سير وأعلام

هوامش على سيرة سلطان

الأمير سلطان

هوامش على سيرة سلطان

أحيانًا قد لا يسعف الوقت ولا الجهد في كتابة مستوعبة يستحقها المتَرجم له، فيكون هذا أوان قولنا: ما لا يُدرك كله لا يُترك جله! ومن هذا الباب أن نسعى إلى إشهار بعض المرويات لما فيها من دلائل وفوائد ومحامد، ويمكن لمن يريد التوسع أن يطلبه في مظانه. وفي هذه الطريقة المختصرة حفظ للآثار، مع سهولة التداول، وفيها تحفيز على مزيد قراءة وبحث وسؤال، ومن سار وصل ولا ريب، ومن طرق الباب فتحت له كنوز المعلومات، وأسفرت أمامه وجوه الحقائق والكشوفات.

وهذا البحث لن يكون مضنيًا حينما يُجرى عن إنسان في عيار الأمير سلطان بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود (1346-1432=1928-2011م)، فالمادة العلمية متوافرة عن الأمير الجليل وسيرته وأعماله بأكثر من لغة، وفيها المكتوب والمرئي والمسموع؛ ولذلك حرصت هنا على إيراد هوامش على ضفاف تلك السيرة، ولربما أن بعض هذه الهوامش تضارع المتن في النفع والقيمة لندرتها، والعياذ بالله من هامش ليس سوى محض حشو وتزيد.

فمن خبر الأمير سلطان فيما يخصّ علاقته بمجلس الوزراء الموقر أنه أصبح عضوًا فيه منذ نشأته عام (1373=1953م) إلى وفاته عام (1432=2011م)، مع انقطاع يسير لمدة تقصر عن سنتين ( 1380-1382=1960-1962م)، وبالتالي فهو أطول أعضاء المجلس في مدة العضوية المتصلة أو الكاملة حتى الآن، وأحد الذين تولوا ثلاث وزارات بالأصالة؛ فهو أول وزير للزراعة، وثاني وزير للمواصلات، وخامس وزير للدفاع، وكان قبل الوزارة أميرًا على الرياض، وعليه فهو أول أمير منطقة يصبح بعد الإمارة وزيرًا إذا استثنينا نيابة الأمير فيصل عن الملك عبدالعزيز على الحجاز.

كما أنه ثالث من سمي نائبًا ثانيًا لرئيس المجلس، وهو منصب استحدثه الملك فيصل عام (1387=1967م) وعيّن عليه وزير الداخلية آنذاك الأمير فهد. والأمير سلطان كذلك هو خامس نائب لرئيس مجلس الوزراء، وسادس ولي عهد للمملكة، وأول ولي عهد يتوفى وهو في منصبه، وواحد من وزراء قلة أدركتهم المنية وهم في المنصب. ومن مزايا عضويته المجلسية أنه ترأس مجلس الوزراء عدة مرات في عهد الملكين فيصل وخالد، ولم يكن حينها يحمل صفة النائب، وفي ذلكم إشارة إلى مكنته الإدارية، وخبرته في الحكم.

وتظهر الصور كثرة مرافقة الأمير سلطان لأخيه الملك فيصل داخل المملكة وخارجها، وقرأت فيما مضى حوارًا مع الأمير سلطان، وفيه أن ‫الملك فيصل سُأل عن سبب تقريبه لأخيه سلطان، وتخصيصه ببعض المهام أكثر من بقية أبناء جيله فقال: سلطان يعينني على نفسه! وهاهنا فائدة تربوية؛ ‏فإذا رأيت مَن يصطفيك، ويعلمك، ويجتهد في تأهيلك وتدريبك؛ فساعده على نفسك بالانضباط والاجتهاد والتعلّم المستمر والانصات للتقويم والتوجيه. وهاهنا موضع للاستئناس بما يشهد به المقربون للأمير سلطان من انضباط في المواقيت، وحرصه على الزمن والإنجاز.

