مواسم ومجتمع

فجر مجدٍ يتسامى!

 فجر مجدٍ يتسامى!

تكسر العواصف ما تواجهه من أشجار ضعيفة، أو غير راسخة الجذور، وبالمقابل تسلم منها الأشجار القويّة، أو تلك التي لها جذور عميقة. ومن أشدّ ما يواجه كثيرًا من أهل الشّأن أن تقتادهم سلطات بلادهم أو الاحتلال إلى السّجن بشبهة، أو بغيًا، أو بوجه من الصّواب.

وكم شهدت جدران السّجون على كرام دخولها، أو قاسوا من أوضاعها، ثمّ نصرهم الله ولو بعد حين، وإن يتجاوز الكاتب أحدًا فلن يترك الكريم سليل الكرام، الذي غدت المعتقلات مدرسة باسمه، وهو نبي الله يوسف عليه الصّلاة والسّلام، حيث سجن ظلمًا، ثمّ خرج من السّجن إلى القصر حاكمًا على من ظلمه، ومنقذًا لمصر التي سخّر الله لإنقاذها أكثر من يوسف واحد في أزمان مختلفة.

وتعامل كفّار قريش مع النّبي الأكرم صلّى الله وعليه وسلّم ومع صحابته بلؤم غير معهود، حين منعوا عنهم التّجارة، والمؤونة، والتّواصل، وحجبوهم عن النّاس في الشِّعب ثلاث سنوات، ويشاء الله أن يخرجوا منه، فيبحث قائدهم عن مكان آمن ملائم، ويذهب الشّرف للمدينة والأنصار، وبعد أقلّ من عقد يعود الرّسول إلى مكة فاتحًا وحاكمًا وهاديًا، ويصبح جلّ أهلها مشمولين بفضله وعفوه.

وشهد السّجن دخول أحمد بن حنبل في فتنة القول بخلق القرآن، فثبت في موقف صدق ويقين، ثمّ خرج من غياهب المعتقل وغدا إمام أهل السّنة والجماعة، وقامة من قامات الصّمود. وبعد قرون تعاقب على السّجون أحمد بن تيميّة بتآمر علماء وأمراء، مع سوء ظنّهم، وكبير إفكهم، فامتنّ الله عليه بالرّسوخ والشّموخ، وغادر معتقله والحياة حاملًا لقب شيخ الإسلام، وتاركًا من الإرث ما يزداد إشعاعًا، ومن التّأثير ما تجاوز حدود الزّمان والمكان.

وكم من سجين كتب أفضل مؤلفاته بين أسوار الحبس، فالسّرخسي، وابن الجوزي، وابن تيميّة، والغماري، والمودودي، ألّفوا في ظلام المعتقل، وفولتيير أبدع روائعه الخالدة بين قضبان الباستيل، ونهرو دوّن تاريخ الهند وهو أسير للإنجليز، ومانديلا سطّر كتابًا عن الحريّة من السّجن؛ كما فعل بيجوفيتش قبله، والأمثلة كثيرة.

وفي تاريخنا المحلي، أسر الإمام فيصل بن تركي في مصر مرتين، وعاد من أولاهما ليشارك والده في بناء الدّولة الثّانية، ثمّ رجع من الاعتقال الثّاني، وقصد الرّياض ليثبت الحكم بعد أن تزعزع بين ضعف خالد بن سعود، وصلابة عبد الله بن ثنيان، ولذلك جعله بعض المؤرخين مؤسّس الدّولة الثّانية.

ومن المعاصرين، سيق الرّئيس المفكر المجاهد علي عزت بيجوفيتش إلى سجون الشّيوعيين غير مرّة؛ لأنّه طالب بحقوق أهل دينه، وأفرج عنه بعد أن ذاق صنوف العناء؛ ليواصل الكفاح، ويصبح زعيمًا مسلمًا في القارة العجوز، ورمزًا كبيرًا نال كثيرًا من الجوائز في الدّنيا، وخلال فترات سجنه ألّف كتابين من أعمق مؤلفاته، وهما الإسلام بين الشّرق والغرب، وهروبي إلى الحريّة.

