سير وأعلام

عبدالعزيز البابطين وديوان الخلود!

عبدالعزيز البابطين وديوان الخلود!

يعيش بعض الناس أيامه الدنيوية فقط، وقسم منهم تبقى سيرته بعد وفاته، ومنهم من يكون له لسان صدق في الآخرين ضمن سير أشخاص أو أماكن أو مشروعات، وفيهم من يصبح إنموذجًا به يحتذى، وقدوة يستشهد بصنيعه، ومثالًا ساطعًا على فكرة أو مفهوم، وقد كان راحلنا الشيخ عبدالعزيز بن سعود البابطين واحدًا من هؤلاء القلائل، وهذه رباعية تضاف لرباعيات كثيرة تجلّت في حياته ومسيرته، وسبق لي الإطلالة الكتابية عليها بتفصيل وإجمال، ومن موجبات الحمدلله أنه اطلع عليها في محياه حتى لا يقول قائل: إننا نعترف بمحاسن الأموات فقط، وقد كانت تلك الكتابة الطويلة والمختصرة من فضائل بعض أصحابنا الأجلاء، وإن سليمان منهم لبمكان!

ومن رباعيات الشيخ عبدالعزيز البابطين أنه انتصر على نفسه؛ فالنفس البشرية مجبولة على حب المال حبًا جمًا، فإذا امتلكته جثم عليها البخل والشح، ويا لهما من جاثمين بغيضين في المنظر والمخبر. ثمّ كسر أبو سعود دلالة عبارة معلّبة مرسلة بلا زمام ولا خطام، وهي ظالمة للأدب الجميل حينما جعلته حرفة يُدرك بها الفقر، وبئس المدرك المقرون، وبئس الدرك المؤذي!

وحينما أغناه الله بالمال وزينّه بالأدب، وهبه حب الانفاق والعطاء، ثمّ وفقه المولى لأن تتوجه مصارفه صوب باب لا إلى مثله يُلتفت، فجلّ المنفقين -وهم على خير وأجر بإذن الله ولهم الثناء والدعاء- يفضلون الشيء المادي الظاهر المشاهد في جسد أو بناء أو غير ذلك، لكن شيخنا الراحل شارك مشاركة أساسية في لذائذ العلم والحكمة، وتلك لعمركم من النفائس التي قلّما يستشعر قيمتها وأثرها إلّا من اصطفي لها، ورابعة هذه الثلاث أنه لم يترك مشروعه الذي عكف عليه لأزيد من نصف قرن عرضة لاجتهاد أو تفسير -حتى مع ثقته بمن سيعقبه عليها-، وإنما أوقف عليه وقفًا واضحة مصارفه، بينة ضوابطه، وأقام له المؤسسات واللجان والنظار؛ فلكأنه بتدبيره المحكم يقول: سأرحل حتمًا في يوم آتٍ وإن تراخى، وسوف تبقى تلكم الآثار الشواهد الشواهق.

وعندما تكتب سيرة الشعر العربي -وللأشياء والعلوم سيرة ربما يُغفل عنها-، فلا مناص من تسمية المعلقات وشعرائها، ثمّ التعريج على علم العروض والخليل، وبعض الكتب مثل طبقات ابن سلام، وجمهرة القرشي، والأصمعيات والمفضليات، والشعر والشعراء، والحماسات، والطبقات والمعاجم، وكلما تقادم الزمان استأخرت سيرة الشعر العربي، وتثاقلت حركتها، إلى أن نفخت فيها روح الحياة وروحها، وهي تقف على أعتاب أعمال البابطين من معاجم شملت أعصر العرب كافة، وملتقيات ومؤتمرات ومخطوطات ومعاهد تذكرنا بأسواق العرب، وتبعث بيانهم من مراقده، ولو أدركه ابن رشيق لقال في عمدته: ثمّ جاء عبدالعزيز البابطين فأقام الله به من عمود الشعر ماكاد أن ينكسر!

ولا ريب؛ إذ أحيا به الله ديوان العرب حتى في زمن انكسارهم الحضاري، فحفظ لنا سيرة نحو خمسين ألف شاعر عربي، في أكثر من مئة وخمسة وعشرين مجلدًا من المعاجم التي يسميها البابطين بالمناجم وهو وصف دال، ويكفي لبيان مرجعيتها الإشارة إلى أنه عمل عليها أكثر من ثلاثمئة باحث خلال أربعين عامًا تقريبًا، فاستطال بجهده زمن الشعر العربي، أطول أشعار الأمم عمرًا وأعمقها تاريخًا؛ وإن حفظ الشعر حفظ لموروث الأمة وإرثها الشفهي الذي لا تستطيع اقتلاعه أيّ قوة، وفي الشعر حرية وأنفة وإبداع ومعاني سامية، وهو فنّ يستعذبه الفقير والغني، ويطرب له العالم النحرير، والفتى الغر الطرير، ولأبي سعود يد متفضلة على هؤلاء بلا نكران ولا مثنوية.

