سير وأعلام عرض كتاب

محمد الشريف مع الحياة والمجتمع

محمد الشريف مع الحياة والمجتمع

هذه سيرة ذاتية سعودية جديدة، عنوانها: رحلة عمر: سيرة ولمحات من التاريخ الاجتماعي، تأليف: محمد بن عبدالله الشريف، صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عام (1444=2023م)، ويقع في (500) صفحة مكونة من إهداء واستفتاح ثم عشرة أجزاء، يعقبها ختام وملحق بالصور. وعلى الغلاف الأمامي صورة بلدة المؤلف المفيجر ضمن محافظة الحريق، وتحتهما بيتان من الشعر للأديب عبدالله ابن خميس يتغنى فيهما بجبال طويق الشامخة الراسخة الثابتة.

أهدى المؤلف بخطه الجميل جدًا كتابه إلى جمع ممن أحاطوا به أسريًا وتعليميًا وفي العمل والحياة والوطن، وذكر أن من أسباب كتابته لسيرته سعيه لسد الفجوة المعرفية عند جيل الشباب الذين قد لا يتصور بعضهم الأحوال التي كانت عليها ديارهم قبل عقود مضت، وهي صورة لا تختلف عمّا سبقها من قرون؛ ولأجل هذا سرد مؤلفنا في كتابه تفاصيل الحياة القديمة في الدراسة، والطعام، واللباس، والعلاقات، واللعب، والسفر، والأمراض، وسبل العلاج الشعبي أو بالكي والرقية، والمقاهي، وأماكن النزهة، وطرق التنقل والاتصال، وتكوين الأجهزة الحكومية والأنظمة، ولربما أن الجيل الحالي ومن سبقه لا يحيطون بتلك المشاق علمًا، ولا حتى توقعًا بأن بلادهم وأجدادهم عاشوا في رقة حال، وصعوبة مجهدة.

ثمّ قسم معاليه كتابه إلى عشرة أقسام، عرض فيها طرفًا من تاريخ أسرته، ونشأته، ودخوله الباكر إلى معترك الحياة، وتنقل بعدها في محطات العمل مع رجال دولة كبار -غفر الله لهم-، وبدأ من إدارة الجوازات التي عاصر فيها الشيخ البصير المحنك محمد بن ضاوي، إلى ديوان المراقبة العامة وعمل مع الأمير مساعد بن عبدالرحمن وبعده مع د.عبدالعزيز الخويطر، وقطعها بإكمال الدراسة العليا، ليعود أكثر تأهيلًا، فاستقطبه وزير المالية الشيخ محمد أبا الخيل.

وعقب ذلك أصبح من ضمن أول ستين عضوًا في مجلس الشورى بصورته الحديثة، واستمر في العضوية ثلاث دورات متعاقبات لمدة اثني عشر عامًا (1414-1426). وعقب إمضاء سنوات يسيرة من التقاعد سمي أول رئيس للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد “نزاهة”، وإن أعمال التأسيس لمنهكة مع أهميتها وقيمتها. ولم يترك الشريف سيرته دون إشارة لعلاقته مع الأدب والشعر والكتابة، وهي علاقة قديمة باقية صيرته من أرباب القلم، وأصحاب الكتاب، ورواد المكتبات.

أمضى أبو هشام خمسين عامًا في العمل الحكومي بسطها في سيرته بتوسع، وفي بعض السرد الإداري إخراج للكتاب عن أجواء السير الماتع. وعاش في ثلاثة أماكن محلية في وسط البلاد وشرقها، وتزامل مع أناس كثر أشار لبعضهم مثنيًا على جهودهم وإخلاصهم وحسن ظنهم به، وممن أشاد بهم كثيرًا الأستاذ عبدالعزيز الدوخي زميل الدراسة العليا في أمريكا، وأحد منسقي لقاء الدارسين هناك بعد عودتهم للمملكة، وهو لقاء مستمر منذ نصف قرن حتى مع تناقص أعضائه بالعجز أو الوفاة، وإنها لتجربة رائعة.

كما أشاد بزميله في مجلس الشورى د.عبدالرحمن الشبيلي، علمًا أن الفصل الذي تحدث المؤلف فيه عن تجربته في المجلس هو الأطول في عدد الصفحات، ومما لاحظته على كثير من أعضاء الشورى -الذين أعرفهم على الأقل- أنهم يعتزون بتجربتهم الشورية كثيرًا. ومما يشار إليه في هذا المقام أن أعضاء الشورى الأوائل يحملون في قلوبهم توقيرًا لثلاثة من المجلس بما يشبه الإجماع، وهم الشيخ محمد بن جبير، والدكتور عبدالرحمن الشبيلي، والدكتور زياد السديري، وفي كل الأعضاء خير وبركة، ولهم المحبة والتوقير، وهذا مبلغ علمي وملاحظتي.

