سياسة واقتصاد سير وأعلام مواسم ومجتمع

بنكنا المركزي ومؤسستنا العريقة

بنكنا المركزي ومؤسستنا العريقة

عندما صدر مؤخرًا المرسوم الملكي بتغيير مسمى مؤسسة النقد العربي السعودي إلى البنك المركزي السعودي، نصّ منطوق المرسوم الكريم على احتفاظ البنك المركزي السعودي باختصار(SAMA)؛ لأنه عرف به، وهذا الملمح الدقيق رفيع وراق للغاية، إذ أن فيه تعبيرًا عن الاعتزاز بعراقة البلاد العالية مكانًا، الثابتة أصولًا، البعيدة جذورًا، تلك العراقة التي تزدان بالدين واللغة، وتشمل التاريخ والجغرافيا، وتضم الأعراف والعوائد.

ومن العراقة الأصيلة لدينا تلك المساعي المبكرة للتطوير الحكومي الإداري والمالي والتقني والبشري؛ فمؤسستنا أو بنكنا من أوائل مثيلاتها من المؤسسات العالمية نشوءًا، وهي متقدمة جدًا عربيًا وإسلاميًا، والمحافظة على تاريخها حنكة غير مستغربة؛ فما أقوى المجتمع العريق عندما يستمسك بعراقته، فتكون له دافعًا لا عائقًا ولا مانعًا، ومرجعًا ليس فيه للانكسار موضعًا، وعليه يكون دومًا في تقدم واثق، فعنقه مشرئب للمعالي، وعيونه ترمق المستقبل، وسواعده تمسك بالحاضر، وتلك منظومة رشد وخير على مثلها الرب الكريم يُشكر ويُحمد ويُثنى عليه سبحانه.

وإذا أردنا التوسع فسوف نرى أن الأنظمة المالية السعودية بدأت تتكون منذ دخول الملك عبدالعزيز إلى الحجاز سنة (1344)، ومن هاتيك السنة التي مضى عليها قرن من الزمان صدرت عدة أوامر بخصوص العملة المستخدمة من ذهب وفضة ثمّ إيصالات ورقية تيسيرًا للحجاج؛ فالعلاقة بين الحج والعمرة والمنافع الاقتصادية والثقافية وثيقة الصلة منذ قديم الزمان، وما خبر أسواق العرب عنا ببعيد، وهي أسواق مرتبطة زمانًا ومكانًا بمكة. وعقب ذلك صدرت تباعًا الأنظمة المالية التي كانت عرضة للتطوير المتدرج تماشيًا مع المستجدات.

ثّم أصدر الملك المؤسس أمره بإنشاء مؤسسة النقد العربي السعودي عام (1371=1952م)، وأصبح الأستاذ رامز الخالدي أول نائب لمحافظها، وبعد ذلك بشهور يسيرة عيّن الاقتصادي الأمريكي “جورج بلوارز” أول محافظ للمؤسسة، وتوالت صدور الأنظمة المالية والنقدية التي تحكم عمل المؤسسة وتضبطه، وافتتحت فروعًا لها في مكة والمدينة والدمام والطائف بعد مركزها الرئيسي في جدة، وبعد هذه الأماكن الخمسة افتتح مقرها في الرياض العاصمة، وانتقلت إليه لاحقًا عام (1398=1978م)، علمًا أن انتقال الوزارات ثمّ السفارات من جدة إلى الرياض عملية تحمل في طياتها أبعادًا إدارية وثقافية، وربما أنها صادفت بعض الممانعات التي لم تشتهر أخبارها؛ لأن أطراف الممانعة ودوافعها ليست مما يروق للصحافة إثارته، ولا للإعلام لوكه بين آونة وأخرى.

ونلاحظ في تاريخ المؤسسة -أو البنك حاليًا- أنه قد تعاقب على منصب المحافظ خلال أزيد من سبعين عامًا أي منذ التأسيس حتى الآن عشرة محافظين، وهو رقم يدل على الاستقرار والحمدلله. كما أصبح للبنك -أو المؤسسة- ثلاثة عشر نائبًا. ومن أول رؤساء المؤسسة أمريكيان (1371-1377=1952-1958م)، ثمّ باكستاني نال الجنسية السعودية فيما بعد، ويُعدّ الأستاذ عبدالعزيز القريشي أول محافظ سعودي لها، وارتقى أربعة من نواب المحافظ إلى منصب المحافظ وهم مع حفظ الألقاب على التوالي: رالف ستاندش، وحمد السياري، ومحمد الجاسر، وأيمن السياري المحافظ الحالي.

