سياسة واقتصاد سير وأعلام مواسم ومجتمع

المستشرقون والحج

المستشرقون والحج

الاستشراق  عمل قديم باق بغض النظر عن الأسماء التي تطلق على القائمين بها في كل عصر، وربما أن وصف “الاستشراق” اختير لحياديته وارتباطه بالجهات بعيدًا عن المعتقدات والأفكار والأهداف، بيد أن حقيقته أو ظنون الآخرين عنه وتصوراتهم له التصقت به حتى صار للكلمة مدلول وإيحاء يتجاوز الجهة والمكان، ويعبر عن الحقائق والأوهام بمبالغات أو بدون، حتى غدا وصمة يتهرب منها بعض الغربيين.

كما أن دوافع هذه الظاهرة أو هذا العلم لم تتغير على امتدادها وتنوعها وشمول أغراضها لأكثر الجوانب الاقتصادية والسياسية والعسكرية والعلمية والثقافية والمجتمعية. والغريب أن هالة الشك التي تحيط بالاستشراق القديم اختفت أمام ورثة المستشرقين من صحفيين استقصائيين وباحثين وعلماء إسلاميات وغيرهم، إذ يقبل الناس على فتح القلوب والأبواب لهم، وربما صدقوا منهم الأقوال، وآمنوا بالآراء دون روية أو تفحص، ولو كان المنتج المعرفي لعربي أو مسلم لأعمل أولئك السادرين أمام المحتوى الغربي جميع أدوات الشك المنهجي والمرضي بلا تردد أو مواربة!

إن الشرق عالم غامض جذاب لدى الغرب، واكتشافه والسرد حوله يمثل متعة وسبيل إثارة وكسب وشهرة، وتزداد المتعة إذا كانت المغامرة شاقة في أحوالها، وهي بالجملة شاقة على غربي يقدم من بيئة مختلفة، ومناخ بارد، وأعراف غير معهودة، إلى بلاد جافة وحارة، تنعدم فيها وسائل الرفاهية والحضارة التي سبق الغرب إليها، وتزداد قيمة المغامرة، ويرتفع مستوى الحرج، عندما يكون الهدف الوصول إلى بلاد مقدسة يمنع على غير المسلمين بلوغها وموافاة مواسمها، مثل الارتحال إلى مكة والمدينة شرفهما الله، وزادهما منعة وعزة.

ولا يمكن الجزم بأقدم الرحالة والمستشرقين الذين وصلوا إلى مكة والمدينة؛ لأن باب الاكتشاف في هذا المجال مفتوح ولا أظنه سيغلق، خاصة أن الأعمال الاستشراقية المكتوبة والمتاحة للعلن وصلت إلى مئة وعشرين ألف عمل كما ذكر أ.د.علي النملة في بعض كتبه أو أبحاثه، وهو أحد خبراء الاستشراق، والمراجع المعاصرة الموثوقة عنه، بما له من تآليف ودراسات علمية منشورة بعيدة عن آفتي التهويل والتهوين.

فأول أوروبي معروف زار مكة، وله انطباعات مدونة عنها، هو المستشرق الإيطالي “لودفيكو دي فارتيما”، الذي خلع على نفسه لقب الحاج “يونس المصري”، وقد دخل إلى مكة على أنه من جنود المماليك في مصر عام (908=1503م)، علمًا أنه مسبوق بأول من ادّعى الوصول إلى مكة المكرمة من المستشرقين وهو الملاح وتاجر البهارات الإيطالي ثم الإنجليزي “جون كابوت”، وكانت رحلته في حدود عام (884=1480م) ولكن لم يصل إلينا أي شيء مما كتب عن تلك الرحلة المفترضة، ويلاحظ أنها  وقعت زمنيًا قبل نازلة سقوط الأندلس، وقبل دعوى وصول الأوربيين إلى أمريكا بما أسموه زورًا اكتشاف أمريكا.

ومن أبرز المستشرقين الذين دخلوا إلى مكة، وعاينوا فريصة الحج، المستشرق الهولندي “سنوك” الذي كتب رسالة دكتوراه عن الحج، وعنوان رسالته: “أصل الحج في الإسلام”، وبناء على رحلته هذه وضعت هولندا إستراتيجيتها للتعامل مع بلاد المسلمين في جنوب شرق آسيا خاصة جاوة وبلاد الملايو التي تسمى “أندونيسيا” وهي تسمية محتل لا تمت إلى الحقيقة بصلة، علمًا أن أصل رحلته وغايتها متابعة حجاج جاوة، ومعرفة سر المقاومة الشديدة للمحتل بعد عودتهم من الحج. ويُعدّ هذا المستشرق من أقدم الذين التقطوا صورًا ثابتة لمكة والحجيج، وبالمناسبة فعالم الصور عن مكة والمدينة جدير بأن يلتفت إليه في التوثيق والتأليف؛ لحفظ التاريخ، وإبراز الجهود السعودية في الأماكن المقدسة.

