سير وأعلام

حدثني من أثق ببطنه!

حدثني من أثق ببطنه!

تلقيت اتصالًا ظهر يوم عمل قبل خمسة وعشرين عامًا تقريبًا، وكان المتصل صديقًا تقادم العهد به جدًا، ولستُ -والحمدلله- ممن يعتب كثيرًا على الانقطاع وتباعد أزمنة الوصل؛ فمشغلات الحياة استهلكت الجميع، والمودة لا تقوم على استمرار الصلة دائمًا، والتواصل الساخن ليس دليلًا على علاقات وثيقة؛ فكم من بعيد وهو إلى القلب والروح قريب، وكم من مجاور يود المرء أن تحول دون جواره الغثيث مجرة درب التبانة بما ومن فيها!

المهم، بعد السلام والسؤال المعتاد سوقهما من أدب المجاملة التي لا تخلو من حقّ، وهي من كمالات الإنسان، وليست مئنة على الضعف، قال لي الصديق: عندي سؤال لك! فقلت له: سل ما بدا لك! وذهبت بي الظنون صوب شؤون من الثقافة وأخواتها، لكنه صعقني بسؤاله الغريب: ما هو ألذ مطعم للرز البخاري في الرياض؟! ومن الطبيعي أني تفاجأت من سؤاله؛ فهذا أبعد شيء طرأ على البال حينما افتتح الكلام الجاد بنية السؤال بعد الحديث الافتتاحي.

قلت له: ظننتك سوف تسأل عن شيء أحسن الجواب عليه، أما الأطعمة والمذاقات -باستثناء الشاي العزيز الحبيب- فليس لي بها معرفة ولا خبرة حتى أجيبك بما تطمئن إليه النفس، فالسؤال والاستشارة وأضرابهما من الأمانة الثقيلة، وكلمة “لا أدري” فيها علم، وخير، ونجاة، وقد حفظنا عن أوائلنا مقولة نفيسة متوارثة خلاصتها أن من ترك قول لا أدري فقد أصيبت مقاتله، وعليه يا صاحبي فأنا لا أدري.

فأجابني من فوره: سوف يحضر للرياض غدًا وفد تجاري زائر، وطلبوا منا بحكم العلاقة الجيدة بيننا أن يكون الغداء من الرز البخاري الذي تسامعوا به حتى سال منهم اللعاب عليه، وازداد الطمع للظفر بوجبة منه، والنية منهم تتجه صوب التهامها بلا شفقة، وكنا ننوي -والكلام لصاحبي المتصل- استضافتهم في مطعم فاخر لولا هذه الرغبة التي لم تكن في الحسبان، ولم نعلم أن الرز البخاري قد بلغ الآفاق، وعلم به رجال المال والأعمال.

أما سؤالك أنت بالذات؛ فأنا متيقن أن الجواب ليس حاضرًا لديك، لكني على يقين تام بأنك قادر على سؤال من يعرف المطاعم ويحسن التقدير في هذا المجال؛ فحفزني ظنه الحسن بي -ولا أظنه يسلّك لي، والتسليك كلمة مستحدثة معناها الخداع اللطيف ولا أحبها قولًا ولا فعلًا-، ولذلك استعرضت الأسماء المخزنة في جهاز الجوال -وليس من عادتي حذف أيّ رقم حتى بلغت عندي الآلاف-، وبعد فرز وقع اختياري على واحد منها، أعلم علم اليقين الجازم بأنه أكول مقبل على الطعام إقبال عارف عاشق على ما يحب، مع اشتغاله بفنون أخرى نافعة، فالاكتفاء بالطعام فقط منقصة مثلما قال السمين الحلبي في جملة مروية هذا معناها ونسيت محتواها.

فاتصلت به، وسألته عن الاستفهام الذي جاءني بعد إخباره بعلّة السؤال؛ كي يكون على بينة، ويزداد حرصًا، ويبيض وجوه قومنا أمام الضيوف، فخيرني بين ثلاثة مطاعم، لكني طمعت في الاستزادة من علمه الذي لا يُغبط عليه، ورغبت منه أن يسردها لي مرتبة حسب الأولوية، ففعل مشكورًا، بل حدد أماكنها، ومواطن التميز في كل واحد منها، وكنت أكتب على ورقة أمامي كتابة اختزالية لأهم ماورد في جوابه بما يفيد ويغني، والكتابة الاختزالية فنٌّ كتابي قائم بذاته، وقليل من يحسنه أو يحسن التدريب عليه، ولا أزعم أني أحدهم.

ثمّ اتصلت بصاحبي السائل من فوري إذ أكره التأخير والتثاقل والتواقر، وقلت له: يا فلان: أبشر بالجواب المحكك؛ فقد حدثني من أثق ببطنه… فقطع الرجل أول جوابي بضحكة مجلجلة، وبعد استفهامي منه أخبرني أن هذا الوصف قد أعجبه، فقلت له: سؤالك لا يحتاج إلا لمن كان بطنه موضع الثقة! وأكملت له كلامي من الورقة التي أمامي. وبعد يومين أعاد الاتصال بي شاكرًا؛ لأن أضيافه التجار أعجبوا بالمطعم، وبوجبة الرز البخاري التي أكلوا منها كما لو كانوا قادمين من مجاعة سابقة، أو خرجوا من صيام متواصل، ومن نافلة القول أنه لم يفت عليّ نقل الشكر لصاحب الإجابة الأصلية؛ فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله، وهذا النقل سبب لزيادة ثقته بعلمه البطني.