ومكث نيلسون مانديلا في سجون التّمييز العنصري قريبًا من ثلاثة عقود، وصار بعدها زعيمًا لبلاده، ومثالًا ليس للأفارقة فقط، بل لكلّ من يعتقد أنّ له حقًا لا مناص من المطالبة به، وانتزاعه، وتحمّل المشقّات في سبيل تحقيق العدل، ونيل الحريّة، وأعجب شأنًا منه الشّيخ المقعد أحمد ياسين، الذي قاوم اليهود سجينًا وطليقًا، بفكره ورأيه وثباته.

وقبله كافح غاندي ضدّ الإنجليز، وأعتقل وأهين، ثمّ أغتيل، وغدا يوم ميلاده مناسبة عالميّة للمقاومة السّلميّة، وأكمل مشواره الزّعيم الكاتب المثقف نهرو، الذي قضى سنواته في السّجن يقرأ، ويكتب، وحين تحطّمت قيوده، حكم بلاده، وكان زعيمًا فيلسوفًا ومفكرًا. ولولا تجربة السّجن لما عرفت أمريكا والعالم الزّعيم المسلم مالكوم إكس خطيبًا مناضلًا، وداعية صادقًا، وربّما أصبحت نهاية حياته في وحل المخدّرات التي زجّ به في السّجن بسببها.

واستضافت الزّنازين عددًا من الزّعماء، منهم السّادات المشهور بفصاحته، وأناقته، وظرافته الّلاذعة، والمنصف المرزوقي، الطّبيب صاحب الثّقافة العميقة، والأحاديث الآسرة، والاعتزاز بدينه، ولغته، وقوميّته، ومثلهما حمادي الجبالي، وعلي العريض، وعبد الرّحمن اليوسفي، والتّرابي، وأنور إبراهيم، وآخرون.

وتحفل أمريكا الجنوبيّة بحكايات كثيرة، فالرّئيس البرازيلي لولا دا سيلفا أعتقل ضمن حملاته النّقابيّة، لكنّه أصبح رئيسًا تاريخيًا لبلاده فيما بعد، ومثله الزّعيم المثير هوجو تشافيز، وقادة تشيلي بعد فترة بينوشيه العصيبة، ولأوروبا الشّيوعيّة نصيبها الوافر كما في بولندا وزعيمها فاليسا، أو في التّشيك قبل الانفصال وبعده مع رمز مقاومتها الرّئيس الأديب فاتسلاف هافيل، الذي وقف وراء إسقاط النّظام الشّيوعي القاسي.

ولا يعني هذا أنّ كلّ سجين قد أدرك النًصر والتّمكين، فكم من أسير مات في معتقله، أو أفرج عنه وهو كسير نفس، كما أنّ كثيرًا ممّن نال المراتب العالية بلغها دون أن يكون في تاريخه سجون ومعتقلات، مثل صقر قريش عبد الرّحمن الدّاخل، والإمام تركي بن عبد الله الذي اختفى في صحاري نجد تمهيدًا لإحياء دولته، وقضى حفيده الملك عبد العزيز أوّل شبابه في الكويت، قبل أن يسترد مجد آبائه، والأمثلة كثيرة.

ومهما يكن، فبعد البلاء يأتي الفرج، لمن صدق، وصبر، وعزم على الإصلاح، وفعْل المعروف، وأطر الشّر، والفجر ينبثق بعد ظلمة، ويومًا مّا سوف تشرق الأرض بنور ربّها، ويطلع يوم جديد، فيه من المجد ما ينسي المتاعب، وقبل قرن تقريبًا صدح شاعر عربي قائلًا:

يا ظلام السّجن خيّم                        إنّنا نهوى الظّلاما

ليس بعد السّجن إلّا                       فجر مجدٍ يتسامى

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

السّبت ثاني أيّام عيد الفطر السّعيد عام 1439

16 من شهر يونيو عام 2018م

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)