رجل الدولة مصطلح أخص من مصطلح السياسي أو المسؤول، ويمتاز رجل الدولة عن غيره بأن نظرته أبعد وأعمق، وأسلم من المصالح الشخصية أو الفئوية، وأنها مرتبطة بالمبادئ والأسس أكثر من تأثرها بالمجريات والحوادث دون أن تهملها. كما أن رجل الدولة يُعدُّ من حسنات من اصطفاه واستقطبه للعمل العام وأعانه، ولذا فإن جميع رجال الدولة هم من جملة إحسان ولاة الأمر في الانتقاء والتمكين، ولا ريب فملوك الدولة ورؤوسها في مرتبة الزعماء العظام التي تتضمن معنى رجل الدولة وأزيد.
ومن أهمية رجال الدولة أن قدرهم ظاهر، وفضلهم جلي؛ ولذلك قال الملك عبدالعزيز لمنصور بن رميح: “ليت في نجد منصورين”، وخاطب الملك سعود الوزير ابن سليمان قائلًا: “لك علينا مئة حق”، ورفض الملك فيصل استقالة رئيس الديوانين صالح العباد وقال له: نخرج معًا، وحفظًا من الملك خالد لتاريخ ابن ليلى أكرم حفيده ناصر، وعندما استعفى محمد النويصر قال له الملك فهد: تخرج من الديوان إذا رفعت صورتي منه، وفوض الملك عبدالله عبدالعزيز الصقير بقوله: افعل ما تراه يا أبا سعود، وتكاثرت النقول عن الملك سلمان -حفظه الله- بالثناء على نزاهة وزراء مثل أسامة شبكشي وناصر السلوم وغيرهما، ولا غرو فالنزاهة من سمات رجل الدولة، وهي أحد معاقد التطبيقات الظاهرة في عهد الملك سلمان.
وسوف نتحدث هنا بدون ألقاب طويلة عن رجال دولة سعوديين من الذين ترحلوا عن الحياة، أو ترجلوا عن المنصب؛ كي يكون الحديث أشدَّ تجردًا. ومما أشير إليه قبل الشروع في سرد النماذج أن التمثيل لا يعني الحصر؛ فالفوات متوقع بل هو كثير، وأن الله لم يكتب الكمال لبشر أو لعمل، وأن الصفة تدور مع الموقف وجودًا وعدمًا في الغالب، وأن جلّ من سترد أسماؤهم قد سبق لي الكتابة عنهم، والله يرحم الأموات، ويبارك على الأحياء ولهم، علمًا أني ألقيت هذه المادة أو أكثرها في اثنينية الذييب بالرياض، في ختام نشاطهم الأسبوعي المبارك، المقام بديوانهم العامر الذي أنشأه الوجيه الشيخ حمود بن عبدالله الذييب، وأقيمت فيه مئات الأمسيات النافعة المتنوعة، وقد صدر عن الاثنينية كتاب توثيقي ألفه د.عبدالله الرويشد، ووزعت أول النسخ منه خلال هذا اللقاء.
رجل الدولة والمكان المناسب:
حينما دخل الملك عبدالعزيز إلى حائل جعل الشيخ عبدالله بن بليهد قاضيًا عليها، وعندما دخل إلى الحجاز بعد بضع سنوات اختار الشيخ ابن بليهد أيضًا رئيسًا للقضاة ومشرفًا على شؤون الحرمين ثمّ مسؤولًا عن محاكم المدينة النبوية، وهذا الاصطفاء مع مراعاة حال الزمان وطبيعة المكان تدلان على أن هذا العالم الشرعي والبلداني بصير بسياسة الخصوم، حكيم في التصرفات، قادر على جذب الناس للدولة وإذابة الماضي، وأنه بارع في الحِجاج، ولذا قال كلمة حاسمة مسكتة لوفود البلدان الإسلامية في المؤتمر المكي عندما أكثروا الخوض فيما لا يعنيهم، فخاطبهم ابن بليهد قائلًا: حرروا بلادكم أولًا! وهو حينها عضو ضمن الوفد السعودي المشارك نيابة عن الملك عبدالعزيز.