ومن أطرف الرحلات الغربية لمكة رحلة الإنجليزي “جوزيف بيتس” الذي وقع أسيرًا على سواحل الجزائر عام (1088=1678م)، وهو شاب مفتون بالبحر وسفنه، ومن المحزن أن بعض المسلمين ينعت من أسروه بالقراصنة جريًا على المتداول في الكتب الأجنبية، وهم على التحقيق مدافعون عن بلادهم وحقوقها دفاعًا شرعيًا ومنطقيًا ضد من يريد نهب خيراتها دون دفع مقابل، وبلا توقير لمكانة البلاد وأهلها. وقد عُرف “بيتس” باسم “الحاج يوسف”، وهو أول إنجليزي معروف يزور مكة المكرمة ويكتب عن رحلته، علمًا أنه من فرط ذكائه وحيويته استطاع الإفلات والهرب بعد أداء الحج بالإكراه أول الأمر، بيد أنه انتفع من هذه الفرصة التاريخية التي منحها له سيده الجزائري، وللعلم فسواحل المغرب الغربي كانت عرضة لانتهاكات غربية كثيرة، وفي زمن مضى اضطرت أمريكا قبل عدة قرون إلى دفع الجزية لحاكم الجزائر لتحرير رهائن معتدين من أمريكا في أقدم اتصال لها بعالمنا الإسلامي!

أما أكثر المستشرقين استعدادًا لرحلة الحج بتعلم العربية، والدراسة الجامعية، والقراءة عن الإسلام وأهله، فهما المستشرق السويسري “جون لويس بركهاردت” الذي وصل إلى مكة شرفها الله عام (1229=1814م) مستفيدًا من وجود جيوش الباشا المصري ومن فيها من مرتزقة ذوي أصول أوروبية، بيد أن الخوف قد ركبه فأطلق على نفسه اسم “الشيخ إبراهيم”. ومع صغر سنه ووفاته المبكرة إلّا أن إرثه العلمي عن هذه الرحلة له قيمته عند علماء أوروبا، والثاني وهو مثله في الدقة والضبط المستشرق الإنجليزي “السير ريتشارد فرنسيس بيرتون” الذي دخل مكة قادمًا من المدينة عام (1269=1853م)، بعد أن أسمى نفسه “الحاج عبدالله”، وجاء بزي درويش قادم من الهند إذ كان يعمل في شركتها الشرقية التي جعلت الهند على ضخامتها تابعة للتاج البريطاني، وقد اهتبل بعضهم فرصة تحرك الحج المصري أو الشامي أو العراقي، وقدم معهم، مثل الإنجليزي “تشارلز داوتي” الذي وفد مع الحج الشامي عام (1292=1875م)، واختار لنفسه اسم “خليل”، وبالمناسبة فمن بركات رحلة الحج من قبل المستشرقين أن زاروا عدة بلاد عربية وإسلامية في طريقهم إلى الحجاز، وكتبوا عنها وعن أهلها.

أيضًا من الرحلات الشهيرة في عام (1221=1807م) رحلة الإسباني “دومنيكو باديا أي ليبليج”، بعد أن انتحل نسبًا عربيًا شريفًا بتسمية نفسه “علي بك العباسي”؛ فاستطاع التداخل مع الناس والمجتمع أكثر من غيره. ومنهم الرحالة الفرنسي “ليون روش” الذي تكبد عناء الوصول إلى الحجاز عام (1256=1841م) تحت اسم “عمر بن عبدالله”؛ للحصول على فتوى تحول بين أهل الجزائر وبين مقاومتهم لمغتصب بلادهم الفرنسي، ومما يجدر التنبيه إليه أن فرنسا في الجزائر، وبريطانيا في الهند، قد ذهلتا مما تلاقيه جيوشهما المعتدية الآثمة من أهل البلاد المسلمة المحتلة عقب عودة قوافل الحجيج إلى ديارهم.

