سير وأعلام

الأمير عبدالله بن محمد بن سعود: الفارس الجامع والجامعة!

الأمير عبدالله بن محمد بن سعود: الفارس الجامع والجامعة!

مع عظيم الأسف؛ ليس لدينا الكثير عن الأمير عبد الله بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع بن ربيعة المريدي (1137-1227= 1725-1812م). مع ذلك فإن الكم القليل المعروف عنه يمكن أن يعطينا كيفًا لافتًا فيه صورة واضحة عن الأمير، وكم في يسير الروايات من دلالات وإشارات. هذه المعاني المستنبطة من المعلومات القليلة تخفف بعض الأسى، وتجبر جزءًا من النقص، وعسى أن يكون فيها ما يحفظ لصاحب السيرة مكانته، وآثاره، وشيئًا مما يستحقه.

أول معلم جلي يتضح لنا في سيرة الأمير عبدالله أنه شارك مع والده الإمام المؤسس محمد بن سعود (1090-1179=1679-1765م)، ومع شقيقه الإمام عبدالعزيز بن محمد (1133-1218=1721-1803م)، ولم تكن مشاركته مدنية مأمونة العواقب فقط، وهي ليست مشاركة يمكن أن تطوى؛ بل هي في غالب تطبيقاتها أعمال عسكرية حربية خالدة تكتنفها أخطار القتل والقطع والأسر، فضلًا عن مشاق الارتحال، ووعثاء السفر، وتوالي الاغتراب، ومفارقة الأوطان والأحباب، إلى أن دانت الأرض العربية الأصيلة ومن عليها للمشروع العظيم، والفكرة النبيلة.

ثم إن هذه المشاركة التي جادت بالنفس والنفيس لم تكن في مقابل شيء شخصي خالص ومضمون، أو رجاء نيل منفعة قاصرة على صاحبها وهو يتقحم المهالك، ويجوب الصحاري، ويتنقل غير هياب بين ميادين الوغى، حتى عندما غادر شقيقه الحاكم الحياة قبله بعقد من الزمان، وإنما هو الإيمان بالفكرة، والتضحية في سبيل الله، وعرض النفس الواحدة على المهالك مرة تلو مرة دون انزواء أو بحث عن السلامة أو مساومة قبل الإقدام، وهذا من صفات العراقة للمجتمع وأهله، وللأسرة وأفرادها.

ليس هذا فحسب، ذلك أن الأمير الفارس حين ألقى بنفسه في هاتيك الميادين الوعرة المحاطة بالمخاطر، والمعرضة للتلف الكامل أو الجزئي في أي لحظة، لم يكتف بنفسه، وإن النفس وحدها لغالية ثمينة، بل اصطحب معه أبناءه، وما شيء أغلى عند الوالد من ولده؛ فتدربوا بين يديه على قوة القلب، والفروسية، وفنون المعارك، وتجارب التدبير فيها، فصاروا وإياه من أقدم فرسان الدولة، وجنودها.

شارك هؤلاء الأبطال مع والدهم الأمير الفارس في الهجوم وفي المدافعة، وفي المسير والمرابطة، حتى أصبح مصيرهم القتل أو الأسر، واضطر أحدهم للاختفاء عن الأنظار في البراري والجبال، وغدا المطلوب الأهم لمن يظفر به كي يوأد الحلم، ويقطع أرجى الطرق لاستعادة المشروع، ويمنع أقوى ذوي الشأن وأقدرهم على استرجاعه من النجاح في هذه المسؤولية التاريخية، فلم تفلح المحاولات من العدى والقوى، حتى استقام الأمر بعد طول معالجة وعنت للإمام تركي، نجل الأمير الفارس عبدالله بن محمد بن سعود، الذي كان قائد الجيوش، وذا البأس الشديد، وصاحب السطوة والرجفة، فلكأن النجل الكبير تشرب صفات والده كلها، وورثها عنه، ثمّ زاد عليها وأربى، حتى أعاد التاريخ إلى مجراه بتوفيق من الله وفضل.

كذلك مما يلفت النظر في سيرة هذا الأمير الشجاع، أنه الوحيد الذي يرتبط بصلة قوية وقريبة وربما مباشرة مع جميع أئمة الدولة السعودية وملوكها، فهو نجل المؤسس، وشقيق الإمام عبدالعزيز، وعم الإمامين سعود بن عبدالعزيز وعبدالله بن سعود -رحمهم الله وغفر لهم-. كما أنه والد الإمام تركي المؤسس الثاني، وجد الإمام فيصل بن تركي وأنجاله، وجد للإمام الملك المؤسس عبدالعزيز ولذريته وأحفاده الملوك من بعده -رحم الله الراحلين منهم وحفظ الأحياء وأمتع بهم-.

كما أن الأمير الفارس عبدالله هو الوحيد الذي يمكن أن يوصف بأنه نجل مؤسس دولة، ووالد مؤسس دولة كذلك، وجد مؤسس دولة حديثة أيضًا. وقد تحصلت ذريته الملكية على ما فقده جدهم الشجاع إبان انصرافه الطويل صوب المشروع بعيدًا عن أي حسابات ومناصب، ودون التفات لمغنم فردي أو مكسب ذاتي، فأبقت هذه الذرية الملكية الحاكمة لجدها العظيم الذكر العطر، والصيت البعيد. هذه المنزلة العالية للأمير الفارس أتت إليه تسعى بلا اعتساف أو استكراه، وبلا دعوى مصطنعة؛ فهو شخصية أساسية في تاريخنا، وركن مهم من أركان الفكرة والمشروع والدولة، ومثله لا يُغفل عن أثره، ولا يُحجب خبره.

فعلًا لقد كان هذا الأمير رابطًا جامعًا بين أفراد السلسلة السعودية الحاكمة، وهي مزية تجلت فيه أكثر من غيره فهو الابن والشقيق والعم والأب والجد، وهو القدوة في الإخلاص والمضاء. حقًا لقد كان الأمير عبدالله بن محمد بن سعود بمثابة جامعة عريقة في علوم القيادة، والحرب، والأركان، وفي الشؤون العسكرية والأمنية، وما أجدر أن تحمل اسمه الكريم جامعة عسكرية في بلادنا، تضم تحتها الكليات العسكرية كافة، وإنه لحقيق بهذا، وقمين بمزيد التبجيل والإكرام، وبالكثير الكثير من الدعاء بالرحمة والرضوان، وما هذا المطلب ببعيد عن التحقيق؛ فنحن أمة الوفاء وحفظ العهد، والاعتراف بالفضل لأهله.

 أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-المدينة النبوية

ahmalassaf@

 الثلاثاء 09 من شهرِ صفر عام 1446

13 من شهر أغسطس عام 2024م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)