رجل الدولة والمصلحة العليا:
عندما أصبح الشيخ عبدالله الطريقي أول وزير للنفط، وهو أول جيولوجي سعودي أو من أوائلهم، ومن أكثر الناس فهمًا لأسرار الصناعة النفطية، قدّم مصلحة بلاده وشعبه، ووقف في وجه شركات مشهورة بالقوة والنفوذ وربما السطوة، واستطاع مع آخرين استنقاذ حقّ الدولة في خيراتها، ولو كان صاحب غاية شخصية لتضخم حسابه من العمولات دون أن تتغير النسب، ولو شعروا منه بميل نحو الهوى لما توانوا في تحقيق أي مطلوب له بشرط أن يصمت عن جشعهم.
رجل الدولة وتاريخ بلاده ومكانتها:
فتح السفير الشيخ جميل الحجيلان قنوات اتصال مع رجال الإعلام والفكر والسياسة في البلد الذي يعمل فيه بإقامة المآدب في منزله. وصادف أن حضر إحداها الكاتب والمؤرخ الفرنسي “آلان دوكو”، ورأى صورة الملك عبدالعزيز؛ فقال للسفير: لا يعرف الفرنسيون إلا القليل عن “ابن سعود” هذه الشخصية العظيمة! فاقتنص السفير الفرصة وعرض على “دوكو” فكرة الكتابة عن الملك عبدالعزيز؛ وكل ما أبدى الفرنسي صعوبة سهلها عليه الحجيلان من ناحية المصادر والسفر والتسهيلات، وحين أراد المؤرخ تعجيز أبي عماد قال له: ترافقني للرياض! فأجابه من فوره: نعم! سأكون بجوارك في الطائرة والفندق! وفعلًا تم الأمر، وخرج المؤرخ بمادة فلمية وثائقية بهرت الفرنسيين والمسلمين المقيمين في فرنسا.
كما أقنع الحجيلان الرئاسة الفرنسية بأن يستقبل الرئيس “ميتران” الملك خالد في المطار خلافًا للمعتاد في المراسم الفرنسية، ولم يتهاون السفير في مواجهة جرأة مستشار الرئاسة الفرنسية على المملكة دون أن يلجمه ويعترض عليه رسميًا قبل الرجوع إلى الرياض، وكان من نتائج صنيعه الحكيم أن جاء الاعتذار من عدة مستويات فرنسية عليا.
واجتهد الوزير السفير حتى وافق المسؤولون في باريس على إقامة معرض المملكة بين الأمس واليوم في قاعة قصر الثقافة، وهي قاعة مقصورة على كبرى المناسبات الوطنية فقط؛ ولذلك شهد المعرض إقبالًا شعبيًا ورسميًا ضخمًا، وبادر الرئيس “شيراك” للقدوم مبكرًا حتى يحضر الافتتاح مع الأمير –الملك– سلمان. وحين قرر د.غازي القصيبي زيارة فرنسا وهو وزير للصناعة والكهرباء، أخطر الفرنسيون السفارة بأن استقباله سيكون من موظف دون مستوى الوزير؛ فرفض الحجيلان مقترحًا تأجيل الزيارة؛ فلم يجد الوزير الفرنسي مفرًا من استقبال نظيره السعودي.
رجل الدولة والسيادة:
اشتهر عن د.غازي القصيبي تحفظه على قبول أيّ ملحوظات أجنبية على مناهج التعليم؛ لأنها مسألة سيادية لا يجوز لأحد من الأجانب أن يتجرأ على الخوض فيها حتى لو كان لدينا ملاحظات على المناهج.
رجل الدولة والنظام:
من مواقف د.محمد آل الشيخ أن أمرًا صدر إليه من الملك فهد لاتخاذ إجراء معين إبان عمله وزيرًا للشؤون البلدية والقروية، فراجع منطوق الأمر مع الإدارة القانونية في الوزارة، وكتب عليه عرضًا يبين فيه بعض الجوانب النظامية، وسلّم الرأي المكتوب للديوان الملكي وسط النهار، فأتاه الجواب قبيل صلاة العشاء من اليوم نفسه، وفيه توجيه جديد بإبطال الأمر السابق بناء على النظام المستند إليه توضيح الوزير، مع شكر ملكي على الصدق والنصح في البيان واتباع الأنظمة المرعية.
رجل الدولة والرأي السديد:
لم يستفز النّصر المبين بعد معركة روضة مهنا شيخ عتيبة محمد بن هندي بن حميد، فأشار على الملك المهيب بأمور ثلاثة، بعد أن استشار الملك عبدالعزيز كبار رجاله؛ طبقًا لرواية الأمير سعود بن هذلول في لقاء تلفزيوني:
أولها: إرجاء حسم أمر حائل؛ لأن الخلاف سيدّب بين ورثة الجنازة، وحينها يسهل أمرهم.
