سير وأعلام عرض كتاب

جميل بين يدي عبدالعزيز!

جميل بين يدي عبدالعزيز!

تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقطعًا للشيخ جميل الحجيلان يتحدث فيه عن أول لقاء له مع الملك عبدالعزيز، علمًا أن الشيخ جميل واحد من عشرات الوزراء الذين عاصروا عهود سبعة ملوك؛ بيد أنه يكاد أن يكون الوحيد -من غير الأمراء الوزراء- الذي أدى مهامًا رسمية في هذه العهود، وربما أنه من قلة عملوا في جميع مراكزهم الوظيفية بأوامر من الملك سعود، والملك فيصل، والملك خالد، والملك فهد.

ظهر الشيخ جميل في المقطع المرئي الآنف ذكره متفاعلًا بحماسة لافتة، وهو حاضر الذاكرة، كأنما يصف مشهدًا وقع له بالأمس القريب، وفوق ذلك سُحر المشاهدون بنبرة صوته الأخاذة طبقتها، وبلغته العالية مفرداتها وتراكيبها، وبأدائه السليم نحوًا وصرفًا، وهي المحاسن ذاتها التي ميزته حينما اعتلى منصة التكريم في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مرتجلًا كلمة بليغة، بلا لحن خفي أو جلي، وبأداء جاذب يستوجب الانصات والتيقظ.

تعود حكاية هذا المقطع إلى سبعين عامًا تصرمت، وكان الشيخ جميل حينها شابًا حديث تجربة بالعمل الدبلوماسي في وزارة الخارجية السعودية بقرار من الأمير -الملك- فيصل، ولم يمض على عمله في الوزارة بجدة بضعة عشر شهرًا حتى جاء إليه رئيس الشعبة السياسية بالديوان الملكي الشيخ يوسف ياسين، وأخبره أنه سيرافق وزير الخارجية الإسباني للترجمة بينه وبين الملك عبدالعزيز؛ إذ لا يجيد أحد الفرنسية سواه، وهاهنا درس للأجيال من الشباب بأن يكثروا من سلوك سبل التعلّم، وفرص اكتساب المهارات، فما يدري أحد متى يكون لها أعظم قيمة!

فخاف الشاب العقيلي وتهيب من هذا اللقاء بزعيم مثل عبدالعزيز بما له من بسطة في الجسم، وسلطة في الحكم، حتى عبر عنها بقوله: يا لها من مهمة! لكن رجل الدولة الكبير الشيخ يوسف ياسين طمأنه، وعزز من ثقته بنفسه، واستنهض فيه حوافز التحدي والنظر للمستقبل المأمول بصعود لا يبلغه من ملأ الخوف جوفه، وفوق ذلك أنبأه عن طريقة الملك عبدالعزيز، وعن الكلمة التي يرددها إذا أسهب في الحديث، وهذا الإخبار الدقيق يدل على معرفة ياسينية بالملك ومناهجه العملية، وفيه نصح للوظيفة ولولي الأمر وللمترجم؛ كي يتم المراد على خير وجه وأكمل صفة، وهو ماكان، وتلك خصلة فيها سمو نفس وعلو همة؛ فبعض القريبين من ذوي السلطان والوجاهة يدفعون الناس عنهم دفعًا دفعًا!

وكان من جرأة الشاب الحجيلان المحمودة أن وافق على الإقدام، وقطع الليالي ساهرًا يفكر بهذه المهمة الاستثنائية، ويستعد للترجمة خاصة لكلمة الملك عبدالعزيز الحكيمة: “العزم أبو الحزم أبو الظفرات، والترك أبو الفرك أبو الحسرات”. ثم ركب الطائرة مع الضيف الإسباني من جدة ليحطا معًا لأول مرة في الرياض عاصمة البلاد السعودية التي كانت شبه خالية من الأنوار والمباني والطرق كما وصفها الوزير أبو عماد. وبعد ليلة مطيرة من ليالي أبريل-وهو من أشهر الغيث بالرياض بعد فضل الله- قضاها الرجلان القادمان من جدة بضيافة ولي العهد الأمير -الملك- سعود، وترجم فيها جميل بين ولي العهد والوزير، حتى لفت نظر سعود إليه؛ لأنه يراه لأول مرة، وعلم حينها بأن هذا الشاب من عقيلات دير الزور الذين تخرجوا في مصر.

ثم حانت الساعة المنتظرة بقلق وشوق معًا، وهي الساعة التي يجلس فيها الشاب الطلعة جميل الحجيلان بين يدي الملك عبدالعزيز، مترجمًا له ولضيفه الإسباني، ولا يمكن للمرء أن يعبر بسرعة من هذه اللحظات التي وصفها الشيخ جميل في سيرته الفريدة إلّا ويشعر بما وقع في عقل الشاب من انبهار، وفي نفسه من إجلال، وفي قلبه من مهابة، وفي عينه من جلالة، وفي جوارحه من حضور ومتابعة، وهو يرمق الملك وضيفه بأدب، وينصت لهما بخشوع، ويترجم بينهما بوضوح ودقة، حتى جاءت تلك اللحظة المحفوظ خبرها لدى المترجم نقلًا عن المستشار الأمين الشيخ يوسف ياسين.

إذ اعترض الملك عبدالعزيز على ما تعانيه الشعوب المغاربية العربية المسلمة من احتلال فرنسا، ومن مشاركة إسبانيا لها في السطو على أجزاء من المغرب، وقال الملك لضيفه: نحن نقول في ديارنا: “العزم أبو الحزم أبو الظفرات، والترك أبو الفرك أبو الحسرات”، فلم يتلعثم المترجم، أو يطلب إعادة الجملة، أو يبدو عليه أيّ ارتباك، وإنما ترجمها من فوره بطلاقة، بما أوجس معه الملك خيفة ألّا يكون الفتى قد فهمها، أو أجاد في نقلها للزائر، ولذا وجه عبدالعزيز السؤال لجميل قائلًا: ترجمتها يا ولدي! وعندها أكد جميل لمليكه أنه ترجمها كما أرادها الملك المؤسس، وانقطع الشك المنطقي ببرد اليقين.

إن بداية الصعود قد يكون من ترجمة! وإن أعظم خدمة للبلاد ستكون من خلال بنيها ذوي المكنة والأمانة والولاء والإخلاص، وإن مواقفنا العربية والإسلامية لأصيلة مبدأية منذ القدم، وإن استخدام كلماتنا وأمثالنا المحلية لدليل على العراقة والاعتزاز. وإن حفظ التاريخ والمواقف الملكية لمن الأهمية بمكان حتى تظل شاهدة في الأزمنة القادمة والأعصر التالية، وكي يفاد منها بالاقتباس أو الاقتداء، وهذا واجب على كل من شهد على جزء منها، وهو ما صنعه بإتقان مشهود معالي الشيخ جميل الحجيلان في سيرته المئوية سنواتها، الألفية صفحاتها، الماتعة جميع تفاصيلها وسردها، حتى لو كان موضع السرد حزينًا، أو عميقًا، أو شائكًا، وإني لأعلم علم اليقين الراسخ أن جمهرة من القراء يتحرون صدورها بلهف، وأن مكانها في السير العربية والسعودية قد كتب عليه بالخط العريض: يا لها من سيرة!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 11 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1445

24 من شهر ديسمبر عام 2023م

 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)