وشاهدت لقاء مرئيًا مع الأمير سلطان ذكر فيه أنه قابل الزعيم الهندي الكبير نهرو، فقال نهرو لسلطان: أنا أو نحن في الهند نغبطكم على شيئين! فتوقع الأمير أن النفط أحدهما، لكن نهرو خالف هذا التوقع حينما أكمل حديثه قائلًا: هذان الشيئان هما الكعبة وفيصل! وفي هذه الغبطة ملامح من العراقة والأصالة الدينية، ودعوة للالتفاف حول الرجال العظماء الذين يقصدون تحقيق المصالح العامة والعليا في نشاطهم كله، وتجتمع حولهم الكلمة والقلوب.

كما سمعت مرة أن الأمير سلطان تفرس نجابة في أحد الضباط، وخمن أن سيغدو لهذا الضابط مكانة في القيادة العسكرية وتمثيل المملكة، بيد أن الضابط البارز يحمل اسمًا إن قرأه الخبثاء بتشكيل مختلف آل لمعنى يجتنب التصريح به، وإن قرأه غيرهم بتشكيله الصحيح ففي معناه علو وارتفاع، لكنه اسم نادر، وضبطه بالشكل الصائب صعب، والغلط فيه وارد جدًا مثلما هي طبيعة الأشياء التي لا تعهدها الآذان والعيون.

لأجل ذلك، وقطعًا لدابر الاحتمال المشين، قال الأمير للضابط: سأمنحك شيئًا عزيزًا عندي، لكن قبل ذلك دعني أسألك: هل لك أخ اسمه سلطان؟ وحين أجاب الضابط بالنفي منحه الأمير اسمه، ومن المؤكد أن المنح تجاوز الاسم الجميل إلى حزمة عطايا جميلة من رجل عرف بالكرم والكرم المضاعف مع من حوله، علمًا أن هذا الضابط الهمام قد تسنم أحد المناصب القيادية، وصار من الذين يحملون اسمًا حسنًا، وكثيرًا من الفعال الحسنة والخصال الحميدة، التي يشرّف بها بلاده وقومه، وقطع الأمير الحصيف بذلك الفرصة على من يريد الاستظراف أو الإساءة.

وأذكر أن الشيخ أ.د.صالح بن حميد ألقى خطبة فخمة على منبر الحرم المكي عام (1416=1996م) عقب نهاية أيام التشريق، وجلّ الحجاج في المسجد الحرام وقتها، وكانت الخطبة الموسمية المشهودة عن إجرام اليهود ضدّ لبنان في عملية عسكرية أسموها “عناقيد الغضب”، وعندما سأل الأمير سلطان من أحد الصحفيين عن هذه الخطبة، قال كلمة معناها أن الخطبة متوافقة مع ما نراه. وللعلم فمما اشتهر عن سلطان الخير أنه يتحدث ساعات متواصلة عن قضية فلسطين دون ملل أو إملال، وأصبح هذا معروفًا لدى أيّ زعيم أو مسؤول يقابل الأمير، وربما تحاشى بعضهم عامدًا ذكر فلسطين إذا كان اللقاء قصيرًا.

تقودني هذه الواقعة إلى حكاية لطيفة رويت لي نقلًا عن أحد أبناء مشايخ المملكة الكبار والمشاهير عالميًا؛ إذ طلب هذا الابن موعدًا مع الأمير بعد تخرجه في الثانوية، ودخل الفتى على وزير الدفاع في مكتبه، ومعه طلب قبول في إحدى الكليات العسكرية مدعيًا أن والده الشيخ يشفع له، فكتب عليها الأمير قبولًا من فوره، وقال للشاب: أنت مؤهل بدرجاتك وقوامك الذي يبدو لي، وليس للشيخ شفاعة في هذا الموضوع؛ لأني كنت معه على الهاتف قبل مجيئك، ولم يذكر لي شيئًا، وإنما نقبلك إكرامًا للوالد الشيخ، ونفعًا للبلد نرتجيه منك! وربما أن الأمير الذكي أوصل بجوابه للفتى درسًا في الصدق، ودرسًا آخر في أن خديعة الكبراء عسيرة في جميع جوانبها ومآلاتها لكن الله سلّم، وبالمناسبة فلسلطان يد حميدة على طلبة لا يُحصى عديدهم إن في القبول أو الابتعاث، ومنهم الخبير السعودي العالمي في الزلازل أ.د.عبدالله العمري.