ثانيها: ترحيل بعض النافذين من بريدة إلى الرّياض، وإبعادهم عن القصيم.
ثالثها: إجلاء الحاميات التّركية عن نجد.
وهذا عين ما حصل، واستبان فيه الرشاد والإصابة.
رجل الدولة والنزاهة:
اشترى محافظ المؤسسة العامة لتحلية المياه الشيخ عبدالعزيز الراشد أرضًا كبيرة ليقام عليها مقر المؤسسة وسكن موظفيها، ولم يخبر أبو وائل العقاري الكبير البائع بأن المشتري هي الحكومة إلّا عند الإفراغ، وبالتالي حفظ للخزينة العامة أموالها، ولم يتربح على حسابها. وعندما انتهت دراسة العروض المقدمة لأحد المشروعات الضخمة، رفض المحافظ الأمين الانصياع لأي ضغط، وأرسى المشروع على أنسب عرض ثمّ قدّم استقالته! والنزاهة سمة تكررت في وقائع مشهودة لرجال دولة آخرين مثل: المهندس محمود طيبة، والمهندس يوسف الحماد، وغيرهما.
رجل الدولة والصراحة:
يعبر رجل الدولة عن مكنون نفسه ، وعما يعتقده الصواب، ورائده تحري ما يخدم بلاده دون مواربة، مع اختيار الطريقة والتوقيت والأسلوب الأنسب لهذا التعبير، ومع مراعاة المقامات ولوازم التوقير، وهذا منهج الشيخ صالح الحصين الذي اتبعه عدة مرات بحكم قربه من ولاة الأمر، والثقة الكبيرة الممنوحة له.
رجل الدولة وحسن التمثيل:
قال الدبلوماسي العراقي أمين المميز عن السفير السعودي ببغداد الشيخ عبدالله الخيال: إنه يعرف رجال البلاط العراقي، ويعرف مواقفهم من المملكة أكثر مني! وقد جعل السفير الشيخ محمد الشبيلي من نفسه في أيّ بلد يحلّ بها ممثلًا للسعودية بمنزلة تشعِر مضيفيه بأنه سفير لهم كذلك، لشدة قربه من مسؤولي البلد المضيف، وامتداد علاقاته داخل البلاد التي عمل فيها، وللشبيلي حكايات مستعذبة في خدمة مواطنيه أيًا كانوا، وفي فن الضيافة الذي تصعب مجاراته.
رجل الدولة وتقدير الموقف:
تأخرت على أحد المواطنين في مكة مستحقاته من نزع ملكية منزله للصالح العام؛ فارسل برقية للملك فيصل، فلما وصلت للشيخ صالح العباد عرضها على الملك دون تأخير، فأمر بتعويض الرجل المنزوع عقاره من فوره، وفي تلك الأثناء جاء مسؤول معني بالأمر على عجل، واقترح على العباد إرجاء عرض مشكلة صاحب العقار؛ كي تحلّ المسألة قبل وصولها للملك، فقال له العباد: لقد انتهت بأمر ملكي يقضي بصرف المستحق عاجلًا!
رجل الدولة ومكانة الحكومة في قلوب الناس:
استوقفتني كثيرًا كلمة فاحصة قالها الشيخ جميل الحجيلان عن زميله الشيخ حسن آل الشيخ بعد أن تشاركا العضوية في مجلس الوزراء لمدة اثني عشر عامًا متواصلة (1382-1394)، وكلمته اللافتة هي: “تجاوز الشيخ حسن الأمور الهامشية لتحقيق أحد أهدافه في التقريب بين الدولة والمواطن”، وقد كان الشيخ حسن متجاوبًا مع المواطنين ومقتضيات المصلحة العامة فيما يخص فتح المدارس، ونقل المعلمين، وتيسير البعثات، والصفح عن زلات المبتعثين.
رجل الدولة واستقلال القضاء:
من حكمة الشيخ سليمان المهنا أن رؤساء المحاكم عقدوا اجتماعهم الخامس في المنطقة الشرقية، وتزامن مع اجتماعهم الإعلان عن القبض على خلية إجرامية في مدينة بقيق النفطية، فاقترح بعض الحاضرين إرسال برقية لتهنئة ولاة الأمر بهذا المنجز، ووجد هذا المقترح استحسانًا وقبولًا من المشاركين، فطلب الشيخ سليمان الكلمة وقال كلامًا معناه: نحن قضاة يجب علينا التحري، وهؤلاء سيعرضون علينا في يوم ما، وليس من العدل ولا من الملائم تجريمهم والحكم عليهم بمثل هذه البرقية مسبقًا قبل العرض علينا والوقوف على الوقائع والوصول لحكم تبرأ به الذمة، فآلت صياغة البرقية إلى دعاء بالأمن والحفظ للبلاد والعباد، دون حكم على هؤلاء كي لا يساء الظن بالقضاء واستقلاله.
