الملك فيصل ومنقبة ذات دروس!
هذه القصة رواها العلامة المغربي د.محمد تقي الدين الهلالي (1311-1407) عن الطبيب الفرنسي “موريس بوكاي (1338-1418=1920-1998م)”، عندما التقاه في باريس وسأله عن سبب تأليفه كتابًا بعنوان: “التوراة والإنجيل والقرآن؛ في نظر العلم العصري“، فأجابه الطبيب الجراح الفرنسي بهذا الجواب الصريح، والعجيب. وهو جواب يحسن إيراده –بعد الاختصار– مع ارتفاع عداء بعض شعوب الدول الغربية الظاهر للقرآن والإسلام والرسول عليه الصلاة والسلام، وربما أن ما ظهر وإن قلّ تكراره يشير إلى كثير ما استتر وقد يجلّ!
أما جواب الطبيب فهو أنه كان من أشد أعداء القرآن الكريم والرسول محمد –صلى الله عليه وسلم–، وكلما جاء إلى عيادته مريض مسلم يقول له الطبيب بعد علاجه: ماذا تقول في القرآن، هل هو من عند الله تعالى، أنزله على محمد، أم هو من كلام محمد نسبه إلى الله…؟ فيجيب المريض المسلم: هو من الله، ومحمد صادق؛ فيقول له الطبيب: أنا أعتقد أنه ليس من الله وأن محمدًا ليس صادقًا، فيسكت المراجع ويذهب.
ثمّ يكمل الطبيب حكايته قائلًا: مضيت على ذلك زمانًا، حتى جاءني الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود (1324-1395)، ملك المملكة العربية السعودية، فعالجته علاجًا جراحيًا حتى شفي، وبعد ذلك ألقيت عليه السؤال المتقدم نصه، فأجابني فيصل جازمًا بأن القرآن حق، وأن محمدًا –صلى الله عليه وسلم– صادق؛ فقلت له: أنا لا أعتقد صدقه! فقال لي الملك فيصل: هل قرأت القرآن؟ فقلت: نعم قرأته مرارًا وتأملته، فقال لي الملك فيصل: هل قرأته بلغته أم بغير لغته؟ فقلت: أنا ما قرأته بلغته، بل قرأته بالترجمة فقط.
فقال لي الملك: أنت تقلّد المترجم، والمقلّد لا علم له، والمترجم ليس معصومًا من الخطأ والتحريف عمدًا، فعاهدني أن تتعلم اللغة العربية وتقرأ بها، وأنا أرجو أن يتبدل اعتقادك الخاطئ هذا! فتعجب الطبيب من الجواب الملكي، وأردف قائلًا له: سألت كثيرًا قبلك من المسلمين، فلم أجد الجواب إلّا عندك، ووضعت يدي في يده وعاهدته على ألّا أتكلم في القرآن، ولا في محمد إلّا إذا تعلمت اللغة العربية، وقرأت القرآن بلغته، وأمعنت النظر فيه، حتى تظهر لي النتيجة بالتصديق أو التكذيب.
يواصل الطبيب سرده ويقول: ذهبت من يومي ذلك إلى قسم اللغة العربية بالجامعة الكبرى بباريس، واتفقت مع أستاذ بالأجرة أن يأتيني كل يوم إلى بيتي ويعلمني اللغة العربية ساعة واحدة يوميًا حتى في يوم الأحد الذي هو يوم إجازة، واستمريت على ذلك سنتين كاملتين لم تفتني ساعة واحدة، فتلقيت منه سبعمئة وثلاثين درسًا، وبعدها قرأت القرآن الكريم بإمعان، ووجدته هو الكتاب الوحيد الذي يضطر المثقف بالعلوم العصرية أن يؤمن بأنه من الله، لا يزيد حرفًا ولا ينقص، أما التوراة والأناجيل الأربعة ففيها كذب كثير لا يستطيع عالم عصري أن يصدقه.
هذه هي الرواية مختصرة دون إخلال، والمراد منها أن نفهم هذه الدروس المركزية والمهمة جدًا التي منحها الملك فيصل للتاريخ وأهله، مثل:
- لم يفوت الملك فيصل على نفسه فرصة التعبد لله رب العالمين بالدفاع عن دينه وكتابه ونبيه، وهو في موضع حاجة للطبيب، ولم يدر في خلده أن هذه القصة ستبقى وتصبح منقبة من مناقبه، يرويها عالم مغربي عن طبيب فرنسي وتغدو منقبة من مناقب ملك سعودي كما كتب وأصاب د.الهلالي.
