سير وأعلام

عبدالله المعطاني ومنهج العطاء والنبل الدائم

من فضل الله على بلادنا المقدسة أن جعلها موئلًا للإسلام والعربية، فانعكست هذه الخصيصة العظمى على حكومتها ومجتمعها، إذ يمكن لنا المنافسة في مجالات عدة علمية وعملية أسوة بغيرنا، لكن حين يكون المجال في علوم الشريعة واللغة والسيرة النبوية وأشعار المعلقات والعرب الأوائل وتراث الأقدمين وديارهم، فلن يسبقنا في الغالب أحد، فنحن أهل المكان المرتبطين بجذوره وأصوله، فلا جرم أن نغدو الأقرب له، والأجود في التعبير عنه، أقول ذلك لا عصبية، ولا زاعمًا الكمال لكل فرد منا أو منجز، ولا نافيًا للإحسان عن غيرنا.

لذلك فليس بعجيب أن يكون لمعالي الأستاذ الدكتور عبدالله بن سالم بن جابر المعطاني -رحمه الله- (1372-1445=1953-2024م) تميز ظاهر للعيان ومشهود به من الأعيان في خدمة اللغة العربية دراسة، وتدريسًا، وتعليمًا، وتأليفًا، ومحاضرة، ودفاعاً عنها وعن مكانتها العليا وقدرها الأسنى، ولا غرو فهو الوليد والناشئ والمستقر في مكة، والمنتمي للسعودية والإسلام، والمنتسب لقبيلة هذيل التي حفظ شعراؤها الكبار لغتنا وأدبنا، حتى قيل في الدلالة على مكانة الإمام الشافعي اللغوية: إن الأصمعي راجع عليه ديوان أشعار هذيل، ولو لم تكن هذيل فصيحة حافظة للعربية لما قيل ذلك.

ولم يكتف أستاذنا الراحل يوم أمس الثلاثاء بهذا القدر، إذ منح طلبته مع متين العلم جميل التربية وصادق العون ودائم المؤازرة، وتلك لعمركم سمة العلماء والمخلصين. وقد اشتهر عنه اللطف والهدوء، والبعد عن الفئوية وعما يكدر صفو الزمالة والإخوة، والله يكثر فينا من يبتعد عن المراء والشللية، ويفر منهما فرار الحريص على الحياة من الأسد والأوبئة. وإن هذه الخصيصة لجديرة بالتداول خاصة بين حملة لواء العلم والتعليم خاصة، فطالبي العلم من أحوج الناس للرفق، والتصبير، والاصطبار عليهم ومعهم، ولذلك لم يتخل أستاذنا عن إسهاماته العلمية بالتدريس، والتأليف، ورئاسة الأقسام ووكالة الكليات، وعضوية المجالس العلمية بالجامعات، وكان موقرًا للعلم لا يجامل فيه البتة حتى وإن تعامل مع المخالفين بلطف، والله يكتب له الأجر؛ فالتعليم منجاة وتنمية وأمن، وله حمى جدير ألّا يستباح.

ثمّ ضرب المعطاني بسهمه الموفق في العمل الإداري والثقافي والدبلوماسي والحقوقي والشوري، وتولى أمانة جائزة الأمير خالد الفيصل للغة القرآن الكريم، ونال على سنواته في هذه الأعمال الثناء والتقدير من زملائه إبان العمل، وعقب مغادرته، وحينما ترجل عن مركب الدنيا إلى عالم البرزخ. وبادر نادي جدة الأدبي -وهو ناد ذو وفاء للأحياء والأموات- بتكريمه وإصدار كتاب عنه بعد استكتاب عدد من الأدباء والمفكرين، وسارع د.محمد المشوح لتنسيق موعد معه للاحتفاء به في الثلوثية، بيد أن القدر سبق إليه، والله يعوضه بدار الكرامة، ويجعله فرحًا مسرورًا في مثواه.

ونجد في السجل العلمي والعملي للأستاذ الدكتور عبدالله المعطاني أنه عمل في الجامعة، وحاضر فوق منابر عديدة محلية وإقليمة ودولية، وعمل في ملحقيات ثقافية، وشارك في جمعيات حقوق الإنسان، وخدم الثقافة وأهلها في إمارة مكة مستشارًا لأميرها وأمينًا لجائزته، وأصبح عضوًا في مجلس الشورى بضع سنوات فنائبًا للرئيس إلى انتهاء عضويته، ولم يتوقف نشاطه على هذه المحطات الرسمية الكثيرة والمرهقة، بل له مشاركاته الاجتماعية والمجتمعية، وعونه العلمي والأبوي للباحثين والدارسين.

ومع الأسى الذي يخامر القلب بالفقد، والحزن على أي راحل مبارك، إلّا أن العزاء بأن هذا الطريق مفتوح لكل كائن حي ولا مناص، والحمدلله أن نال الراحل شهادات وافرة بالخير والفضل ممن عرفوه وعايشوه وعاصروا مسيرته كلها أو بعضها، وانصب الثناء المستحق من أولئك الأوفياء على فقيدنا في علمه وعمله وخلقه، وأشيد بإتقانه ونصحه وغيرته على مكونات مجتمعه الحكومية والأهلية، وعلى ركائز ثقافته القائمة على الدين واللغة والتاريخ والتراث، حتى قال عنه د.سعيد بن عطية الغامدي في وصف أخاذ وشهادة نفيسة: “لي معه أكثر من موقف، جعلتني أقول عنه دائمًا: إنه من فئة النبلاء الناردة الراقية…”، ولا عجب يا قوم حين يكون المعطاني معطاء نبيلًا.

كما يسعد المرء أن يكون هؤلاء العلماء الأذكياء والأزكياء، والأفراد الصادقون الناصحون، في أعلى المناصب، وفي مواضع التجلة والتقدمة والتوقير الرسمي والشعبي، وأينما حلوا أو ظهروا، فمثلهم يحسن التعبير عن بلاده، ويجيد تمثيل أناسه، وهكذا يكون رجال الدولة الذين تزدان بهم الأماكن والأزمان. والحمدلله اولًا وآخرًا على ثبات عراقة مجتمعنا، وسمو منطلقاته، إذ يحفظ لأهل الفضل مناقبهم أحياء وأمواتًا، وينزل الناس في منازلهم التي يستأهلونها، وهذه محمدة للمجتمع وأهله، والله يغفر للراحل وجميع أمواتنا، ويربط على قلوب عائلته وإخوانه وقبيلته ومحبيه، وهنيئًا له لسان الصدق، والصلاة عليه في الحرم، ودفنه بشرائع مكة.

الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 22  من شهرِ شوال عام 1445

01 من شهر مايو عام 2024م

Please follow and like us:

One Comment

  1. ‏بارك الله فيك وفي رصين عباراتك .. وبديع إشاراتك ..ووفائك للأوفياء … ونبلك مع النبلاء الاموات منهم والأحياء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)