رجل الدولة وتوقير ذوي الهيئات:
وصلت إلى الملك عبدالعزيز مكاتبات ضد الحاج الشيخ عبدالله نصرالله، وهو معتمد الملك عبدالعزيز في القطيف، ولأسرته العريقة تاريخ قديم في مؤازرة الدولة السعودية، فلما تأكد الملك عبدالعزيز من أن هذه المكاتبات كيدية لا أصل لها؛ فأمر الملك الأمير سعود بن جلوي أن يسجن الموقعين على الشكوى الكيدية ويضربهم في السوق ردعًا لهم ولغيرهم. ولأن أولئك الخاطئين كانوا من أسر بعضها من الأسر الكبيرة في القطيف ولها تاريخ، فقد بادر المعتمد لطلب العفو من الأمير والملك، وألح على طلبه حتى أجابوه، وكانت غايته حفظ مكانة الأفراد والأسر، وحفظ قيمتهم في المجتمع، حتى لو تنازل عن حقه الشخصي، فلم ينتقم لنفسه تقديرًا لذوي الهيئات والمكانة.
رجل الدولة يعتمد عليه:
إبان رئاسة الفريق عبدالله البصيلي للجنة متزامنة مع انتهاء مهمة عسكرية وكان حينها برتبة نقيب، لم يرسل التقارير للأمراء إلّا ما كان لضرورة، خلافًا لسابقه المبتلى بفيضان من تقارير استعراضية نجم عنها عطب مستقبله المهني خلافًا لمراده، ولأجل الأناة واتخاذ القرار لدى البصيلي؛ اقتنع به الأمير سلطان ورشحه رئيسًا للحرس الملكي.
رجل الدولة لا يرضح لتهديد أو وهم:
ذهب رجل أعمال كبير، من أسرة معروفة؛ بسبب ارتباطها بمسؤول رفيع جدًا، إلى وزير الدولة ورئيس المؤسسة العامة للموانئ د.فايز بدر، يطلب منه الموافقة على موضوع يتضمن مخالفات صريحة للنظام، فرفض د.بدر المشهور بقوة شخصيته، وحدة خطابه أحيانًا، فقال الثري الزائر مخاطبًا الوزير: سأحضر أمرًا من المسؤول الفلاني، وعلاقة الثري وأسرته بذلكم المسؤول علاقة وثيقة تكاد أن تكون من المجمع عليه والمنتشر مجتمعيًا، فلم تهتز للدكتور فايز شعرة، وقال له: لو حصلت على ما تريد فاستقالتي سوف تسبق ذلكم الأمر! وصدق ظنّ الوزير فلم يوافق المسؤول على منح الثري مطلوبه، ولم تحدث المخالفات العظيمة التي حاول رجل الأعمال أن يوهم بقدرته على تحصيلها، من خلال التهديد بعلاقاته.
رجل الدولة يحتفي بمن ينصف بلاده:
من حصافة الشيخ عبدالله القصبي دعوته عام (1408) للاحتفاء بالمفكر الأمريكي “بول فندلي” الذي فقد مقعده في الكونجرس بسبب مواقفه التي تصب لصالح عالمنا العربي والإسلامي. ويؤكد أبو ماجد دائمًا على ضرورة العناية بالغربيين المنصفين، وبالرموز البارزين في الخارج؛ ولأجل هذا فرح بالاستقبال الرسمي الكبير للزعيم النمساوي “فالدهايم”، واستقبل هو الملاكم العالمي محمد علي كلاي، وهذه الحنكة تضيف قوة ناعمة للبلاد ومواقفها.
رجل الدولة واحترام القرار حتى لو خالف رأيه:
كان للشيخ ناصر المنقور رأي في تأخير إنشاء جامعة الملك سعود؛ حتى تصبح البلاد أكثر جاهزية، ولم يؤخذ برأيه، وبعد أقل من سنتين آلت إدارة الجامعة إليه بعد الوفاة المفاجئة لمديرها الأول د.عبدالوهاب عزام؛ فنهض بالمسؤولية ما وسعه الجهد متناسيًا رأيه السابق، ومتوافقًا مع التوجه الرسمي المقرر.
