الشيخ ابن حميد وأقضيته الجامعة
بين يدي كتاب من أثمن الكتب، ومؤلف من أنفس المؤلفات، عنوانه: سيرة الشيخ العلامة عبدالله بن محمد بن حميد وأقضيته في المجمعة وسائر إقليم سدير (تنازع الأحكام ونوازع التاريخ)، تأليف د.عثمان بن عبدالعزيز العسكر، تقديم صاحب المعالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، وقد صدرت طبعته الأولى عام (1444) عن دار ابن الجوزي، ويقع في (360) صفحة مكونة من تقديم ومقدمة فتمهيد، ثمّ أربعة فصول فملحقان للصور والوثائق وأخيرًا الفهرس. ومن الموافقات اللطيفة أن عدد صفحات الكتاب يماثل رقم درجات الدائرة؛ فهذا الكتاب من أين أتيته فسوف تقتبس منه الجذوة والفكرة والمعلومات، وعلى أيّ صفحة فتحت فستخرج منه بعلم متين، وعِلق بمثله يفاخر، ولست بمبالغ، ومن نظر بلا تحيّز عرف مصداق الرأي.
يستعرض الفصل الأول من الكتاب ترجمة الشيخ العلامة عبدالله بن محمد بن حميد، بينما تتبع ثاني الفصول أعمال الشيخ ابن حميد في سدير، ووقف الفصل الثالث مع دفتر الضبط، وأطلعنا الفصل الرابع والأخير على الوثائق وعددها اثنا عشر وثيقة. وبعد ذلك أضاف المؤلف ملحقين للصور والوثائق؛ فثبت للمصادر والمراجع ثمّ الفهرس. وقد رجع المؤلف إلى مئتين وثلاث وعشرين مرجعًا ما بين مخطوط ومطبوع، ومجلة أو صحيفة، ومشجر أسري، واستمع إلى خمسين مصدرًا ممن عاصروا الشيخ القاضي، أو رووا عمّن عاصره، وهم من المشايخ والمثقفين والأعيان والوجهاء، وكلهم موضع ثقة، وأصحاب مروءة، ومنهم والد المصنف الشيخ عبدالعزيز بن مقحم بن ناصر العسكر.
ويمتاز هذا الكتاب بأنه عرض لسيرة الشيخ العلامة القاضي عبدالله بن محمد بن حميد (1329-1402) عندما سمي قاضيًا على المجمعة وسدير خلفًا لقاضيها وشيخها الفقيه الكبير الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري (1290-1373)، وهو جزء من سيرة الشيخ العلمية والعملية لم يُسبق بهذا التوسع فيما مضى. وقد أظهر كتابنا طرق الضبط والنظر والعرض والتكييف والتسبيب والحكم ثمّ الحفظ مما يحسن الاقتداء به في المنظومة العدلية، كما عرّف بمواضع، وكلمات، وترجم لأعلام كاد بعضهم أن يُنسى، وأشار لمقترحات بحثية تنتظر من يهتبلها فيغنم ويُحمد، وبشّر بمؤلفات جديدة له أو لغيره، ونبه لأوهام مؤلفين في كتب ضخمة عن العلماء والطبقات وجلّ من لا يسهو، وأعاد الفضل لأهله، وتجاوز عن معلومات لا أثر لها على مادة الكتاب؛ وهو فنٌّ قاد إليه سمو النفس وجميل الأدب وكامل العقل، إلى غير ذلك من فوائد تزاحمت بين المتن والحاشية، تمنع البصر من الزيغ العاجل عنها، وتحزن النفس إذا فارقتها مضطرة؛ فيكون العزاء عنها فيما يأتي بعدها.
كما أن الكتاب يصف الوفاء لعالم رمز، ولملوك وأمراء عظام، ولأجيال من طلبة العلم، وكتّاب الوثائق والأحكام، ولجمع من أهل المنطقة وخيارها، وفيه وفاء غير مستغرب من المؤلف الشيخ د.عثمان العسكر لبلدته المجمعة وعامة إقليم سدير التي دأب على التأليف عن تاريخها ومغانيها، وعن أعلامها، وهو باب من المعرفة يكسوه الأدب واللغة الراقية بما يحوي من علوم التاريخ والبلدان والرجال، ويزينه أنه انتخب مفردات لم تفتّق من قبله، ولو نهض بهذه المسؤولية كل قادر عن بلدته وأناسه لما شحت المصادر، أو تشتت المرويات، وتاهت بها السبل، والله يوفق ويلهم.
