سير وأعلام

بشاير المقبل: قافية النبل والثبات!

بشاير المقبل: قافية النبل والثبات!

رحم الله الشاعرة الطيبة المباركة، سليلة الكرام الميامين ‫بشاير المقبل، التي تسامع الناس بنبأ وفاتها اليوم، وسوف يصلى عليها غدًا بأحد مساجد محافظة المذنب الجميلة في القصيم. تقبلها الله بعفوه، وأكرم وفادتها عليه وهو البر الكريم، وجبر مصاب ذويها النبلاء الفضلاء؛ فأي فقدٍ رزئوا به، وأي غيابٍ حلّ بساحتهم. إن إخبار الوفيات هذا الأسبوع من أكثر ما تواردت به الأخبار؛ فاللهم ارحم راحلينا، واحفظ بالإيمان الباقين، وصبّر ذوي الأموات واجبر كسرهم.

‏تخرجت بشاير في إحدى الجامعات بعد دراسة تخصص القانون، فازت بالجوائز المحلية والإقليمية، أبدعت بالشعر في معناه ومبناه وإلقائه، بهرت المحافل بحضور واثق ليس في الأداء فقط، إنما بمظهر الاعتزاز، وجمال الستر، مع أن بعض العالم يضج بالعري، ويسرف بالدعوة إليه. لم تخرم البشاير بمشاركاتها العامة دينًا ولا مروءة. لم تجلب السوء لأسرة أو قبيلة، وحاشا الشموس الأنوف ذلك. إن موهبتها الفذة، وتخصصها الحيوي، لو اجتمعا في إنسان غير موفق ولا مصان، ربما كانتا من أسباب هلكته، والسير في طريق أوله شيطان مريد، وآخره شيطان عربيد، وبينهما شياطين فسقة تؤز السالك أزًا أزًا.

بيد أن ابنة بلادي الأبية العفيفة الثابتة على التربية القويمة والدين القِيَم، عبّرت بحق عن عراقة المجتمع النسائي في ديارنا وديار المسلمين، وعن أصالته الباسقة، وعن تغازر الفضائل فيه. لقد قالت بلسان الحال القصيح فصاحة نظمها إن ما يطفو على السطح، وما يُدفع للبروز عبر المنصات، وما قد يُراد له الانتشار والتعيم، ليس هو مطلق الواقع، ولا عين الحقيقة. هو سراب خادع، جفاء ذاهب، برق خلّب، غرارة صبا، شقاوة عقل، وما أكثر ما يسكن أصحابها بعد سنون وأحداث. إن المرأة المسلمة بتصونها لدرع حصين يصدّ العوادي المعنوية والمادية، ويحطم الإفك والفرى تحطيمًا.

إن الحقائق التي تصدق لوصف المجتمعات والبلاد والأحوال هي ما يستقر في أفئدة وعقول عبر الزمن وإن خفت أو كبتت لسبب أو آخر. إن الحقائق لا تكون إلّا مع أهل المواهب والحجى والفصل ومنهم، وإن أنكر تميزهم من أنكر، وإن بخس مقدارهم من بخس. يا لها من حياة كئيبة حين تعلو التفاهة ومن جرى في ركابها، يا لها من حياة مظلمة عندما تسيطر أفكار ونماذج ملتصقة بالحضيض والوحل. لكن العزاء أنها حال مؤقتة زائلة ولا مناص، العزاء أن المكر والبغي والنكث عائد على أهله الذبن احترحوه، وأن العاقبة ستكون للمتقين يورثها لهم ربهم العزيز القدير.

ثم إن بشاير التي ضربت المثل الناصع بسترها، ومقامها العزبز الرفيع، وبعدها عن الانغماس فيما يستجلب الشهرة وملايين الإعلانات، قد أبدعت من الشعر ما يحفظ نبيل المبادئ، وجليل المعاني، ومعالي الشيم. ها هي تعلي من قدر الإخوة، وما أكثر ما تنفصم العُرى بين الإخوة والأخوات بأسباب واهية، بيد أن بشاير أحاطت هذه العلاقة بسياج من ذهب، وخاطبت أخاها علانية معلنة الحب والافتخار، ومبتهلة بما تحقق بعد سنوات:

ويالله عساني قبله بصف الآجال

‏ويلقون غلاته بصفحتي ينشدونه

وقد ارتحلت قبله رحمها الله، وعرف الناس قدر أخيها عندها، وتيقنوا من صدق بوحها بمحبته وإغلاء قيمته، وجعلتنا نوقن أن الخنساء باقية فينا، ما بقيت خنساء باسقة، وما بقي صخر شهم حنون!

أما على صعيد الذات والتعامل مع الآخرين فقد أبدعت بكثير من جميل القول، منه أن سطرت هذه الكلمات:

كلّ كلمة بلعنا شرّها بـ الكلايف

‏جعلها بالصحايف عند ربي ثقيلة

وما أعظم أجر كظم الغيظ، والعفو الناس، والصفح والإعراض عن الجاهلين، والابتعاد عن المراء الذي يحبه فئام من الناس لدرجة الكلف المرَضي.

كما تسامت الشاعرة بشاير المقبل التميمي بنظرة للحياة وطبائع البشر، تدعو إلى العيش في بحبوحة الخلق الحسن، والانعتاق من أسر مجابهة السوء بمثله، حين قالت:

الحياة أجوديه ما تطيب لحقود

‏وأسود القلب والله مايشوف الهنا

‏لا تكدّر ولا يبقى بهالقلب عُود

‏كل ما تزرعه كفك . تذوقه جنا

‏وإن تِسعّر قليبك من خويٍ جحود

‏قل عسى الله ؛ يجعلني عَنَه في غِنا

‏ما تشح العباد  إلا وربك يجود

‏وما إبتعد عنك شيّ .. إلا وغيره دنا

كما ابتدأت قصيدة لها من روائع شعرها واصفة تعاطيها الداخلي بأنها “ماني بْـ عازة وأشيل إثم الظنون”؛ لذلك تركت الظنون، وهجرت عوالمها الخانقة للنفس، وتركت الخلق لخالقهم؛ لأنها تؤمن بالمصير طبقًا لما ختمت به القصيدة بقولها: “ما خلق ربي جهنم من عبث”، والله يعيذنا وإياكم وإياها من النار، ويجعل الجنة مآلنا ومآلكم ومآل راحلتنا الكريمة. هذه الجنة هي التي كتبت عنها بشاير تغريدة نفيسة على منصة إكس: “الجنه بالنسبة لي ليست مجرد تلك الحدائق والطعام … الترف اللامتناهي .. ! إنها الحقائق التي أجهلها، الشغف الذي افتقده، الروح المشتعلة بالحياة، والأماكن التي لم يمنحني إياها العمر، الحب الذي بخلت به الدنيا، الفرح الذي لا تتسع له الأرض، الوجوه التي حرمت منها هنا…”. اللهم اجعلنا وإياها ومن يقرأ ويؤمن وينشر الخير من أهل أعالي الجنان، ومن المستقرين في فردوسها العالي.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 17 من شهر ربيع الأول عام 1446

21 من شهر سبتمبر عام 2024م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)