كذلك قال لي أستاذ جامعي راحل: أراد الأمير معرفة بعض الأوضاع المحلية عن كثب، فطلب لقاء مع بضعة أساتذة من جامعة الملك سعود، في تخصصات علم الاجتماع، والقانون، والإدارة، والسياسة، والاقتصاد، والإعلام. وحين حضروا حسب الموعد المحدد سلفًا، وصلوا معًا الظهر أو العصر، طلب الأمير منهم الإجابة الصريحة دون خوف أو مواربة أو مجاملة، وكان اللقاء قد سُبق بأسئلة مجتمعية واقتصادية محلية أرسلت لهؤلاء الأساتذة، كي يعدوا لها جوابًا واضحًا وعلميًا تبرأ به الذمة.

وقد عرف الأمير بأنه معطاء كريم لا يكاد أن يرد سائلًا، وما من عمل شارك فيه آخرون إلّا نالهم من الأمير شيئًا يجعل الواحد منهم يشهق مرة تلو أخرى من الفرحة، ولم ينس سلطان الجود من الأعطيات الحراس وطاقم تقديم الشاي والقهوة، وهم من فئات تُنسى غالبًا، مع أن حاجتها أشد، ودعواتها أحرى بالإجابة. وفي جميع مراجعاته الطبية المحلية يكرم المجموعات الصحية التي أشرفت على الفحص والعلاج، ويفرح كثيرًا حينما يرى الممارس الصحي من أبناء البلد وبناته، وربما مازحهم حسب المقام المناسب. ولم تقتصر العطايا السلطانية على من حوله فقط، وإنما شملت أفرادًا ومجتمعات أباعد عنه، إذ تأثر من صور تصف الجوع الشديد في بلاد مسلمة، وأنشأ دون تأخير لجنة لإغاثتهم ترتبط به مباشرة.

أيضًا للأمير مواقف تنبئ عن التزام إداري كبير، وطاعة عميقة لمقتضيات المصلحة العليا، فهو أول مؤيد لفكرة هيئة البيعة وتنظيمها، ومع تضايقه -مثل أيّ مسؤول- من بعض ما يصدر عن عدة وزراء مالية، إلّا أنه يقدّر أنهم يعملون وفق أطر وأنظمة، وأن تلك الإجراءات لها وجاهتها، ولا بأس من الإشارة إلى كلمة لطيفة سمعتها من وزير مصري ينقلها عن وزير المال المصري، وهي أن الغضب على المسؤول المالي ممن حوله دليل على نجاحه في عمله! وعودًا إلى أميرنا؛ فمن تفكيره العملي ومنهجيته الواقعية، أنه حينما رُّشح د.فهاد المعتاد الحمد لمنصب رفيع في معهد الإدارة، قال له أحد الوزراء قبل اتخاذ القرار من باب الإحاطة فقط: سيكون على رأس المعهد عدة قيادات من بلدة واحدة بناء على هذا الترشيح! فأجاب الأمير سلطان بلا تردد: الكفاءة والأهلية أولًا، والبلد واحد من شماله لجنوبه.

