مع أساتذة الجامعة… وهذا ما حدث!
أمضيت جزءًا من ليلة أنيسة مع رفقة الجامعة في منزل عزيز منهم هذه الليلة، فهجمت عليّ بعض الذكريات مع أساتذة الجامعة –رحم الله ميتهم ووفق الحيّ منهم–، وأنا في الطريق إلى اللقاء، فأردت تقييدها لما فيها من طرافة ولن تخلو من فائدة، وعلى أيّ حال فهي جزء من الماضي الذي يُستعذب حتى أن كل جيل يصف ماضيه بالجميل، وذكرياته بالعِذاب، وهكذا وإنما باعثها على التحقيق هو الحنين، والبعد عن الحاضر، وتناسي المستقبل.
علمًا أن أساتذة الجامعة فيما مضى كانوا يتعبون أنفسهم في التحضير –أو أغلبهم– مع بعد المراجع وعسر الوصول لبعضها، بينما يكتفي جزء منهم الآن بقراءة الكتاب المقرر على الطلاب، ويصنع ذلك ليس عجزًا أو ضعفًا، وإنما هروبًا من الوقوع في “فخ” ذكر كتاب أو مؤلف أو رأي، وفي الذكر المجرد قدر من الصداع يجبر على مجرد القراءة، ومن الطبيعي أن تصاب الحياة الجامعية بالضرر من هذه الطريقة، وتغيض الفائدة المرجوة في بناء طالب قادر على القراءة والحوار.
فمما هجم عليّ، أن أحد الأساتذة قال لنا مرة: حين رجعت من البعثة، سكنت في أحد بيوت إسكان الجامعة، ثمّ استيقظنا صباح يوم الخميس –وكان حينها إجازة– فوجدنا في حديقة المنزل حيوانًا زاحفًا مخيفًا لا نعرفه ولا عهد لنا بمثله، ولذلك اتصل الأستاذ المتحدث بجاره مستنجدًا، فجاء الجار من فوره ومعه ابنه الذي يناهز العشرين، وعندما شاهدوا الحيوان هجم عليه الفتى، وأمسكه، وشرع يقلّبه فرحًا به، ثمّ قالا لنا: هذا هو الضب ألا تعرفونه! واقترحا علينا المشاركة معهم في طلعة “يكبس” بها عليه وعلى إخوان له، ومن الطبيعي أن الأستاذ الراوي رفض هذا العرض؛ لأنه لا يعرف الضب فيما مضى، فكيف يطعم شيئًا يجهله؟
عندها استثمر الطلبة حديث الأستاذ، وبدأوا يحدثونه عن بعض الخصائص المجتمعية للبيئة الصحراوية، وقلب بعضهم الحديث إلى أهل هذه البيئة، ثمّ توسع آخرون بذكر بلدة يشتهر أهلها بإطلاق صواريخ من عيونهم، تفعل فعل السحر وأشدّ بناء على اختيار صاحب العين الحارة! وظلّوا يسردون القصص المخيفة عن سيارات تعطلت، وطائرات أوقفت، وأجهزة عطبت، وأفراح وئدت، والأستاذ في دهشة وذهول وخوف، ثمّ سألني بالله: هل معنا في الشعبة طالب من تلك البلدة؟! فقلت له: فيما أعلم لا يوجد أحد منهم! وحينها قال لي: إذا كان أحد منهم معنا فأخبرني، وسوف أعطيه أعلى درجة شريطة الحصول على “الأمان” من عينه المردية!
كما أذكر أن أحد زملائنا نال جائزة الجامعة الأولى في الخطابة؛ فصادفه أستاذان من قسم واحد في الممرات، كل واحد على حدة؛ أما أولهما فقال له: “خطابة فيه بس دراسة فِش!”، ولا أدري إن كان الأستاذ يعرف بأن زميلنا “الخطيب المفوه” –وهو مجتهد حاذق– قد أصبح اليوم أستاذًا جامعيًا أم لا؟ بينما قال له الثاني ممازحًا بعد السلام عليه وتهنئته: حدثت اليوم ضجة وصخب في كليات البنات بسبب نشر صورتك وخبر فوزك، فكل واحدة من الطالبات تريد الاقتران بك زوجًا! وأتمنى ألّا تقرأ زوج خطيبنا هذه الحكاية!