وقد تحدث المؤلف الشريف عن الكتاب الجميل الناصح بحق وإخلاص، الذي أصدره ثمانية أعضاء من المجلس بعد انتهاء عضويتهم، وحرره د.الشبيلي ليزيده رونقًا ومتانة. ويُعدّ الكتاب وثيقة تاريخية وفكرية وإدارية مهمة لمن سيدرس المجلس وتاريخه. ومن الموافقات اللطيفة أني شاركت في ندوة أقامها مركز عبدالرحمن السديري الثقافي في الغاط عن د.الشبيلي بعد رحيله المفاجئ الموجع، وكنت رابع المتحدثين بعد ثلاثة أولهم معالي الأستاذ الشريف، ولي مع تلك الندوة ذكريات جديرة بأن أرويها يومًا.

أما فوائد الكتاب فكثيرة، وبعد استثناء الفوائد الإدارية الصرفة، يمكننا أن نلتقط أن المؤلف وصف منذ طفولته بأنه “حي قلب”؛ ولذلك أخذه والده للمسجد والكتّاب مبكرًا، ومع ندرة الإمكانات وتخلّف كثير من الأساسيات فلدى المؤلف حرص على العلم، ونهم في الثقافة، وخط آسر يا قوم؛ لنعلم أن الجدية، والبعد عن الرفاهية الزائدة، والابتعاد عن الترف المقيت من أسباب النجاح، والسلامة من التفاهة في الذهن والاهتمام، والانتفاخ في البطن والنفس، وهما من علل أجيال حديثة، والله يصلح الحال، وإنه لصالح حتمًا.

ومنها أن المؤلف درس الابتدائية والماجستير فقط بالانتظام، وما بينهما من مراحل فبالانتساب فقط؛ مما أفقده لذة الزمالة الجامعية، وربما أنه عوضها في دراسته الماجستير بأمريكا؛ حتى أن دوريتهم مستمرة منذ خمسة عقود يتشاركون في الإدارة والاستضافة ومتابعة أعذار الغائبين؛ كما تشاركوا الحياة والدراسة في ولايتهم الأمريكية، ومرة جمعوا وقود سياراتهم في سيارة واحدة زمن قطع النفط السعودي عن أمريكا عام (1973م)، واستطاعوا بذلك حضور مهرجان تمور في ولاية كاليفورينا.

كذلك منها ندرة اللحم فلا يأكلونه إلا في عيد الأضحى أو الأعراس، ومن يشتري لحمًا يخفيه حذار العين التي يخشاها الناس وينسبون إليها كل نقص أو ضعف. ونقرأ كذلك عن اكتفاء المرء بثوب واحد دون مكملات داخلية أو خارجية! واقتصار شرب القهوة على الكبار، وأما الشاي فلا يعرفونه البتة وأيّ نعيم فاتهم! ومن رفيع ما رواه نقلًا عن والدته أن المحتطبين يتعمدون اجتناب قطع الأشجار الخضراء من تلقاء أنفسهم بلا خوف من عقوبة أو رقيب.

ولأن المؤلف أتقن القراءة في المصحف منذ صغره؛ حتى أن امرأة قالت لأمه: مصحفه أكبر منه، فقد رشح ليقرأ القرآن لإحدى زوجات الملك عبدالعزيز ومن معها من نساء، وكان الشريف مع صغر سنه وجسمه يغض البصر عنهن، وهنّ يعجبن بحسن تلاوته وبحيائه، ويظهر عليهن الخشوع والتأثر من التلاوة، ولأنه أدى هذا العمل في القصر فقد شاهد الملك عبدالعزيز مرة وهو في السيارة، ثمّ توالت مشاهداته الملكية منذ أن زارهم الملك سعود في بلدتهم عقب توليه مقاليد الحكم، وقال له الملك عبدالله: لم لا تسمن؟ فأجابه بالخوف من السكر، فأقره على ذلك -رحم الله الجميع-.