- فعل الملك ذلك ولم يحل المسألة لعالم أو غيره، ولم يتنازل عن أداء واجب البيان عندما حضر، ولربما لو فعل لقصر جوابهم عن جوابه الموفق.
- تجاوز الملك فيصل المألوف في النقاش، وتحاشى تحويله إلى جدل، وانصرف إلى تطبيق عملي حرّك فيه الرقي العقلي –المفترض– في أيّ عالم، واستثار في محاوره الطبيعة الغربية المحبة للبحث والاستقصاء.
- أعطى الملك فيصل درسًا عظيمًا للطبيب ولمن يقرأ، خلاصة هذا الدرس ألّا يحكم على شيء من مصدر واحد فقط قدر المستطاع، وألّا يعتمد على ناقل أو مترجم مهما علت مصداقيته؛ فالخطأ وارد مع سلامة النية؛ فكيف به مع عقلية التحيز ونفسية الاستعلاء؟!
- أضاف الملك فيصل للطبيب علمًا بالعربية والإسلام لم يكن في حسبانه البتة، بل وأضاف علمًا وتعريفًا بالقرآن الكريم لكل من قرأ كتاب الطبيب الفرنسي الذي ترجم إلى قريب من عشرين لغة.
- أنقذ الله الطبيب الفرنسي من ظلام الكفر وحراجته على يد الملك فيصل، والله يجعل ذلك وما تلاه في حسنات الفيصل.
- ما أجدرنا بنشر اللغة العربية وتيسير تعليمها عن قرب وعن بعد خاصة مع توافر مشروعات جادة في هذا الباب.
- ما أحرانا بأن نعتز بديننا وموروثنا ولا نخفض رأسًا من سوء فهم أو سوء تطبيق؛ فالحق أبلج ونور الله تام ولو كره من كره.
- نزاهة الطبيب الفرنسي الذي لم يبادر مراجعيه بالسؤال إلّا بعد العلاج حتى لا يجفلهم هذا إذا أحسنا بفعله الظن، وربما أراد الإحسان لهم أولًا ثم هز ثقتهم ثانيًا! وعلى كل حال فللطب ميثاق على أهله جعل الطبيب اليهودي يقول للإمام المازري بعد أن عالجه: لولا شرف الطب لأعدمت المسلمين رجلًا مثلك! وللقصة تكملة مهمة في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي إن لم أكن ناسيًا.
وقد دفعني لإعادة نشر هذه القصة والتعليق عليها، ما نجده هذه الأيام من شعوب دول أوروبية وإسكندنافية على وجه الخصوص من مواقف متشنجة ضد الإسلام والقرآن والرسول، مع أنها دول تحظى بتعليم راقٍ، ويفترض أن تكون قيم التعايش والسلام وغيرها من لطيف الألفاظ أعظم تأثيرًا فيهم، وأرسخ في تربيتهم، وأوضح في سلوكهم ومواقفهم، وهي فضلًا عن ذلك شعوب تنتمي لدول ثرية سعيدة، وكان الأحرى بمن شيمتهم الثراء والسعادة الابتعاد عن الأعمال الخشنة والقبيحة.