رجل الدولة والكتمان:
عرف عن جلّ رجال الدولة الكتمان وطول الصمت؛ فالشيخ إبراهيم العنقري الذي لفت الزائرين بطوله وفصاحته حيرهم بطول صمته وقلة تصريحاته مع انه وزير إعلام! والشيخ محمد النويصر رئيس الديوان الملكي مدة طويلة رفض تدوين سيرته من منطلق كتمان ما كان، ومثله السيد أحمد عبدالوهاب شيخ الحرام رئيس المراسم الملكية عدة عقود. والأمر نفسه حدث مع الشيخ أ.د.عبدالله التركي عندما سأله سائل عن مهمة سرية فأجابه: هي على اسمها سرية!
رجل الدولة والدين:
سمعت عن رئيس هيئة الخبراء د.محمد بن حسن الجبر حرصه إبان نشأة قسم القانون في الجامعة على ألّا يصادم القانونُ شريعةَ ربّ الأرض والسماء كما هو حاصل في بلدان أخرى، ولذا جعل من تدريس القانون بصياغاته وتقسيماته معينًا لدارسي الشريعة وسببًا إضافيًا في فهمها وحسن تطبيقها، ولم يحرم طلبة القسم الجديد من التزود بعلوم الفقه وأصوله، وأحكام الأسرة والمواريث وغيرها. وقرأت نصًا للوزير د.محمد الملحم وهو ممن شارك في كتابة الأنظمة الأساسية الثلاثة، وخلاصة النص ضرورة مراعاة البيئة وأعرافها في كل تشريع.
رجل الدولة والمستهدف الأول:
تابع الملحق التعليمي الشيخ عبدالعزيز المنقور بنفسه قبل أزيد من نصف قرن تحقيق مصلحة الدولة في كل طالب مبتعث لأمريكا خلال سبعة عشر عامًا، وكان يحنو عليهم حنو الأب ويذلل لهم الصعاب والعقبات دون تذمر أو ملل؛ فالطلبة هم المستفيد الأول من وظيفته.
وعندما عُرضت على مدير جامعة الملك سعود د.منصور التركي مشلكة الامتناع عن صرف مبالغ مالية زهيدة لإنهاء بعض إجراءات طلاب المنح في المطار، غضب من هذا الاجتهاد البعيد عن الحكمة، فكيف تصرف الدولة عليهم مبالغ طائلة، ثم تقف دراهم معدودة حجر عثرة تنغص إكمال المعروف، وقد تقلبه رأسًا على عقب!
رجل الدولة وإحداث الأثر ولو في غير مجاله:
نصّ د.القصيبي في سيرته “حياة في الإدارة” على أن الشيخ محمد أبا الخيل اقترح عليه فكرة إنشاء سابك التي صارت شركة عملاقة، ولأبا الخيل صلة وثيقة بفكرة إنشاء صندوق التنمية العقاري، وقد ساند السفير عبدالمحسن السديري إبان اختياره مؤسسًا ورئيسًا لمنظمة دولية.
رجل الدولة والتيسير:
من حسنات الشيخ محمد بن ضاوي استصدار أمر من الملك سعود بإعفاء المعدات الزراعية المستوردة من رسوم الجمارك، والسماح باستيراد المولدات والمكائن الزراعية من البحرين القريبة، واستثمار معيشته في الزُّبير والجنوب للتسهيل على أهلهما في استعادة الجنسية. ويروى أن وزير الداخلية الأمير فهد-الملك لاحقًا- سأل ابن ضاوي عن تفسير ما يشاع عنه بأنه متساهل؟! فأجاب: إذا أخطأت في منح تابعية أو جواز فحاسبني! لكن تأكد أن الناس يدعون لمن جعلني في هذا المكان مع كل تيسير خلافًا للتعسير؛ فقال الأمير من فوره: إذًا فيسر وأنا المسؤول.
رجل الدولة ليس مناطقيًا ولا حزبيًا ولا فئويًا:
كان الشيخ محمد بن جبير حريصًا على تنوع موظفي إدارات مجلس الشورى بحيث لا تغيب منطقة من مناطق المملكة عنه شريطة أن يكون التوظيف للمؤهل الذي تبرأ به الذمة، وألّف لجنة للتوظيف فيها أعضاء من عدة أجهزة حكومية لتحري الموضوعية.
