سير وأعلام

كيسنجر وأمريكا وجهان لعملة…!

كيسنجر وأمريكا وجهان لعملة…!

طويت صفحة طويلة تحكي عن أزيد من مئة عام عاشها أحد أبرز الصور البشرية المعبرة عن أمريكا في السياسة والاقتصاد والمجال العسكري والمبادئ والحضور الدولي، وهو الدكتور هنري كيسنجر (27 من شهر مايو عام 1923-29 من شهر نوفمبر عام 2023م). وقد حفلت حياته بمجريات تشبه الولايات المتحدة الأمريكية حكومة ومجتمعًا في تقاطعات عديدة ولذلك يناسب الإشارة إليها في سياق الحديث عن هذا الأكاديمي السياسي الذي كان نجمًا وهو في السماء، ولم يفقد وهجه حتى عندما بدا أنه إلى الأرض قد هوى.

فأول ما يمكن الحديث عنه أن كيسنجر مهاجر يهودي من ألمانيا إلى أمريكا التي هي بلاد مهاجرين استوطنوا على جثث أهل الأرض الأصليين. وبعد وصوله إلى البلاد الجديدة عام (1938م) أجاد اللغة الإنجليزية، وشارك مبكرًا في الحرب العالمية الثانية، وتعمق في درس التاريخ ووعيه، وأجاد صنعة الكتابة والتغلغل من خلالها، وبالتالي سبق جموع الأمريكان في مدارج كثيرة حتى أولئك الذين دفعوه للأمام ثمّ أصبحوا خلفه أو نسيًا منسيًا أو في دائرة الاتهام؛ تماما كما صنع المهاجرون البيض بالسكان الأصليين “الهنود الحمر” الذين أكرموا البيض الوافدين؛ لكن البيض قتلوا منهم الروح والجسد والولد، وأهلكوا الحرث والنسل والثقافة والعراقة.

ثم استطاع “كيسنجر” بجديته وابتعاده عن مجتمعات طلاب الجامعة التفوق الدراسي، والتحصيل العلمي الزائد والعميق، ووثق علاقته بالأساتذة والأكاديميين، وأصدر مجلة سياسية استكتب لها الكبار وصيّر منها جسرًا للعلاقات مع الآخرين والتعرف إليهم. ولم يفوت الفرصة حينما اختار موضوعًا سياسيًا لرسالة الدكتوراة، وصار بناء على ذلك خبيرًا بالسياسة، واهلًا لن يصبح عضوًا في لجنة تدرس الأسلحة النووية، وبدهائه حول أعضاء اللجنة إلى باحثين ساعدوه كي يصدر كتابًا ضخمًا عن الأسلحة النووية؛ فهو مثل أمريكا يمتص خيرات الآخرين حتى آخر قطرة.

وعقب ذلك، وبتزكية اختير “كيسنجر” مستشارًا في البيت الأبيض، ثمّ سرعان ما تبوأ منصب مستشار الأمن القومي (1969-1975م)، ومنصب وزير الخارجية (1973-1977م)، ولم يجمع بينهما أحد قط، وربما أنه تجاوز صلاحيات رئيسيه “نيكسون”، و “فورد”، خاصة الأول الذي وقع في مستنقعات من الحروب والفضائح والتسريبات، منحت لصاحبنا الفرصة في رفض توجيهاته رفضًا صريحًا، وهل تجد أمريكا لها موضع قدم وفرص تأثير وسيطرة إلّا إذا تزايدت المحن والإحن والمخازي؟!

وخلال عمل “كيسنجر” استقطب عدة موظفين أصبحوا قادة لأمريكا بعده مثل “بوش الأب”، و “تشيني” و “رامسفيلد”، وكل واحد منهم له نصيبه من عار الإفساد والقتل وسفك الدماء مثل شيخهم “كسينجر”، ومثل بلادهم التي تجيد التعامل مع من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، وتحمي أشدّ شعوب الأرض إفسادًا. كما أنه تسلّق على أكتاف آخرين مثل زميل له إبان خدته العسكرية، وشقيق “ديفيد روكفلر”، وهم من أثرى اليهود، وفعله لا يختلف عن تعملق أمريكا على حساب الدول الأوروبية التي خرجت من الحرب العالمية الثانية منتصرة لكنها منهكة.

ومع أن “كيسنجر” أفاد من أمريكا كثيرًا، وهي التي آوته، وعلمته، ومنحته الجاه والثروة والظهور الكبير، إلّا أنه حرص على خدمة اليهود ودولتهم المقامة على أرض فلسطين، وكان عراب مشروعات من هذا الباب أبرزها إيقاف الحرب عام (1973م)، والسفر الطويل بين دول ذات علاقة حتى نجح في إتمام معاهدة “كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل، وهي المعاهدة التي تحتاج لتقييم بعيد عن النتائج المسبقة، وعن التنازع المصلحي والنفاق الآثم، ولا بدّ من الإشارة هنا إلى سؤال مهم: هل “كيسنجر” يخدم اليهود لأجل يهوديته، أم أنه يستخدمهم لخدمة أمريكا والعمل نيابة عنها في المنطقة؟ وهو السؤال ذاته المطروح لتفسير العلاقة الإستراتيجية بين أمريكا العظمى، وبين إسرائيل المغروسة نشازًا غير مندمج في محيط يخالفها ويخالف راعيتها الكبرى.

كما كان لهذا الداهية السياسي تأثير مركزي في تجسير العلاقة بين واشنطن وبكين، حتى زار “نيكسون” الصين زيارة مفاجئة عام (1971م)، وهي الزيارة التي ضبطت العلاقة بين البلدين، وضمنت لأمريكا حراكًا عالميًا آمنًا من أي قلق من صوب الشرق، وهو الأمر الذي تخشاه أمريكا حتى اليوم عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا وتقنيًا، ولو استثمر بتدبير حكيم لتلاشت الهيمنة الأمريكية على العالم التي عمل “كيسنجر” على تحقيقها من خلال العلاقات مع الصين، وتقريب وجهات النظر مع موسكو.