ولم يغفل الأمير الذي وقف نصف قرن على رأس منظومة عسكرية برية وجوية وبحرية عن الشأن الثقافي، فصدرت بدعم مالي ومعنوي منه موسوعة عربية ضخمة في ثلاثين مجلدًا بطباعة فاخرة ولها موقع على الانترنت، وترجمت وثائق عالمية عن السعودية في عشرين مجلدًا أنيقًا والله يعجل بإتاحتها لعظم الحاجة إليها، كما صدرت موسوعة عن التراث السعودي الثقافي في عدة مجلدات تحكي عن تراثنا وحياتنا الاجتماعية وعاداتنا، وليت أن وزارة الثقافة تبادر لإعادة طبعها أو نشرها ورقيًا وإلكترونيًا أو بأحدهما. وذكر السفير العراقي أمين المميز في يومياته أن الأمير سلطان يكلّف الشيخ عبدالله الخيال -السفير السعودي ببغداد- بأن يشتري له الكتب المهمة والنفيسة من العراق دائمًا.

أما في التعليم العالي فلأمير شأن لا يمكن أن يُعرض عنه؛ فمن ذلك أنه بادر إلى تنشيط البعثات للخارج عبر وزارة الدفاع، وكانت البعثات في تخصصات حيوية تحتاجها البلاد، وسمعت من مبتعث للنمسا أن الأمير عبدالله -الملك لاحقًا- انبهر من عدد المبتعثين عن طريق أخيه، وقال: إن سلطان لبصير حكيم، ومن ساعتها نشط الابتعاث في الحرس الوطني. ومما ذكره لي أحد قدماء هؤلاء المبتعثين أن والده زار الأمير في مكتبه ليحصل على بعثة للابن الذي ضاعت منه الفرصة بسبب تأخره، وبين الأمير ووالد الفتى زمالة عمل سابقة، فلم يتأخر سلطان، وأصدر قرار الابتعاث وقال للأب: إن شئت ابتعثناك أنت كذلك مع ابنك! وكان للأمير لقاءات مع بعض أساتذة جامعة الرياض -جامعة الملك سعود- يسمع منهم ويسمعون منه، ويستفيد في الوزارة من علمهم، ولم يقصر معهم إذ منحهم الأراضي والمكافآت الجزلة.

ولأن الأمير سلطان حظي بمكانة عالية لدى إخوانه الملوك والأمراء، وظهر هذا جليًا في قربه منهم، وحضوره الذي لا يغيب؛ فقد استثمر بعض المسؤولين هذه السمة الكبيرة في الأمير صاحب البسمة المشرقة التي قلما تختفي، فطلب منه الشيخ عبدالرحمن العجلان الشفاعة لدى الملك فهد كي يقبل استقالته من رئاسة محاكم القصيم حتى يجاور في الحرم؛ لأن الملك أبى إجابة هذا الطلب، وقد سعى ونجح في تحقيق مراد الشيخ. كما ساعد وزير المالية والاقتصاد الوطني د.سليمان السليم في قبول طلب استعفائه من الوزارة التي عين عليها بعد عشرين عامًا قضاها وزيرًا للتجارة بعد ان رفض الملك فهد هذا الأمر عدة مرات، والله يكتب له أجر الشفاعة وعون أصحاب المطالب.

هذا هو سلطان، الابن الخامس عشر للملك المؤسس، والرجل الإداري صاحب الجلد في العمل حتى أن الذين يعملون معه تخفق رؤوسهم وهو يقظ نشط يمازحهم برذاذ من الماء، ويقول لهم أنا أحق بالراحة منكم بسبب العمر. وهو الأمير المتحدث بنغمة مميزة، وانطلاقة لسانية، وصاحب الجود والعطاء الذي شاع خبره، ومن المؤكد أن بعضه غير معلن، وعند الله الأجور على صنيعه الخيري في إنشاء المراكز، وبناء المساجد، وحفر الآبار، وإغاثة الملهوفين، وإعانة من وصل إليه باحثًا عن دراسة أو علاج أو إنصاف أو سكن، ولأجل هذا فليس بغريب فجيعة الناس بمرضه ثمّ وفاته، والحضور المحلي والدولي الكثيف لجنازته، والله يتولاه بفيوض رحمته وعفوه وجميع المسلمين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 27 من شهرِ ربيع الآخر عام 1445

11 من شهر نوفمبر عام 2023م

 

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)