رجل الدولة يثق بمواطنيه:
تعطلت دبابة في الطائف، وكان شرط الأمريكان أن تكون الصيانة من طرفهم فقط، وتنقل الدبابة إلى أمريكا ولا تصان في المملكة، وطبعًا ستغدو التكاليف باهظة؛ لكن اللواء عبدالله العليان مع جنديين هما حسن عسيري وشعبان عسيري تمكنوا من إصلاح الخلل، وسارت الدبابة على أحسن هيئة، وقد أصدر القائد العسكري للقاعدة أمره بترفيع الجنديين إذ نسب لهما العليان -وكان ضابطًا شابًا حينها- الفضل، وصارت الصيانة الداخلية متاحة للسعوديين بعد ذلك.
رجل الدولة يتصلب لصالح بلاده:
لوزير الخارجية الشيخ إبراهيم السويل موقف صلب يمثّل الموقف السعودي تجاه طلب الكويت الانضمام لعضوية الجامعة العربية عام (1961م) خاصة بعد تهديدات عبدالكريم قاسم، ومع صلابة الموقف فله نشاط حثيث داخل مقر الجامعة وخارجها، حتى أن الوزير السويل حذّر في كلمته لمجلس الجامعة من مغبّة تأخير قبول عضوية الكويت أو رفض الطلب، ولم تذهب الجهود سدى؛ إذ أصبحت الكويت عضوًا رسميًا.
رجل الدولة يتعالى بثقافته وأنظمة بلاده عند المنظمات الدولية:
تعامل الوزير د.علي النملة وأركان وزارته مع المنظمات الدولية العالمية والعربية المختصة بالعمل والعمال، واستطاع النملة وفريقه تغيير انطباعات هذه المنظمات وقادتها عن أحكام الشريعة الإسلامية، وتطبيقات الحكومة السعودية، وطبيعة المجتمع المحلي؛ حتى صار بعضهم مدافعًا من تلقاء نفسه في منصات دولية عن التطبيقات السعودية.
رجل الدولة ينتج مشروعات مؤسسات رجال:
كم من مشروع ومؤسسة وإنسان نجم عن جهود الوزير الأول الشيخ عبدالله السليمان؟ ومثله الشيخ صالح الحصين الذي أسس كيانات مهمة قانونية ومالية وإدارية. وعندما نعدّ بعض رجال د.غازي القصيبي القصيبي نذكر منهم: د.عبدالرحمن السويلم، وم.عبدالعزيز الزامل، وم.محمود طيبة، وم.يوسف الحماد وغيرهم. وتظهر الأعمال الضخمة في سيرة الشيخ عبدالله التركي إبان عمله مديرًا لجامعة الإمام، ووزيرًا للشؤون الإسلامية، وأمينًا لرابطة العالم الإسلامي.
وإذا ذكر معهد الإدارة وقلعته الكبرى فلا مناص من الإشارة لجهود مديره الثاني أ.فهد الدغيثر الذي يوصف بالمدير المؤسس. وفي سيرة وزير الصحة د.حمد المانع نلحظ الجرأة الحميدة لتشغيل مدن طبية ضخمة، ومختبرات مرجعية، وإلزام منظمات إقليمية تتكفل بها السعودية ماليًا بأن يكون المنصب الأول فيها لسعودي. وعندما أسندت للسفير عبدالمحسن السديري المسؤولية نجح نجاحًا باهرًا في تأسيس الصندوق الدولي للتنمية الزراعية “إيفاد” وفي رئاسته خلال أول سبع سنوات من عمره.
رجل الدولة واستشراف المستقبل:
هي سمة حاضرة ضمن خصائص رجل الدولة؛ لأن المستقبل يهمه ويعنيه دون إهمال الحاضر، ومن ذلك حث الوزير الطريقي على استثمار الغاز محليًا وألّا يُكتفى باستخراج النفط، ومنها تشاركه مع خلفه الشيخ أحمد زكي يماني في تأسيس كلية البترول سواء في فكرتها أو جعلها واقعًا، وهي التي تطورت إلى جامعة متخصصة فيما بعد.
