قلما يتذوقها الكسالى وما دامت أقلامكم عزيزة فأنتم أعزاء”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)