ليس هذا فقط؛ بل كسر البابطين بالشعر الحصار المفروض على بلاد عربية، حينما اصطحب ثمانين شاعرًا عربيًا، بطائرة خاصة، سلاحهم الكلمة الأنوفة الأبية لنصرة عرب مستضامين مستضعفين، وبالشعر آزر المقاومة المشروعة عبر الجوائز وإنضاج التجربة الشعرية الشجاعة، وبالشعر ربط الأجيال الحاضرة والقادمة بمجد أوائلها من الصيد الميامين، وبالشعر حافظ على سنن العربية وقانونها وألفاظها، وهو الذي يعين بشواهده على تفسير القرآن الكريم، وفهم السنة النبوية، ووعي حكمة العرب الأوائل.

وفوق ذلك احتفى الشاعر البابطين بالشعراء الراحلين والحاضرين، دون أن يرجو منهم مدحًا، وأقام اللقاءات بأسمائهم وجلّهم تحت أطباق الثرى، وبادر لتنفيس هموم معاصرين منهم تحت جنح من الستر كثيف الحجب؛ كي لا تكشفه أضواء المروءة ولو كانت جهراء باهرة، وفي ذلكم الحجاب مزيد شهامة وإحسان. ولأجل هذا المنهج الحميد سعت إليه المئين من قصائد الشكر ومقطوعات الثناء التي شدا بها مئات الشعراء، وجدير بكل شاعر عربي أن يرد لأبي سعود الجميل بعد رحيله اعترافًا له بالفضائل التي لا يمكن أن تنزع منه.

كما عمل الشيخ البابطين داخل الكويت والجزيرة العربية وخارجهما، وتنوعت أعماله؛ فكانت أعمالًا تقليدية وأخرى تجديدية، وبعضها برامج دينية خالصة، ومنها مشروعات دنيوية تؤول إلى عمل صالح مع ابتغاء الأجر والمثوبة. وقد تبدو ثمار منجزاته من فورها، وفيها ما يكون بذرة تنمو تحت الأرض رويدًا رويدًا، بعيدًا عن عبث الأيدي الباطشة، ووقع الأرجل الغليظة، حتى يقوى جذرها، ويصلب عودها، ثمّ تظهر للناظرين مستعلنة بهية، تملأ العيون والنفوس زينة وجمالًا وسرورًا وثقة بالمستقبل.

لذا نلاحظ أن أعمال الشيخ البابطين تنبسط على امتداد رقعة واسعة من الزمان والمكان والموضوع والإنسان، وتلج من أربعة أبواب، أولها باب الثقافة، بخدمة أركانها: الدين، واللغة، والتاريخ، والتراث. أما الثاني فهو باب العمل الخيري بمشروعات إغاثية، وطبية، ومجتمعية، وأخرى تستهدف الريادة والسلام. وثالثها باب التعليم من ببناء المدارس، وتأهيل المعلمين والمرشدين، وإنشاء الكراسي الجامعية، والتكفل دون انقطاع منذ عام (1394=1974م) ببعثات ومنح دراسية جامعية وعليا للأزهر ولغيره من قلاع العلم والمعرفة في العالم.

ثمّ يتجلّى الباب الرابع لكل أحد؛ فهو باب ضخم عن الشعر الذي تدرج البابطين في الوصول إلى عالمه مجالِسًا فقارئًا، وبعدهما صار متذوقًا فشاعرًا، ولم تقف همته عند هذه الأحوال الأربع؛ بل حمل راية الشعر التي كادت أن تهمل أو تسقط، وأعاد بيرقها الرفيعة مواضعه من خلال معاجم متقنة، وملتقيات متوالية بأنواع مختلفة وأسماء عديدة، وبرامج متينة، وجوائز جاذبة.