رجل الدولة والعمل لأجل العفو والحماية:
استثمر وزير الإعلام أ.علي الشاعر قرب شهر رمضان للظفر بعفو الملك فهد عن اجتهاد د.عبدالرحمن الهزاع في بث الأوامر الملكية لإصدار الأنظمة الأساسية قبل وصول كلمة الملك المسجلة بهذا الخصوص. وقبله كان وزير الإعلام الثاني الشيخ العنقري يبادر لتوجيه اللوم أو الإيقاف لأي إعلامي يتجاوز ثمّ يتواصل مع زملائه السابقين في وزارة الداخلية قائلًا: كفيناكم التعامل مع فلان، وفي هذه الكفاية حماية وأي حماية!
وعندما أبدى رجل أمن كبير شكوكه لمدير الجامعة المنقور من بعض التجمعات الطلابية قال له: اذهب إليهم لتنظر بنفسك ماذا يفعلون وسوف تقف على الحقيقة المطمئنة وقد كان. وللشيخ عبدالعزيز التويجري جهود مثمرة في تقريب وجهات النظر واسترجاع بعض من عاشوا في الخارج سنوات عددًا. وحينما سأل بعض المسؤولين أ.د.شبكشي عما يقصده بعض عمداء الكليات في جامعة الملك عبدالعزيز أجاب بكلمات توضح المقصود دون إدانة لأحد أو محاولة جر التهمة لبرئ.
رجل الدولة مرجعية لغيره:
وهكذا كان عميد الوزراء د.عبدالعزيز الخويطر الذي طالما تولى الوزارات بالتكليف أو النيابة هذا غير وزاراته بالأصالة، وإذا وقع وزير في اجتهاد غير مصيب دله الخويطر على التصرف الصحيح، وعندما انتهت عضوية أ.د.مدني علاقي بمجلس الوزراء ورشح لمجلس الشورى أبدى موافقته أول الأمر ثمّ آثر إلغاء الموافقة طلبًا للقرب من أسرته، فاستعان بالخويطر الذي شفع له وقبل طلبه إلغاء الترشيح.
رجل الدولة وتقديس المقدس:
لم يفت على وزير الثقافة والإعلام د.عبدالعزيز خوجه أن يقترح افتتاح قناة للقرآن الكريم تحرك الصورة على أرجاء الحرم الشريف مع تلاوات قرآنية تعطر الشاشة على مدار الساعة، وكذلك قناة أخرى للسنة النبوية تحرك الصورة على أنحاء المسجد النبوي الشريف مع قراءة أحاديث نبوية بلا انقطاع، وهذا من التوفيق له ولمن اعتمد مقترحه وأعان عليه. ولأن الشيخ عبدالعزيز الفالح يعرف مكانة المسجد النبوي الشرعية ولدى المسلمين؛ فقد حرص على بذل وسعه خلال خمسة وثلاثين عامًا لضبط العمل فيه، واقتراح ما من شأنه إعانة المصلين والمجاورين، وتسهيل الدخول والخروج والدعاء والصلاة والسلام على الجناب الشريف.
أخيرًا؛ فلقيمة رجل الدولة عند الزعماء الكبار قال الملك عبدالعزيز لمن استأذنه في إجابة طلبات أحد رجاله: “عبدالعزيز هو عبدالعزيز”، وقدّر الملك سعود لابن دغيثر تصرفه حتى وإن تأخر في تنفيذ المطلوب، وأثنى الملك فيصل على الشيخ صالح الخريصي وقال لجلاسه: جاء الشيخ الخريصي يطلب مصلحة عامة لبلده وأهلها، بينما جاء فلان يسأل عن مصلحة لنفسه! ووصف الملك خالد السفير الشبيلي بأنه سفير بلا نظير، وجزم الملك فهد بأن د.عبدالله نصيف فوق أيّ شبهة في تطبيقاته الإدارية، واتصل الملك عبدالله بالدكتور سعود المتحمي مفوضًا بقوله: يرى الشاهد ما لايرى الغائب، وقال الملك سلمان لأبناء المهندس طيبة: كأني فقدت واحدًا من أسرتي فعظّم الله أجرنا.
اللهم احفظ البلاد، وحكامها، وأهلها، وأمنها، وثرواتها، ورؤيتها، واكتب لنا الخير وحسن العاقبة. اللهم تقبل برضوانك ورحمتك الذين غادروا الحياة إلى الدار الآخرة، وضاعف لهم الأجور والثواب، ووفق الخلف لما فيه الخير والنماء، وادم علينا الأمن والنعماء والرخاء، واجعلنا في ألفة دائمة، وهناء مستمر، وتقدم لا يتراجع، حتى نكون القدوة الماثلة لمن رام الخير لبلاده ومجتمعه وأناسه.
