متلازمة كشاجم!
المواهب فضل من الله وهبة يمتن بها على من يشاء من عباده، وقد تتكاثر في إنسان وتقل عند آخر، وربما استعملها الأول في الخير، والثاني في الشر. وأحياناً يعلم الإنسان بموهبته، وربما يحتاج تنبيهاً عليها من غيره؛ لكنَّ الشيء المشترك في النَّاس غالباً هو ظنهم الحسن المفرط في أنفسهم ومواهبهم الحقيقية أو المتوهمة، حتى أدخل البعض نفسه في متاهة قادته للهاوية؛ كما حدث مع الدكتور لويس عوض حين كشف أبو فهر محمود محمد شاكر اخطاءه في الأدب واللغة، ومثل ما فعلت لجنة أكاديمية رفضت أبحاث ترقية لأستاذ عظيم الدعوى عندما ظهر جهله التاريخي المفزع.
وكشاجم هو أبو الفتح بن محمود بن شاهيك، من شعراء القرن الرابع المعدودين في شعراء بلاط سيف الدولة؛ و “كشاجم” لقب له منحوت من أوائل حروف مواهبه؛ لأنه كان كاتباً شاعراً أديباً جميلاً مغنياً؛ وقد أضاف لها في آخر عمره حرف الطاء تعبيراً عن طبخه أوطبه – على خلاف في الرواية – لكنَّها لم تشتهر عنه، وأسلوب النحت مشهور قديم من مزايا العربية كما في “حنفش” الذي كان حنبلياً فحنفياً ثم شافعياً؛ وكما في الدَّمعزة والطلبقة[1] وغيرهما.
تبرز متلازمة كشاجم وعقدته بوضوح عند قسم من الساسة والكتّاب، وبعض أصحاب الشهادات العليا، وضيوف الشاشات؛ ومن فتنتهم الشهرة، فيهرفون بما لا يعرفون هروباً من فضيلة “لا أعلم”! وهي منتشرة عند بعض الشعوب الذين يتكلمون في الدين، والسياسة، والطب، دون علم أو تخصص، وإنها لشؤون معقدة تحتاج إلى علم مع خبرة ومتابعة.
طبعاً لا يعني هذا غياب الموسوعات من عالمنا وتكريس التخصص؛ فهنا وهناك أسماء لامعة بارزة، نهلت من العلوم والفنون والمعارف والآداب؛ ما جعلها قبلة محبي العلم، ومحطَّ الأنظار والآمال، ولازالت الأمة ولوداً منجبة بفضل الله ومنته؛ ولكنَّ المأساة في تكلم الجهلة، وتصدر الرويبضة، حتى يصدق عليهم قول ابن دقيق العيد رحمه الله:
يقولون هذا عندنا غير جائزٍ! فمن أنتموا؟ حتى يكون لكم عند!
وغدى بعضهم كما قال الناظم:
صار ينهى عن المعالي سفيه لا يساوي ثيابه وهو فيها!
فمن المضحكات؛ اتهام الإمام الشافعي من قبل كشاجمي مزيف معاصر، بأنه عميل للدولة الأموية؛ علماً أنَّ الشافعي ولد بعد نهاية الدولة الأموية بثمانية عشرعاماً! وكشاجمية أخرى تعزو التخلف في بلاد المسلمين لحجاب النساء، مع أنَّ الحجاب في بلادها منزوع مذ مئة عام دون تقدم ملحوظ، بل حالهم فقر وتقهقر وقهر؛ وعلى ذين المثالين قس؛ وعلى كل كشاجمي مزيف يصدق قول أهل الصين: “لا تقس عمق الماء بقزم”!
وتعود عقدة الكشاجمية عند كثير من أصحابها، إلى مركب النقص الداخلي؛ فيسعى صاحبه إلى تغطية نقصه بالبهرج الزائف الذي لا يروج على عقول الأغيلمة بله الرجال؛ وربما تعود هذه العقدة إلى مكانة صاحبها الاجتماعية، أو مقدرته المالية، أو مركزه الوظيفي؛ فتعطيه دنياه المقبلة حسنات غيره، وتستر عيوبه، فتراه الشاعر الكاتب الفارس المفكر الفنان … إلى ما يريد هو من ألقاب تُساق إليه كرهاً، وتنضاف إلى اسمه بلا حق يشهد به أهل الشأن والمعرفة.
اللهم اهد ضال المسلمين؛ واحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من خطر أعداء الخارج، ومن كيد خفافيش الداخل، الذين “تكشجموا” بهتاناً وزوراً؛ والله غالب على أمره؛ ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون.
أحمد بن عبدالمحسن العساف
الرياض؛ أمنها الله.
الجمعة 12 من شهر ربيع الآخر 1426
ahmadalassaf@gmail.com
[1] الدمعزة من قولهم: أدام الله عزك، والطلبقة من قولهم أطال الله بقاءك.