ومما يلفت النظر ولا ينبغي تجاوزه في سيرة “كيسنجر” أن لديه حضورًا إعلاميًا طاغيًا إن في الإعلام الرزين أو في الإعلام الشعبي الرخيص، ولا يعوزه الوقت للاجتماع بأهل الإعلام، ولديه فتنة البحث عن الأضواء، والحضور في أي مناسبة، وهل أغوت أمريكا العالم، وقلبت الآراء إلّا من خلال الإعلام المتين عبر المفكرين الذين عظمتهم، وعبر هوليوود التي صنعت المزاج الفني العالمي؟ ومن اللطيف أن علاقات “كيسنجر” الإعلامية والفنية قوية جدًا، وفي زياراته المتكررة لمصر يصر على حضور وصلات رقص تؤديها إحدى الراقصات التي رغب أن يقترن بها، ولم تتم هذه الرغبة، وقد قال عنها: إنها الشيء الوحيد الجميل الذي رآه في الشرق الأوسط! ولا ريب فأمريكا أصلًا لا ترى أكثر العالم شيئًا مذكورًا!

لكن مع ذلك لم يستطع “كيسنجر” أن يقنع العالم ببراءة موقفه من اغتيالات، وانقلابات، وقتل جماعي، وتدمير مدني، حتى لو نال جائزة نوبل للسلام، وحتى لو حاز من التبجيل ما لم يسبقه إليه مسؤول أمريكي مثله من قبل ومن بعد، وغدا مجرم حرب يطالب الشرفاء بمحاكمته، وخوفًا من جرائر أعماله لم يذهب ليتسلم جائزة نوبل بنفسه، واجتهد في الحضور التلفزيوني، وعبر كتابة المقالات والمذكرات ونشرها، ليحمي تاريخه واسمه، ومع ذلك فالدماء المسفوكة، والبلاد المدمرة، سوف تلاحقه ميتًا كما أحرجته حيًا، تمامًا مثل أمريكا التي لن تخرج من عهدة أعمال تخريب كثيرة متواصلة عبر قرن من الزمان يساوي عمر وزيرها المخضرم الذكي.

وقد كان كيسنجر من خلال أبعاده الأكاديمية بارعًا في الحديث عن حقوق الإنسان، والديمقراطية، وحرية الإعلام، والشعارات المبدئية الجميلة، لكنه عند التطبيق يرى ألّا مناص من القوة لدرجة القتل الجماعي، والقصف المروع، والتدخل المباشر في شؤون الآخرين. ويجد لنفسه التسويغ المريح والمخرج القانوني لتفسير أعماله ضد ثقافات ودول ومجتمعات وأفراد طالب بالتجسس عليهم وانتهاك خصوصيتهم أو إنهاء حياتهم. وساند زعماء عرفوا بالقسوة المفرطة على شعوبهم مثل الشاه، ووضع تقريرًا لتقليل النسل في دول العالم الثالث، فهل يختلف هذا الرجل عن أمريكا أبرع الدول في الحديث عن الحقوق والحريات، وأكثرها خرقًا داميًا موجعًا لها؛ فكلاهما -الدولة والرجل- يقدمان المصلحة مهما كانت على المبادئ أيًا كانت بحجة واقعية السياسة!

كذلك مما يلفت النظر أن الدكتور “كيسنجر” لم يعتذر عن عمل تولى كبره مهما كانت عقابيله وتداعياته، وهل يعتذر القوي، وهل سمعتم مرة عن اعتذار صريح صادر من أمريكا؟ ومن دهائه أن إدارة “نيكسون” تضررت كلها تقريبًا من الفضائح، وغادرت البيت الأبيض إلّا هو الذي استمر في منصبين خطيرين، وإنه ليشبه بلاده التي تسوق العالم في تحالفات، وبعد نهاية المهمة تفوز بالغنيمة كلها أو جلها، وإذا اضطرت للهرب مطرودة تركت جميع من عاونها من أهل البلاد المحتلة يواجه مصيره المظلم ولم تلتفت إليه على عظم الخدمات والخيانات التي اقترفها المساكين استرضاءً لأمريكا، وغالبًا ففي المسؤولين الذين خسروا مواقعهم من دأب على السير في ركان “كيسنجر” وابتغاء مرضاته؛ لكنه سقط وبقي الثعلب الماكر.

إن هذا المقال ليس في سياق الثناء أو الذم، وإنما هو تأمل ووصف قد يصيب أو يخطئ، والقارئ حر في أن يضيف لعنوان المقال كلمة “جيدة أو رديئة” حسبما يعتقد، وأما موقفي منه فلا يختلف كثيرًا عما أورده د.غازي القصيبي -رحمه الله- في سيرته “حياة في الإدارة”. ويبقى الشيء الأهم أن رجل الدولة الكبير “هنري كيسنجر” لم يفقد الاحتفاء به حتى وهو كبير مترهل أكلت منه السنون وشربت، بل ظلّ مغريًا جذابًا ينصت لقوله، وتعاد كلمته، وتحظى بصدى وتداول، مثل شون أمريكا كافة التي هرمت لكنها مؤثرة متسلطة، وقد جاوزت وصف الدولة إلى صفة الحضارة مع أنها تفتقد للعراقة الممتدة التي تمنح النفس قوة، وتلك إحدى علل “كيسنجر” التي دمرت النازية نفسيته كما يقول عارفوه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 16 من شهرِ جمادى الأولى عام 1445

30 من شهر نوفمبر عام 2023م

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)