كذلك مما يتعلق بالرؤساء، أن الأستاذ القريشي أصبح محافظًا بعد أن كان وزير دولة وعضوًا في مجلس الوزراء، وأن الدكتور فهد المبارك أصبح وزير دولة وعضوًا في مجلس الوزراء، وقبل ذلك وبعده سمي محافظًا للمؤسسة، وهي سابقة له، ونادرة الحدوث في وظائف الحكومة العليا. ومن المحافظين الذين أصبحوا وزراء د.محمد الجاسر الذي حمل حقيبة وزارة الاقتصاد والتخطيط سنوات عددًا.

ولم يقتصر الأمر على المحافظين؛ إذ أصبح عدد من النواب وزراء في الحكومة، منهم الأستاذ عابد شيخ الذي تولى حقيبة وزارة التجارة، وتوفي وهو على رأس العمل، ومنهم كذلك د.إبراهيم العساف الذي انتقل من نائب المحافظ إلى وزير دولة فوزيرًا للمالية والاقتصاد الوطني، وهو من الوزراء المخضرمين حاليًا. وينضم إلى هذه القائمة الأستاذ خالد القصيبي الذي كان نائبًا للمحافظ، ثمّ أحيل للتقاعد، وبعد سنوات أسندت إليه وزارة البرق والبريد والهاتف- الاتصالات وتقنية المعلومات حاليًا- ثمّ وزارة الاقتصاد والتخطيط، وقد انتقل بصمت إعلامي إلى البرزخ في شهر رمضان الفائت. وهذه الإشارات تدلنا على أهمية المؤسسة، ومناصبها، والعاملين فيها، وعلى الثقل الاقتصادي الحاضر في الحكومة.

ومن سير النواب البارزة نجد في سيرة الأستاذ معتوق حسنين أنه أول من حمل شحنة من الزيت المكتشف في حقول النفط في “تنكة” ووضعها أمام الملك عبدالعزيز الذي تفحص الزيت بنفسه شاكرًا حامدًا، ومن شجاعة الرجل المتخرج في مدرسة الفلاح بجدة عام (1351) أن ارتجل كلمة موجزة بين يدي الملك المهيب، استهلها بقول شاعر النيل حافظ إبراهيم: ونحن نمشي على أرض من الذهب **** أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا؟! فما كان من الملك الحكيم إلّا أن قال مجيبًا له: كلا! لن نشتكي الفقر في المملكة بعد الآن!

أيضًا فلا أعرف -حسب علمي- أن أحدًا من كبار موظفي المؤسسة والبنك قد أصدر سيرته الذاتية سوى الدكتور أحمد المالك، ومن جميل ما قرأته في كتاب “عفت الثنيان ملكة عربية” تأليف: جوزيف أ.كشيشيان، ترجمة: جوزيت ريشا، أن الملك فيصل استعان بعالم الاقتصاد الباكستاني أنور علي لقيادة مؤسسة النقد في أزمة مالية بناء على مقترح من صندوق النقد الدولي، فجاء أنور مستشارًا مؤقتًا؛ لكن الملك حرص على إطالة أمد بقائه، وظلّ رئيسًا للمؤسسة بين عامي (1377-1394=1958-1974م)، إلى أن توفي وهو في مهمة عمل بأمريكا، وأهم معلومة ذكرها الكتاب آنف الذكر أن الملك فيصل جلس مع أنور علي في لقاءات مكثفة لمدة أسبوعين كي يفهم منه بعمق شؤون الاقتصاد والنقد وإدارة المال وحركته الدولية.

أما إنجازات مؤسسة النقد -بنكنا المركزي- فوافرة متوالية، ومنها أن خرج من تحت عباءتها المباركة إصدارات مالية ورقية منذ عام (1381=1961م) وبلغ عددها ست إصدارات حتى الآن، وظهرت الصور ابتداء من ثالثها الصادر عام (1396=1976م)، وهي عملة ورقية آمنة عصية على التزوير، ومن أكثر العملات العالمية في تكلفة الإصدار؛ ولاريب فالعزيز عزيز غال دومًا، كما أصدرت المؤسسة مسكوكات معدنية منذ عام (1392=1972م).

ومن سجل الإنجازات الرائعة شبكة مدفوعات إلكترونية، وأنظمة سداد، وتحويلات مالية فورية سريعة، وشركات تقنية مالية، ونظام التأجير التمويلي، وسوق الأسهم “البورصة” الذي استقل فيما بعد بهيئة للسوق المالية من أقوى الأسواق وأنشطها وأكثرها جذبًا، ومنها شركات التأمين المختلفة التي ربما تستقل هي الأخرى بجهاز لضخامة سوقها، والزيادة الكبيرة المتوقعة فيه وفيها، ولذلك تضاف لقائمة حسنات المؤسسة والبنك الطويلة.