ومن الرحلات الروسية رحلة الضابط الروسي “عبدالعزيز دولتشين” عام (1315=1898م)، التي أفاد فيها من معرفته بالعربية، وثقافته الإسلامية، وحياته العسكرية، علمًا أنه مسبوق برحلات عسكريين روس إلى مكة، مثل رحلة “عباس قولي آغا باقي خانوف” المؤرخ والفيلسوف والشاعر الأذربيجاني الذي عمل عقيدًا في الجيش الروسي، ومات في طريقه من مكة للمدينة عام (1261=1845م)، ولبعض الألمان رحلات حج معروفة مع قلة المدون عنها، ومثلهم للرحالة البرتغاليين الذين غصّ بهم القرن الخامس والسادس عشر الميلاديين، وهي قرون استعلاء برتغالي وهولندي وإسباني.

ولم تخل رحلة الحج من جوانب فنية؛ فالرسام الفرنسي “ناصر الدين دينيه” حج عام (1346=1928م)، ثمّ ألّف كتابًا عنوانه: “الحج إلى بيت الله الحرام”، وفيه لوحات مرسومة عن رحلة الحج، وربما أنها أول رسومات محفوظة عن هذه الرحلة الميمونة، أما التصوير فسبقه مواطنه الفنان الفرنسي “جرفيه كور تلمون” الذي أشهر إسلامه وتسمى”عبد الله البشير”، والتقط خمسين صورة نادرة عن مكة ضمنها كتابه “رحلتي إلى مكة”، التي تمت في عام (1311=1894م)، وبالمناسبة فالصور المكية القديمة ميدان ثقافي جميل للجمع والكتابة والحفظ في المتاحف والمعارض، وما أجدرنا بها.

كذلك وثق المؤلف والمخرج الأمريكي “مايكل وولف”  كتب الرحالة الغربيين عن الحج  في كتاب عناونه: ” ألف طريق إلى مكة”، واعتنى برحلات أشخاص مؤثرين مثل محمد أسد ومالكوم إكس -رحمهما الله-، علمًا أن رحلة محمد أسد، ورحلة مالك قد تحولتا إلى عمل وثائقي سينمائي، ومما يذكر أن الأول قد قابل الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وانبهر بشخصيته، والثاني التقى مع الملك فيصل -رحمه الله-، وكان ذلكم اللقاء سببًا في تصحيح إسلامه، علمًا أن بعض الرحالة القدماء حرصوا على الالتقاء بأئمة الدولة السعودية الأولى أو الثانية، والتعرف إلى حقيقة الدولة والدعوة وأناسها، واجتهدت بعض الكتب العربية والغربية في حصر هذه الرحلات، وضمها في مؤلف واحد، كما سعت مؤسسات ثقافية سعودية وخليجية وعربية إلى خدمة هذا الحقل الخصيب والماتع والنافع على ما فيه من مآخذ.

ومما يلفت النظر في رحلات المستشرقين إلى مكة بعض ماقالوه من كلمات وتعابير لها دلالاتها، مثل: “في مكة شيء يبعث على الرهبة والاندهاش”، ووصفوا الحجاج بقولهم: ” كان يبدو عليهم مقدار ما يكنّونه في نفوسهم من الاحترام والتقديس للبيت الحرام”، ومع صعوبة الطقس وطبيعة الجو إلّا أن أحدهم كتب: “خلال جميع رحلاتي في الشرق، لم أتمتع براحة كالتي عشتها في مكة، وسأحتفظ بذكريات جميلة عن إقامتي هنا”، وقال آخر: “شاهدت احتفالات دينية في مناطق مختلفة، لكنني لم أرَ مثل هذه المشاهد المهيبة والرائعة في أي مكان آخر”، ومن المكر والدهاء ما صرح به واحد منهم: “ليس هنالك من شخصية مناسبة للتخفّي في العالم الإسلامي أكثر من شخصية الدرويش”؛ فالحذر من “الدروايش” وأمثالهم من الفطنة والتيقظ! ومن اللافت أن أبدى رحالة مستشرق امتعاضه الشديد لأنه طوال إقامته بمكة “لم يشاهد وجه امرأة حرة قط!”، وجزم مستشرق بأن جميع من دخلوا إلى مكة أو الشرق بعامة تأثروا، فمنهم من أبدى التأثير ومنهم من جاهد لكتمانه، وأشار إلى أن أعظم تأثر كان في دخول بعضهم في دين الله الإسلام صدقًا وحقًا.

