خماسية فوق البسفور!
استضافنا رجل كريم النفس بشوش المحيا، ولم نكُ -علم الله- بحاجة إلى برهان على ما فيه من سماحة وفضل؛ إذ سيما وجوه النبلاء تنبئ في الغالب عن مكنون القلوب ومضمون الخواطر. ومن كرم مضيفنا أن دعانا إلى جولة بحرية فوق مضيق البسفور، في لحظة اجتمع لها سكون الجو والبر والبحر، وفوق السفينة بالغ في إكرامنا برائق الشراب، ولذيذ الطعام، وقبلهما ومعهما وبعدهما إشراقة بسمة صافية، وكلمات عذاب صادقة، وفرحة بالحضور ظاهرة الحبور.
ومن تمام فضله وزيادة احتفائه بنا أن تعاقد مع فرقة إنشادية دمشقية كي يشدو لنا طاقمها من الأشعار والقصائد والكلمات ما نعلم زكاتها ورقيها في المعنى، ونستشعر حلاوتها وطعمها العسلي الذي مثله لا يُنسى، فهي أشعار في تمجيد الرب العظيم سبحانه، والصلاة والسلام على الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، وذكر مناقب الصحابة رضوان الله عليهم، مع الحداء بالفضائل والمباح من الكلام وحاجات الإنسان، وما بجنسه يتسامر الأدباء.
ثمّ أراد المنشدون الاستماع إلينا، فشدا بعضنا لهم شيئًا من اللحون الحجازية الجميلة الصالحة الحسان، وأبهرهم آخر بأنشودة ألّفها، وجرت على ألسن شداة في ست لغات عالمية، وربما أنها كانت مشاهدة عبر وسائل مرئية تناهز الأربعين، والعجب العجاب أنها من كلمة واحدة فقط لم يجتمع معها جمع من الكلمات ولا حتى جمعان! وحين جاء الدور إليّ قلت كلمة مختصرة، ولم أنافس القوم في النشيد؛ ليس لأني ضعيف في حفظ الشعر فقط، بل لأني لا أمتلك أيّ مهارة صوتية!
فقلت لهم كلمة خماسية مختصرة، وطلب المضيف الكريم مني كتابتها، ولذا أكتبها وفاء بالوعد له، وعسى أن يكون هو والمنشدون والحضور شركاء في أجورها، والله يعصمني ويعصمهم من أي غلط أو خطأ؛ فالخير أردنا لا غير. وخلاصة حديثي معهم هو أن الله قد منح أولئك المبدعين موهبة صوتية، وجدير بهم أن تكون نيتهم متعددة، وأن يحتسبوا الأجر الأخروي من خمسة زوايا هي:
- اختيار القصائد التي تحوي المعاني الرفيعة، والكلمات الشريفة، كي يرتقي الذوق، وتصمد المبادئ بأكثر من طريقة؛ ذلك أن ذائقة الأجيال قد تفسد بأنواع من السوء في المحتوى والطريقة، أو بأحدهما. ومما ذكر أن أحد باعة الغلمان في الأندلس عوتب وزجر لأنه يروي غلمانه أشعار عنترة، وأمر أن يشغلهم بشعر الغزل والمجون كي يكونوا أكثر خضوعًا؛ فشعر الأنفة ينبت في حفظته العزة أحيانًا.
- الإبقاء على اللغة العربية الفصحى بعد أن زاحمتها لهجات عربية وأخرى بلكنة أعجمية أو بكلمات أجنبية، وإن اللغة -أيًا كانت- لمن مكونات الأمن القومي لأي بلد أو أمة، وتزيد اللغة العربية بمكانتها الدينية التي ألبستها لبوس القداسة، وصيرتها في حرز ينبغي ألّا ينتهك.
- إيجاد بديل طيب دائم التجويد كي تستمع الآذان إلى أصوات وكلمات تخلو من المحذورات أو من كثير من المحظورات التي صارت تلاحق الناس إلى كل مكان، وإن التمام لمطلب عسير، ولا مناص من التفاعل المناسب قدر الاستطاعة.
- تقديم الدليل على ما في الدين الخاتم الذي أكمله الله، وأتمه، وارتضاه للناس، من بهجة وفرحة؛ وما فيه من فسحة وحب للحياة ومتاعها بإقبال من لا ينسى نصيبه من الحياة الدنيا حتى وهو يبتغي الدار الآخرة في محياه كله، وفي مماته أيضًا.
- الاحتساب في إيناس الأرواح، وإبهاج القلوب، وإدخال الأنس إلى النفوس حتى تبدو علائم الانشراح في انطلاق البسمات وجميل التفاعل المهذب، والاحتساب في البحث عن الرزق الحلال مع أن خلافه هو السائد ومنه تجنى الأموال، وتنتفخ الأرصدة.
وبعد دوران اللقاء ما بين نشيد وقصيد، وطرف وترحيب المضيف خلال ذلك كله، رجعت الكلمة مرة أخرى إليّ عقب الصحب الكرام، فقلت لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد استثمر الأصوات في أصحابه رضوان الله عليهم؛ فجعل بلالًا مؤذنه، واستمع إلى القرآن يتلى من غير واحد حتى وصف بعضهم بأنه أوتي مزامير آل داوود، وطلب من أنجشة الترفق بالحداء، واستفاد من جهورية صوت العباس في المعركة لجمع الرجال حوله، واختار أبا محذورة الجمحي بعد أن سمع صوته من بين عشرين صحابيًا؛ فأصبح من مؤذني الأمة طوال الأعناق.
ثمّ أضفت بأن الصوت المسموع من دلائل الزعامة والسيادة حتى قالت عائشة رضي الله عنها للمتزهدين واصفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنه إذا تكلّم أسمع. ومن حكم العرب المروية أن ثلاث صفات إذا اجتمعت فهي من علائم سؤدد صاحبها، وهي: جهورية الصوت، وضخامة الرأس، وشدة العطاس! وطبعًا ليس هذا قيدًا دائمًا بالضرورة، على أن الصوت الجهوري يعطي لصاحبه قدرًا من المهابة، والله يجعل الجميع ممن استعملوا ما وهبهم الله فيما يرضيه، ويقربهم منه، ويمتعهم المتاع الحسن في الدنيا والآخرة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف- إسطنبول- تركيا
الأربعاء 05 من شهرِ ربيع الأول عام 1445
20 من شهر سبتمبر عام 2023م