ويبدو أن قدر المؤلف في مكافحة الفساد قديم منذ يفاعته، ويتجاوز شؤون الإدارة والمال؛ فخلال دراسته المرحلة الابتدائية بالدمام، لاحظ هو ومجموعة من الطلبة سلوكيات مريبة من مدير مدرستهم العربي تجاه الطلاب الذين فيهم وسامة وصحة؛ فكتبوا شكوى وسلموها بأنفسهم لأمير الشرقية المهيب سعود بن جلوي، ومن الغد جاء فريق تحقيق واستقصاء مدني وعسكري، وبعدها غاب المدير للأبد، ويرى المؤلف أن التفاعل العاجل الحازم بعد التحقق خير مما تفعله اللجان طويلة الأمد بطيئة القرار. والشيء بالشيء يذكر إذ أورد المؤلف بعض الوقائع إبان عمله في ديوان المرقبة ووكالة وزارة المالية للحسابات ثمّ في نزاهة؛ وقاسمها المشترك مقاومة الفساد بأنواعه.

لذلك ففي الكتاب وقائع عن آراء للمؤلف وزملائه أدت إلى إصلاح وضع أو إيقاف هدر، مثل بعض مناقصات الإعاشة في المستشفيات، وأعمال تخص “سمارك” التي ألغيت قبل أن تعتمد بعض المشروعات بمبالغ طائلة وكان المؤلف قد أورد عليها عدة استفسارات قادت لتأخير البت حتى صدر قرار الإلغاء. ومنها تفاصيل التغذية المدرسية التي فشلت لأن الخبراء الأجانب عن مجتمعنا جمعوا عدة معطيات محلية، وفهموها بطريقتهم الخاطئة أو بغيرها، وكانت النتيجة وجبة مرفوضة من قبل الطلاب، وهكذا تكون آراء الأجانب الغرباء الأباعد غالبًا؛ فهم لا يحسنون الفهم، أو يسيئون التوجيه!

كما لا يخلو الكتاب من طرائف؛ فأول مغسلة ملابس شاهدها الشريف في الرياض غبط صاحب هذه الثياب الكثيرة المعلّقة ظنًا منه أنها لإنسان واحد! وعندما تذوق طعم الحلاوة الطحينية في الإفطار جزم بأنه من طعام أهل الجنة، وبعد مشاهدة جهاز المذياع توقع أن جميع المتحدثين عبر سماعاته جالسون داخل صندوق “الراديو” الخشبي، وتلك أفكار طفل صغير كان عالمه محدودًا ببلدة صغيرة. ومن القصص المضحكة الصريحة أنه عندما تخرج في الابتدائية وعمل في إدارة الجوازات بالدمام أتى زائر ورآه في مكتب المدير وهو صغير السن والحجم؛ فقال للمدير مازحًا: أنتم ترضعون طال عمرك!

ومنها أنه ظن بأن “المنتو واليغمش” أضياف قادمون لزملائهم من الحجاز؛ لكنه اكتشف أنهما من أصناف الطعام الحجازي المتنوع والمتأثر بالحجاج وما يجلبونه معهم، وفيها أنهم خرجوا من مدرستهم الابتدائية إلى مكتب البريد غرب الدمام ليبعثوا برقية تأييد لجمال عبدالناصر؛ وهذا التصرف مفهوم من موجة التأثر، وسطوة الإعلام، وفورة حماسة الفتيان، بيد أن بعض الناس يمكن أن يتخذ منه -ومن أمثاله مع اختلاف الأسماء والأزمان- مطية لصناعة تهمة معلبة مبهرة فاسدة مؤذية، وويحهم من الله القهار.

وقد أورد المؤلف في كتابه عدة نصائح إدارية، ومقتطفات أدبية، وأشار لكتبه المؤلفة في الإدارة والرقابة والنزاهة، أو عن الثقافة والشعر والأدب، وأورد بعض الآراء الصريحة في أمور تنفيذية ورسمية، ولكنه مع ذلك لم يخبر القارئ عن طريقة إبلاغه بالعضوية في مجلس الشورى، أو عن تعيينه رئيسًا لنزاهة وتقاعده الأخير منها، ومثل هذه المرويات ليست سرًا، وهي مما يضيف حيوية أكثر للسيرة، والعرف جرى بذكرها في الأعم من السير الذاتية والغيرية، على أنه يحسب للكتاب سلامته اللغوية، وذوقه العربي، وورقه المريح، وحجم خطه الكبير، وإحاطته بجوانب إدارية واجتماعية تمنح القارئ صورة عن تاريخنا الإداري والاجتماعي؛ فأدى بذلك ما عليه تجاه مجتمعه وأناسه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 10 من شهرِ صفر عام 1445

26 من شهر أغسطس عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)