فمن حسنات المؤسسة -مثلًا- إلزام هذه الكيانات بتسهيل عمل المواطنين، والتجاوب العاجل مع الشكاوى، ومن وقفاتها التي تذكر إلزام شركات التأمين بتسهيل التعويض المالي للمتضرر كما سهلت إجراء التعاقد ابتداءً، ففيما مضى يمكن للمرء أن يؤمن على سيارته وهو في عرض البحر، ولكنه لا يستطيع المطالبة بحقوقه إلّا بالحضور لمقر بعيد لا يفتح النفس مثل مقرات التأمين، وهو الوضع الذي تغير الآن؛ فنستطيع صنع الأمرين ولو كنا في بطون الأودية بالصحاري، أو فوق شعف الجبال، أو بين أمواج البحر، والحمدلله. ومن إبداعاتها إطلاق تطبيقات مفيدة للأجهزة الذكية، وبعضها موجه للأطفال والناشئة من أجل تحقيق أهداف التربية المالية والاقتصادية.

ومن حسناتها ضبط عمل المصارف والبنوك، ومتابعته، وفتح الأبواب والنوافذ للمصرفية الشرعية التي ينقذنا الله بها من الربا أو أكثره، وللبنك آثار مشكورة في هذا الباب الحميد كما نقرأ في تجربة بنك الجزيرة. ومن التعاطي الحكيم للمؤسسة التفاعل مع بعض الإشكالات القائمة عبر تكوين لجنة تسوية المنازعات المصرفية، وهي من أقوى لجان قضاء الظل وأكثرها استقلالية. ونأمل أن يكون للبنك المركزي يد أقوى وأبطش من يدها القوية الحالية؛ لأجل قطع الأيادي الآثمة الممتدة لأموال الناس بغير وجه حقٍّ عبر اختراق البطاقات والمصارف، وأن تلزم البنوك بالتحري واسترداد المبالغ المختلسة؛ لإطفاء جمرة الحسرة في النفوس؛ فالمال قرين الحياة! ومن الإنجازات إنشاء المعهد المصرفي الذي يفاخر المصرفيون بالدراسة فيه، وإصدار التقارير الدورية منذ عام (1381=1961م)، وإطلاق برنامج التعليم المهني، ومعمل المصرفية المفتوحة، ولدي يقين لا يخالطه شكّ بأن الفرصة مواتية للبنك كي يسبق إلى منتجات وأفكار نحن وحضارتنا وبلادنا بها أولى وأحقّ.

وللبنك موقع إلكتروني متجاوب ونافع، ويمكن لمن شاء الاستزادة أن يعود إليه كي يعرف الأهداف والمهام، ويقرأ عن التاريخ والمنجزات، ويتابع التطورات والأخبار، وهذا مما يؤكد على حيوية البنك ونشاطه، وهو من الواجبات المتحتمة على جميع الوزارات والهيئات والمؤسسات؛ خاصة التي تتعلّق بها مصالح الناس الضرورية واليومية، وبنكنا منها بمكان بما له من أهمية وخطورة منح لأجلها شخصية معنوية اعتبارية مستقلة ترتبط برأس الدولة مباشرة تقريرًا لهذه الاستقلالية، وتأكيدًا لها.

كما نجد من اللمحات ذات الدلالة في مسيرة المؤسسة والبنك صراحة الاستعانة بخبرات عربية وأجنبية في الإدارة والاستشارة، وبعد مدة حمل العمل في المؤسسة بكفاءة أبناء البلد، وصارت العلاقة ظاهرة بين المؤسسة ومجلس الوزراء الموقر، مما يشير إلى المكانة التي تبوأها البنك ومحافظوه ونواب المحافظين وغيرهم من موظفي البنك. ومن لفتات تلك المسيرة أن المؤسسة ابتدأت بعيدًا عن الرياض ثمّ استقرت فيها؛ فلكأن العاصمة الكبرى تمشي بسير مدلل رويدًا حتى تجيء في الأول! ومن اللطائف أن هذا الجهاز الكبير باق على رونقه وقيمته سواء جرى اسمه على التأنيث المجازي القديم، أو آل إلى التذكير المجازي الحديث!

هذا وإنه لمن كفاءة المؤسسة، وعراقة البنك، أن حازت مراتب عالمية متقدمة جدًا في التنظيم والتدقيق والمراقبة المالية، وسبقت بعض الدول الكبرى في الخدمات المالية التقنية، ولأجل ذلك ارتبطت بعلاقات متينة، وصلات وروابط راسخة مع مؤسسات مالية دولية، وإقليمية، ومحلية، وتسابقت هذه المؤسسات لاستضافتها فيما تعقده من مؤتمرات، أو لحضور مناسبات مؤسستنا الحكومية العريقة وبنكنا المركزي الرائد حقًا، وفي كلا الحالين تبرز من منظومة هذا الكيان أسماء جمعت العلم والعمل، والخبرة والمهارة، والإقناع بالحديث أو الكتابة الذي يؤيده المنطق ويشهد له الواقع، والله الذي لا إله إلّا هو وحده يسدّد ويوفق ويبارك.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 14 من شهرِ شوال عام 1444

04 من شهر مايو عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)