أيضًا أراد الزملاء إجراء لقاء معي في مجلة حائطية، وهو لقاء يجرى مع بعض الطلبة، وسألوني عدة أسئلة، والتزمت فيها بالجواب شعرًا من المنقول. وحين سألوا عن أحد الأساتذة أجبتهم بقول شاعر لا أعرف من يكون: “تكلَّم ليسَ يوجعُكَ الكلام! ولا يمحو محاسِنَكَ السَّلام“، علمًا أن أستاذنا هذا هو الذي قرّع الخطيب السابق، وهو أستاذ دائم العبوس شديد الجدية. وسُئلت عن أستاذ آخر فأجبت بقول بدوي الجبل الذي يردده القصيبي: ” أتسألين عن الخمسين ما فعلت! يفنى الشباب ولا تفنى سجاياه“، وقد طرب الأستاذ لهذا الجواب حينما نشر، وكان من عادته أن يسألنا في آخر الفصل عن آرائنا فيه دون ذكر الاسم، فكتبت له جملة قريبة من هذه:” إن أستاذي الذي يزحف عمره نحو الخمسين لديه ذاكرة لافتة في حفظ الأسماء، وهي قدرة يُغبط عليها ويخشى عليه من العين!”؛ فعرفني واستفهم مني عن فحوى الكلمة، علمًا أنه أستاذ رياضي وقريب من الطلاب آنذاك، مع أن مادته صعبة، وأسئلته أصعب.
ومن طريف ما أذكره أن أحد الأساتذة حدثنا عن الفساد في وزارة ما، ولم يترك مسؤولًا فيها لم يتهمه بالفساد مع شهرة بعضهم بالنزاهة! فقلت له عقب المحاضرة: هل كل الناس فسدة؟! فقال: نعم، وهمّ بالانصراف لكنه رجع وخاطبني قائلًا: حتى أنا –يعني نفسه– فاسد! ولأنه يخرج في المحاضرة عن المنهج كثيرًا، علّقت مرة على كلامه عن أدوية علاج الأرق بأن بعض الأذكار تعين على النوم، فقال علانية بكل شفافية: هذا صحيح عندما يقولها إنسان صالح وليس إنسانًا طالحًا مثلي –يقصد نفسه-!
وآخر قصة مع هذا الأستاذ أذكرها أنه وضع على باب مكتبه قائمة بدرجاتنا في امتحان من ثلاثين درجة، ومنح أحد الطلاب عشرين درجة من ثلاثين، وجميع الزملاء في الشعبة القليل عددها يعلمون أن ذلكم الطالب قد نام عن الامتحان ولم يحضره، وحينها أوقع في يد الأستاذ الذي وضع ملصقًا يطالب فيه الزميل بمراجعته على عجل، وامتحنه وحده، ونال أربعًا وعشرين درجة! والله أعلم إن كانت الورقة صححت أم لا، ومن حسنات أستاذنا هذا أنه كان يمنحنا الحرية في الحوار، ولا يحمل في نفسه علينا، ومما اشتهر به أنه يخرج عن المنهج كثيرًا، وربما أنه أخطأ في رصد درجات تلك المادة لكبر سنه وضعف بصره فوقع في مأزق، وظنّ به الناس أنه لا يصحح الأوراق، وإنما يضع الدرجة بناء على معدل الطلبة التراكمي، أو حسب مستوى ارتياحه للطالب من منظره! وهو مثال نادر لا يُقاس عليه.
كذلك مما أذكره أن زميلًا غاب عن الامتحان الأول، وأدى الامتحان الثاني، وجاء للأستاذ المهيب وقال له: نحن على وشك نهاية الفصل؛ فلعلك أن “تدبّل” لي الدرجة يعني تضاعفها بدلًا من ضياعها أو إعادة الامتحان، فأجابه الأستاذ: وهل أنا “بنشري” حتى أرقع! وأصيب زميل آخر بحادث دخل على إثره المستشفى، وحين همّ بالخروج شكر طبيبه وقال له: أريد عذرًا طبيًا كي أعطيه للأستاذ الفلاني، ولم يكتف الزميل بذلك إذ كال للأستاذ من الشتائم المقذعة ما لا يليق! فقال له الطبيب: اطلب التقرير من القسم المختص، علمًا أن أستاذك هذا هو والدي!