تبقى الإشارة إلى أن أعمال المستشرق إذا كانت تقارير خالصة لحكومته فهي تتميز بالدقة والتعبير عما يعتقده بوضوح، أما إذا كتبها للجمهور فلن تخلو من غرائب ومبالغات جاذبة، وسيحاول نسب الفضائل لنفسه وقومه وسلبها من الآخرين أو غمطهم حقوقهم، والمنصف من الفريقين سيجد الحواجز أمامه غليظة من الفروق في الثقافة وأسسها، والحضارة وقوادها، والتكوين وأصوله، والهوية ومرجعيتها، ولذلك فربما أخطأ في التحليل والفهم، أو غلبهم الهوى، مع أن فيهم من حرص على توخي الدقة، وتخفيف لهجة التجني، وفي جملة أعمالهم أخبار وعلوم مجتمعية، وبلدانية، وعوائد وطرائق، وبيان لمكونات المجتمع المكي والمدني، ومعلومات قد يعز الحصول عليها من مصادر أخرى، ومن حسنات بعضهم تصحيح صورة قومه عن المسلمين، ونفي بعض القصص المستهجنة الرائجة عن العرب والمسلمين في الوسط الأوروبي، ولا يخلو العمل الاستشراقي من أخطاء فادحة ومستغربة مثل اقتصار بعضهم على “الأغوات” في الحديث عن المجتمع المكي.

ولا مناص من الإشارة الختامية إلى الدرس من هذا كله، وخلاصته أن الغرب سيظل كما هو بنظرته لنا المتأثرة بحمولة ثقيلة من الحروب الصليبية، ومن التوسع الإسلامي في ديارهم، ولن تتغير صورتنا لديه مهما اجتهدنا في محاولة الظهور بما يرضيه، إذ لا يقتنع الناس عادة بغير القوة والعزة ومنطقهما، ولا يهابون إلّا العريق الثابت على مبادئه، المستمسك بأصوله، وأعظم من هذا الدرس تقرير حقيقة مفادها باختصار أن نور الله باق تام ظاهر ولو كره الكافرون ومن شايعهم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 05 من شهرِ ذي الحجة عام 1445

11 من شهر يونيو عام 2024م

Please follow and like us:

6 Comments

  1. كالعادة تأسرنا بمواضيعك المتميزة والربط الجميل بين الحدث والتأريخ المرتبط به كاتبنا المتميز، وفعلاً
    المسألة الاستشراقية ومجالات البحث فيها شائكة جدا ؛والدراسات النقدية لمواضيع الحج و الاستشراق هي مسألة بحثية صعبه،لأن طبيعة الحديث في هذا الموضوع لا يمكن ان يشكل كلامًا متجانسا متراصا ولاعقدة في قصة تخضع لوحدة الزمان والمكان ووحدة الفعل، بل إنها مجموع حركات معرفية تتباين فيها الأزمنة واللغات، وتختلف مستويات إدراكاتها وغايتها، لذا كل ما يرتبط بموضوع الاستشراق هو مبحث صعب، لأن الاستشراق محطات ومركبات فيها العديد من المزايا والمثالب.

  2. وأيضا الرحالة الفرنسي موريس تامزييه ترجمه كتابه الدكتور عبدالله ال زلفة للاسف مغالطات من الرحالة وقال أشياء
    مستحيل المسلمين بالحج يسوووها ( الحقد الفرنسي على المسلمين سواء أيام الملكية ولا الجمهورية )

  3. لا شرقية ولا غربية *** إسلامية عالمية رضي بها من رضي وأبى من أبى *** فليكن الحديث عن سلامة وصحة العقيدة *** بعيدا عن المعتقدين *** قال تعالى ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) يؤمن بها ويعييها ويدركها كل مخلوق يأتيه الموت *** نحن منه وإليه راجعون

  4. تستحق المتابعة مواضيعكم جديرة بالإطلاع والإهتمام سيروا على بركة الله والله في عونكم ولن يتركم عملكم بالتوفيق

  5. جزاك الله خيرا ، والله سروري في عيد الاضحى ، مشاهده موسم الحج ، حفظ الله العلي القدير بلاد الحرمين وحكامها وشعبها ، وكل العاملين المخلصين لما يبذلوه من جهود وخدمات لراحة حجاج بيت الله الحرام وأكثر ما لفت انتباهنا. العسكريون الذين يقومون على تيسير وراحة الحجاج، وافقين في عز الحر على ما يبذلونه من جد ليخدموا حجاج بيت الله الحرام ويرشوا على الحجاج الماء البارد ، وهم في عز جهدهم وفي درجة الحرارة العالية وفي لباسهم الرسمي ، الا جزاهم الله العلي القدير على ما يقومون به من جهود وهم يمثلون اجمل الشعائر الدينية وهو الحج ، كل الاحترام والتقدير من كل شريف ونزيه لجهودهم ، بارك الله في الأرحام الذي حملتهم ، وهم يمثلون بلاد الحرمين الشريفين زادها الله امنا واستقرارا ورفاها ،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)