ولم يبحث أبو سعود عن الكمال الذي يئد البدايات الضرورية، ولم يقعد به عن المضاء ندرة توافر النموذج الذي على منواله ينسج، ولم يفتّ في عضده الانتقاد الذي يطرق مسامعه على هذا العطاء الثقافي، ولم يدركه اليأس من قلة النصير والمعين والشاكر. ولعلّ سيرته الذاتية العملية المكافحة أن تنشر للناس عما قريب كما تنامى للسمع وبلغ للعلم؛ فهي صدقة على غني، وتذكير لعالم، وحفز لمثابر، وإمتاع لمسامر، وإنها لرباعية لافتة من خبر رجل ذي رباعيات جديرة بأن تذاع وتشتهر.

أيضًا من ملامح العمل الثقافي والمجتمعي عند الشيخ الراحل عبدالعزيز بن سعود البابطين (1355-1445=1936-2023م) سمة الوفاء للوالد بتسمية المشروعات عليه، والثناء على الأم وأسرتها العريقة المعروفة بالشعر والتاريخ حتى استهل أحد ملتقياته الشعرية عن الشاعر النجدي ابن لعبون، ومنها تقدير شقيقه الشيخ عبداللطيف والاعتراف بفضله، وتأثير مجالسه وأعماله القديمة بحفظ المخطوطات النفيسة منذ عام (1373=1953م). ومن ملامح العطاء لدى شيخنا أنه رفع اسم بلاده وعلمها في قارات الدنيا، ولم ينتظر على ذلك جزاء أو شكورًا، وشاء الله من الموافقات أن تحزن الكويت مرة واحدة على مصابها بأميرها وحاكمها الشيخ نواف، وفي رزئها بسخيها المنفق الشيخ عبدالعزيز في أيام عصيبة سالفة، والله يحسن لهم العزاء والخلف برحيل الرجلين الصديقين ذوي المآثر.

وقد وقف البابطين في عمله الضخم مواقف عظام يحتاج الواحد منها إلى العصبة أولي القوة من الرجال؛ فهو مؤسس وكم في التأسيس من متاعب، وهو المنفق بماله وكم في إخراج المال على النفس من مصاعب، وهو المتابع لأعماله مع كثرة الشواغل والصوارف والمتاعب، ورابعتها جليلة فريدة؛ إذ لا يرى لنفسه فضلًا ولا حتى سابقة مع استحقاقه الأكيد للتكرمة، وتلك من منن الرب عليه أن رزقه حسن التأتي، وجمال التأني، وأعاذه من جرأة التألي، وحماه من وحل التمني.

أما إذا نظرنا لجملة أعماله فسوف سنجد أنها امتازت بما يلي:

  1. فردية المنشأ مؤسسية الإدارة.
  2. قديمة العهد مضمونة الاستمرار بفضل الله ثم بوجود الوقف.
  3. شملت العرب كافة وديارهم قاطبة بلا تفرقة أو تفضيل، وببراءة تامة من الفئوية أو الانتماء الحزبي الضيق، ثم توسعت في أرجاء العالم.
  4. تسمو شعرًا وتعليما وثقافة وسلامًا.

فاستطاع البابطين بهذه الأعمال الحفاظ على عراقة الأمة بصيانة لسانها وديوانها، وإبراز صورتها الحسنة بأسلوب سلس ناعم لا مخاشنة فيه ولا مناكفة ولا مناكدة، وأوجد لابنة عدنان –اللغة العربية الفصحى– موضعًا عليًا بواسطة ستين كرسي جامعي ضمن أكبر الجامعات وأعرقها مثل جامعة إكسفورد التي أطلقت اسمه على الكرسي التاريخي فيها العائد للقرن الميلادي السابع عشر، وأعاد اللسان العربي لبلاد استعجمت رغمًا عنها مثل جزر القمر.

كذلك واصل أبو سعود الفتوحات العربية بطريقة أخرى أين عنها مثل البلاذري؛ إذ فتحت له قاعات دولية، واعتلى منبر الأمم المتحدة غير مرة، ونال جوائز تربو على المئة، وانتخب رئيسًا لأكاديمية الشعر الدولية غير منازع، وحين يحلّ ببعض البلاد يخرج زعيمها على رأس مستقبليه، وهذه المكارم بركة من بركات عقل صاحب اللغة، ومروءة حافظ الشعر ومبدعه، وكمالات المصاحبة للتراث، ونتيجة لحسن العهد مع الأمة، وسمو الانفاق بلا تردد، وهذا طرف مما يجلبه الوقف المبارك من سعادات وكرامات على أهله لو علم أهل الدثور.