وسافرنا في رحلة مع طلبة الكلية إلى ينبع، فشارك معنا أحد الأساتذة، واستأذن –من أدبه– في أن يلتقي بأخيه الذي يعمل هناك، وفعلًا جاء الأخ المهذب الوقور، وأمضى أيام الرحلة معنا، وفي أحدها كان الطلبة على أهبة الاستعداد لأكل وجبة صيادية لذيذة على الغداء، وفجأة قام ابن شقيق الأستاذ، وعمر الطفل آنذاك لا يتجاوز العاشرة، وخاطب أباه مشيرًا إلى الطلبة المتحلقين حول الصحون الكبيرة قائلًا ببراءة: ” يا أبويا شوف البدو كيف ياكلوا بيدهم“! فتحولت المائدة إلى مسرح ضاحك، وأصيب أستاذنا وأخوه بالحرج، لكننا أمريناها كما جاءت، ولم نقف عندها، مما خفف الأمر عليهم.
ألا ما أجمل أيام الجامعة! وما أحسن أحاديثها وشؤونها وشجونها، وما أعلى شأن الرفقة التي تتواصل بخير ولا تنقطع، وعلى المكارم الجمة والموائد العامرة تجتمع، فتحصل لها اللمة بعد تفرق، ويكون بينهم من أنيق الحديث وطرائف الحكمة ما ينعش الذهن والبدن، ويغمر النفس إلى أقاصيها، بل لعمركم إن في بعض اللقاءات من الطعم والأثر ما يشبه لذاذة أعمال التدليك و “المساج“؛ حتى لكأن هذا العمل الممتع قد تجاوز الأطراف المنهكة إلى القلب المعنى!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الثلاثاء 23 من شهرِ ذي الحجة عام 1444
11 من شهر يوليو عام 2023م
One Comment
الله الله …
تكلَّم ليسَ يوجعُكَ الكلام!
ولا يمحو محاسِنَكَ السَّلام”،
بالرغم أني والكتابة هذه الأيام نعيش في حالة جامحة بطريقة ناعمه و الأجواء ملتهبة عتابًا بسبب أحدهم، و ربما تهدج الغضب في لوعة الروح لشدة انفعالي و نفوري لمن يتمرد على طقوس المودة والمحبة ويتجاهل ابسط أبجديات الانتماء لها ولا يقيم لرد زاجل التقدير ورسائل المحبة قيمةً ،
قبل هذه المقالة ثمة ترسبات تعذر علي إزالتها لأنه لم تعد لي طاقة على الشد والجذب والمداورة على كف يجوز معها الرجحان وعدمه، لكن هذه المقالة ملئِه برائحة الحنين،ثاوية في العمق من ذكريات تبعث السرور، لله در هذا البيت ما أعذبه وأصدقه كيف أنزل البدر منزلته رغم مراحل التحول في عمره و قال:” أتسألين عن الخمسين ما فعلت! يفنى الشباب ولا تفنى سجاياه”،
و ما جعلني في نوبة ضحك لا تهداء وسبب للرضا والكتابة موقف “استاذ الفساد ” يا الله ارزقنا بمن يمتلكون كل تلك الشفافية تجليةً وإظهاراً، قربًا ووصلا😂..نريد واحدًا مثله..
مقالة فيها خفة آسرة في تذكرك المواقف، وانسيابية لا تعلق السرد ولا تعتقله، وأخذتنا كاتبنا الأنيق لمحطات الحكاية و كأننا بينهم، حروفك حاصل تجربة مشرقة، وخراج عمر، و رغم غياب الصورة خلف الزمن الماضي إلا أن بصمة الوفاء باقية، الساعات تسرقنا، والأيام تعصف بكيان هشّ وأعمارنا تطوى وتغّيب مصائرنا، لذلك راقت لي سطورك جدًا التي ختمت فيها هذه المقالة” بعض اللقاءات من الطعم والأثر ما يشبه لذاذة أعمال التدليك و “المساج”؛ حتى لكأن هذا العمل الممتع قد تجاوز الأطراف المنهكة إلى القلب المعنى!” وهي أشد لذاذة من ذلك!
اللهم عجّل لنا بلقاء من نحب، في ليلة غير خاضعة لتصاريف الزمن ومواقيته، ولا لتحول المكان وتبدل منازله!