بقي أن أقول من باب الإنصاف إن علّة الحكم على الآخرين اتكاء على قول ناقل أو راوٍ أو مترجم أو معدِّ تقرير هو خطأ يشترك فيه البشر كما نلاحظه في فهم عامة الغربيين لنا، وأن النظر للآخرين بناء على حمولة فكرية وثقافية وتاريخية مثلما يفعله النصارى تجاهنا بتأثير الحملات الصليبية هو شأن شائع لدى الناس كافة وإن اختلف نوع الحمولة، وأن قياس الناس والحضارات للثابت المتبع في حضارة الإنسان صاحب المقياس هو طبع الأمم كلها، وقد زاد الغرب بلاء وجرأة علينا ما يرونه في المسلمين من مهانة وضعف وأعمال سيئة سواءً أفعلوها أم ألصقت بهم، والدرس الأول والأخير هو أن يحاول العاقل الكامل العادل تخليص نفسه وأحكامه وقراراته من آثار هذه الثغرات المردية، والعوامل المجحفة!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
السبت 18 من شهرِ المحرم عام 1445
05 من شهر أغسطس عام 2023م
4 Comments
السلام عليكم:
تقريبا في عام 77 أو 78 ميلادية… زار موريس بوكاي سيدي الوالد في منزله في الرياض… وحقيقة لا أعرف سبب الزياره أو كيف ترتبت… ولكن لعل سيدي الوالد إلتقى معه مصادفة في أحدى المناسبات ثم دعاه إلى منزله ولبي الدعوة…
حكى موريس بوكاي لسيدي الوالد عن قصة إسلامه بسبب آية (اليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية)… يقول كنت شديد الإهتمام بالحضارة الفرعونية قراءة ودراسة… وكانت لي علاقة معرفة بالسيدة جيهان السادات (زوجة الرئيس المصري أنور السادات) فأخذت منها إذنا خاصا بالحصول على عينة ميكروسكوبية من جسد فرعون وهو مومياء رميس الثاني في مصر. وتحت ترتيبات علمية غاية في التعقيد (لا أذكرها الآن ولكنه هو ذكرها) للحفاظ على العينة سافرت بالعينة إلى باريس (وكأنه قال بطائرة خاصة وفرتها له جيهان السادات) وأجرىت عليها إختبارات. فكانت دهشتي عندما أوضحت الإختبارات أن هذه العينة (وبالتالي جسد فرعون) لم يمكث تحت الماء لأكثر من 24 ساعه ثم لفظه البحر إلى البر. (كان يبكي)
{بمعنى أن قول الله سبحانه وتعالى (اليوم ننجيك) تعنى ذلك اليوم الذي غرق فيه ثم لفظه البحر. وبعد أن لفظه البحر يتحقق تتمة معنى الآية (اليوم ننجيك) بمعني اليوم وكل يوم… فهو مازال عبرة لمن يعتبر في متاحف مصر… (هذا الإستطراد مني أنا هاني طيبة)}
ثم بعد أن هدأ. قال إذا سلمنا جدلا بأن محمد (عليه الصلاة والسلام) أخذ القرآن من الكتب السماوية السابقة (التوراة والإنجيل) كما يتهمه البعض… فمن أين أتى بهذه التفاصيل المذهلة التي أثبتها العلم الحديث بعد نزول القرآن بأربعة عشر قرنا من الزمان؟!!!
جزاكم الله خيرا على هذه الإضافة، ورحم الله الوالد والطبيب والملك وكل مسلم ومسلمة.
رحم الله هذه الشخصية الرائعة الملك فيصل ..
هذه المقالة عجزت اتخطاها، صدقت أنه النظر للآخرين بناء على حمولة فكرية وثقافية وتاريخية هو شأن شائع لدى الناس كافة وإن اختلف نوع الحمولة، وصار لنا موقف مشابه كنا نشرف في مكان لدعوة الغير مسلمات للأسلام، وكان فيه سيدة كبيرة بالعمر احضرت عاملتها من الجنسية النيجرية، ف العاملة تقول للمترجمة أنا ابغى أخذ دروس بالكتابة العربية، ولا افكر أعتنق الإسلام حالياً عندي اهداف ثانية، ف المترجمة كانت شديدة الحكمة والخبرة وافقت رغم أنه ليس من عملها، وقالت مستعدة ادرسك اللغة العربية تطوعًا من عندي لكن عندي سؤال ليش مهتمة بتعلم اللغة ولست مهتمة بتعلم الإسلام!؟
قالت جواب صدمنا جميعًا صراحه، قالت أنا الآن ادرس دكتوراه في الإعلام السياسي وابغى اعرف اكثر عن العرب وثقافتهم ولظروفي المادية توقفت وأجلت، وقدمت هنا أعمل كخادمة حتى استطيع إكمال دراستي، كان موقف مُبهر وصادم بنفس الوقت، سألنا كفيلتها كيف وضعها بالمنزل، فأثنت عليها أنها سريعه ودقيقة وتنهي العمل المطلوب بجد واجتهاد ثم تذهب لتدرس بغرفتها، وتستغل كل ساعه فراغ اما بالقراءة او البحث بالنت، بعد مرور العديد من الحصص باللغة العربية ربما تجاوزت الأشهر أعلنت إسلامها!
رائع للغاية، وشكرا لكم ولمروركم الكريم.