فالحمدلله أن خصّ عبده بهذه الأعمال؛ ووضعه مع قوائم المباركين عبر التاريخ بالتعليم، وحماية العراقة، ونصرة الملهوف، وإنارة الدروب. والحمدلله أن جعل تلك المنجزات البادية إلجامًا لمكابر، وحجة على مثبط، ودليلًا لحائر، وأملًا لمنتظر. والحمدلله كذلك أن اختص الشيخ الشاعر بتلكم الأجور وهاتيك المفاخر، وأتبعها بجميل الأثر على المنتفعين من أعماله مباشرة أو بواسطة، وصيّره إمامًا لأهل القدرة بأنواعها، ورابعتها وهي منقبة لا يفّوت التنبيه على مثلها، إذ استرجع بجهوده ثقة العربي بقداسة لغته، وعظمة حضارته، وعراقة مجتمعه، وخيرية أناسه؛ فلم يعد الفتى العربي غريب الوجه واليد واللسان؛ ولو عرف المتنبي أبا سعود لأضاف لها رابعة عن غربة المشاعر!

ولا يفوت التنبيه في هذا المقام إلى أن هذه الأعمال التي فُتح بها على الشيخ البابطين، هي من فضل الله وإنعامه عليه حين سخره لها، ويسرها عليه، ثمّ إنها ثمرة من ثمار تربيته في بيت كريم ينتمي طرفاه إلى أسرتين من الأسر العريقة بالعلم والفضل والثقافة، وأثر من آثار دراسته في مدرسة النجاة الأهلية بالزُّبير التي تنافس في تعليمها الراسخ أعلى الجامعات بمن في المدرسة من علماء وأساتذة، ويضاف لذلك البيئة الأدبية المحيطة به، وقد بقيت جذوة العلم حيّة نشيطة في نفسه حتى مع مغادرته المبكرة لمقاعد التعليم؛ فسعت إليه الجامعات والشهادات والجوائز.

أخيرًا يا أيها النبلاء: لقد كان اجتماع الشيخ سعود البابطين وزوجه الكريمة حصة اللعبون -رحمهما الله- في بيت الزوجية اجتماعًا ميمونًا، بانت فيه ألطاف الرب الجليل، واستعادت ثماره عزة الأمة ولغتها وأدبها، والحمدلله الوهاب الكريم. والحمدلله أن جعل صاحبنا الراحل مثل الخبر الفخم لمبتدأ من العزم، وإن تقدم عليه فعل فهو الفاعل المرفوع، ولربما أصبح اسم كان رفيع الشأن على مدى الزمان، ثم تعمّق إلى أن غدا حالًا منصوبًا للسائرين الباحثين عن دروب النعت الكريم، وسبل الصفة الرشيدة، عسى أن ينبري منهم بدل أو بعض بدل، وعند الله يرتجى القبول والعوض.

وعسى أن تكون هذه الندوة الأولى المقامة بعد رحيله بثلاثة وثلاثين يومًا بشرى خير له بشباب نضر في الجنان، وأحدوثة خالدة مدى الزمان، والشكر لقيصرية الكتاب على مبادرتها وسبقها، ولمالك مكتبة الرشد ومؤسس القيصرية الأستاذ أحمد الحمدان، ولمن شارك في إحياء هذه الندوة من أقاربه والعاملين معه، وهما أ.د.عبدالعزيز اللعبون، والشاعر أ.محمد الجلواح، وللأديب الوفي أ.حمد القاضي الذي أدارها بحب سابغ وإتقان بالغ، ولمن حضر وتفاعل من أقارب الراحل ومحبيه وعامة المثقفين والأدباء، وعلى رأسهم شقيقه الشيخ عبداللطيف، وصديقه د.عبداللطيف الحسن.

لقد أصبح شيخنا بعد رحيله من الإرث المشترك لنا، ومن الحنان الذي نأوي إلى ظلاله، ونفعل ذلك ونحن نردد معه أبياته الشعرية التي حفرتها جامعة إكسفورد على مدخل قاعة تحمل اسمه الطيب الكريم:

خلّد سجلك فالبقاء قليل *** إن الزمان بعمره لطويل

واسكب عطاءك للجميع فإنه *** يبقى العطاء وغيره سيزول

واعلم بأن الفرد ينقص قدره *** إذا عاش بين الناس وهو بخيل

سطِّر على صدر الزمان شمائلًا *** تروي العصور شمائلًا وتقول

أبدعت فكرا نيرًا يا جهبذًا *** وبذلت جهدًا عاليًا سيصول

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 04 من شهرِ رجب عام 1445

16 من شهر يناير عام 2024م

Please follow and like us:

4 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)