وقد تذكرت هذه القصة وذكرتها لأمرين أحسب أنهما من الأهمية؛ كي لا يكون ما سبق من الهذر بلا فائدة، أول هذين السببين هو ما أعلنته هيئة فنون الطهي مؤخرًا من تحديد أطعمة سعودية حسب المناطق، فهذا أدعى لمعرفتها من قبل الزائرين على اختلاف أسباب قدومهم، ومن التوفيق العملي توسيع هذه الخيارات لتشمل مأكولات ومشروبات، وأطعمة دسمة، وأخرى خفيفة، وثالثة للمواسم، وهكذا حتى تكون خيارات المائدة السعودية شاملة متنوعة، على ألّا نقتصر على هذا الحقل؛ فالثقافة واسعة سعة الأرض والسماء وما بينهما، والهيئة اللذيذة جزء من وزارة الثقافة المهمة والكبيرة على حداثتها.

ومن فضل الله علينا أن الطبق الشمالي المتفنن فيه يتذوقه أهل الجنوب الأشم باستمتاع، وبالعكس يجري لأطباق الجنوب الشهية في الشمال الشهم، وطبق الغربية المستطاب غير غائب عن موائد شرقنا الأنفس الذي تحضر أطباقه الجميل مذاقها في الغرب الأقدس، وفي الوسط الشامخ تجتمع أطباق المملكة كافة بعد أن أصبحت أصناف نجد الفاتنة أساسية في جلّ الموائد؛ لأن الرياض كما قال الملك سلمان -حفظه الله- في خطاب ألقاه في أحد الاحتفالات قبل عقدين تقريبًا “تمثل السعودية كلّها”؛ لأن فيها من كل المناطق بأناسها، وعوائدها، وثقافاتها، التي انصهرت -وربما تصاهرت- في نموذج بديع، حتى تجانست في مخبر لافت ومنظر باهر.

ومن هذا الباب، يمكن الإشارة إلى مقترح -مثله لا يغيب- يهدف إلى تطوير الموجود من مواد تعريفية عن المطبخ السعودي، وطرق تحضير المائدة السعودية، وتنويع المحتوى لها عبر المقروء، والمشاهد؛ خاصة مع كثرة الحسابات السنابية للطهاة المحليين -فيما أسمع-. ومن طريف ما قرأته أن الملك فيصل الأول حين استضاف الشاه، استغرب الأخير من بعض الأطعمة العراقية على المائدة الملكية، فأمر ملك العراق بتأليف كتاب عن المأكولات العراقية؛ حتى لا تكون مثار استغراب من قبل أيّ زائر.

ومثله حين أقامت سفارة مصرية في بلد إفريقي احتفالًا، ودعت له رئيس الدولة الذي أصر على وجود “الطعمية” كي يجيب الدعوة، وقد حُرم الحضور من لذيذ الأصناف العالمية؛ لأن الرئيس وقف أمام أدخنة “الفلافل” يأكل بلا توقف، وبقية المدعوين خلفه ينتظرون مقهورين من فوات أصناف المائدة الأخرى عليهم مجاملة لبطن فخامته! ولا بأس من الإشارة إلى أن الطعام سبب في المحبة وكسب القلوب والمواقف أحيانًا؛ فالمؤرخ والبلداني العربي د.نقولا زيادة قاده إلى الاقتران بزوجته طبق التبولة، ورجل الدولة الفرنسي “تاليران” ينظر لطباخه ومائدته على أنهما من أهم أدواته للتأثير!

والأمر الثاني الذي دعاني لتدوين هذه الواقعة التي لاتهم أحدًا، هو حث القراء على مزيد النفع والتأثير بتقييم المتاجر والسلع والمؤسسات التي يتعاملون معها، فهذا التقييم نوع من الحكم والشهادة، وهو يستوجب العدل والإنصاف والوضوح بذكر كل شيء، ومنه تحديد اليوم والوقت، وبيان المحاسن والمساوئ، وسيكون التقييم أحد أسباب التجويد ورفع سقف المنافسة. وهذا الفعل الحضاري الحكيم غدا ميسورًا عبر التطبيقات العامة أو الخاصة بمقدم الخدمة، وهو صنيع يفيد الأطراف كافة أو العقلاء منهم على أبعد تقدير، ويغني الباحث عن سؤال غيره، خاصة إذا كانت الإفادات صادقة مستوعبة، فعندها لا يبقي هذا التقييم العادل سببًا لطرح سؤال يقول المجيب في مقدمته: حدثني من أثق ببطنه!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 09 من شهرِ رجب عام 1445

21 من شهر يناير عام 2024م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. حسنا *** إذا أردت تحفيز وتنشيط العقول *** فأكرم البطون لألا تصاب بالخمول *** ويذهب المقصود كأن العلم غير موجود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)