الرياض- الاثنين 23 من شهرِ شعبان عام 1445
04 من شهر مارس عام 2024م
12 Comments
جمع أحمد العساف في هذا المقال فأوعى، وانتقى فأجاد، وعرض فأتقن، ولا يجزي المحسن المتقن أكرم من الكريم، فالله يجزيك على ما أمتعتنا ونفعتنا به خيراً كثيراً.
شكرا لكم الأستاذ الكاتب تركي الدخيل. والله ينفع ويبارك.
أبدعت واجدت بارك الله فيك ونسيت الشيخ عبدالعزيز القريشي الوزير الصامت والجهبذ المصلح عاصر الملوك فابدع
جزيت خيرا
شكرا لكم أخي سعود. الأمثلة تعز على الحصر، وأشرت لكون المقال لا يقتصر على النماذج المذكورة.
والشيخ عبدالعزيز يستأهل التنويه وزيادة.
لكم التحية مجددا.
شاعر الأرجنتين يقول ..
للشاعر خمس قصائد تشكل خلاصة شعره ..
يمكنني أن أعد هذا المقال واسطة العقد لمقالاتك في سير الأعلام الذين تولوا مسؤوليات في الدولة.
سلم البنان أبا مالك
كتاباتك تنزع إلى المحامد ووصفها، وتحن إلى المكارم وأهلها، وتورث لنا كتابات تمتد طيبًا ومآثر من الأصل لفرعها، لا غرو أن يجري الجواد على أصله، والكريم لكرمه والنبيل لنبله؛ مقالة متميزة في الوفاء لرجالات الدولة الأخيار..
ولدي ملاحظة وتصنيفها يقع على عاتق الشعور؛ ؛ وربما انفعال لامعنى له فلا تثريب عليّ فيه.
ما الذي ينبغي علينا فعله حتى تحب قصصنا، حكاياتنا تفاصيلنا، أن تحبنا كما أحببت معالي “الحجيلان”؛ بدأت أوصال الغيرة تمزق أحشاء الكتابة، و الورق طار في مهب الريح لأننا لا نملك تاريخًا عريقًا كجميلك الحجيلان، قد فاتني من هذا الرجل جيلين ربما أنا أنتمي للجيل الثالث بعده؛ لا أعرف عنه سوى ما كتبت أنت عنه بعمق محبتك لهذا الرجل، لكن لا سيرة مكتوبة له وجدتها حتى اقع في محبته مثلك!؟ تابعت بعضًا من لقاءاته وشدني صوته الرخيم الفخم رغم أنه بلغ مئة عام من الحصافة محتفظًا فيها على أناقته وإطلالته البهّية، بدأت أنقب عن مآثره و أسرتني كل كتاباتك المخلصة عنه، ولو لم يوافقك فالمبادئ والقيم والنبل لما تحدثت عنه في كل محفل، وعلى كل منبر، بمشاعر سماوية تحلق نحو المعالي اما الا تؤجج غيرتنا وتكثر الحديث عن هذا الرمز الكريم النبيل أو أن نشاركك الحب فيه ونتقاسم هذه المحبة عرفانًا وامتنانًا لكل مسيرته، كن منصفًا معنا يا أستاذنا فكلنا في هوى الحجيلان لأجلك عشاق!
تلخيص موفق ابا مالك عن رجال الدولة
بارك الله فيك وقلمك
تابعتُ الندوة – بكل شغف – عبر مباشر الاثنينية ؛ ماشاء الله تبارك الرحمن ؛ كان طرحكم رائع وممتع ، تمنيتُ أن لا تقفْ ، نشكر لك ذكرك للراحلين رحمهم الله والثناء عليهم ؛ أسأل الله تعالى أن يجزيك عنا خيراً ، وأن يبارك في علمك وقلمك.
كم هو رائع هذا المقال
مختصر مركز غير مخل
الحقيقة لا تمل وأنت تقرأ
شكرا احمد
بوركت أخي محمد
شكرا على المقال يا أحمد، الله يعطيك العافية على هالمقال الرائع واللي لخصت فيه معنى كلمة “رجل دولة” ومثلت بأسماء رائعة وفقوا بفضل من الله ودعم قيادات الدولة لهم في إنجاز ما أنجزوه لوطننا الغالي 💚
وكل عام وانت والعائلة الكريمة بخير وصحة وسعادة 🙏🏼
ما شاء الله لقد أبدعت يا أستاذ أحمد لا اعتقد انه سبقك بهذا أحد 🌹