ومما في الكتاب من مزايا تلك الكلمة المنيفة التي كتبها معالي الشيخ أ.د.صالح بن عبدالله بن حميد، وفيها إطلالة على علم التراجم عند أمتنا، وتعريف بطريقة سماحة والده في الفقه والفتوى والقضاء والسياسة الشرعية. وإن جميع ما كتبه الشيخ في هذا الباب تقدمة للأعمال التي درست السيرة العلمية والعملية للشيخ ابن حميد الأب، ومسيرته في التأصيل والتحصيل والتطبيق والتواصل والتكامل؛ لجديرة بأن تجمع في مكان واحد، وتغدو مادة للدرس والفهم والاقتداء؛ فهي ليست حديثًا مرسلًا تسوقه العاطفة المجردة لابن عن والده، وإنما هي بيان عالم خطيب فقيه، عن عالم فقيه قاضٍ فذٍّ ذي فرادة وخصائص، ولا زالت الأسماع تشتاق لأخباره العالية وقعًا وقدرًا وأثرًا، وتتابع أقضيته الجامعة المنيرة للفقيه والمفتي والقاضي ومن يرتبط به من أطراف عدلية في النيابة والمحاماة وأمثالهما.
أما فوائد الكتاب فتجّل حقيقة عن الحصر، وعسى أن يتاح لي الانتخاب مما انتقيته وهو كثير كثير؛ وإنه لكتاب يصدق فيه أن يقال: في كل صفحة منه فائدة أو أكثر، وهي فوائد متنوعة نافعة وماتعة، تضيف لصاحبها العلم، وتطرب السامع، ويحلو بمثلها المجالس، وتؤكد على أن الحجة قائمة في الأرض على الناس أجمعين. من تلك الفوائد البهية مثلًا أن الملك خالد حينما زار الشيخ ابن حميد في مرض وفاته دعى له بطول البقاء متأثرًا؛ فأجابه الشيخ بمثل دعائه؛ لكن الملك قال له: بل يبقيك الله أنت وابن باز؛ فأنا لدي أخي فهد يسدّ مكاني، وأما أنتما فمن يسد مكانكما؟! وهي كلمة عن الشيخين كنّا نسمعها من كبارنا، ورددها والدي على مسامعي كثيرًا؛ ولازلت أذكر الحزن الشديد الذي دهم الوالد حينما بلغه خبر وفاة الشيخ ابن حميد، وهو حزن نادر في حياة أبي بما له من شخصية صابرة صلبة.
ومن بديع ما في الكتاب تلك الالتقاطة الموفقة لعشر مشتركات من المشاكلة والشبه بين الشيخين ابن حميد وابن باز من حيث النشأة والتكوين، والدراسة على يد الشيخ محمد بن إبراهيم، والنجابة البادية لهما بين يدي شيخهما حتى مع معاصرة أشياخهما وطبقتهما، وظهور الزعامة والتأثير فيهما، وأيلولة الفتوى والشأن الشرعي إليهما، وأنهما ولدا في الرياض، وارتحلا إلى الدار الآخرة في الطائف، وصلي عليهما في الحرم المكي، ودفنا في مقبرة العدل، وفي محياهما انعقدت بينهما صداقة وثيقة وصلة عميقة؛ حتى ارتبطا بلقاء أسبوعي منفردين وحدهما، وحين مضى ابن حميد لمولاه قال ابن باز: لقد تركني وحيدًا! والله يرحم سماحة الشيخين وجميع الأعلام الواردين في كتابنا من الأموات والأحياء.
إن هذا الكتاب ألّف للفقيه والمفتي والقاضي، وهو كذلك للسياسي والحاكم ورجل الدولة، وسيفرح به الحفي بالتراجم والتاريخ والبلدان والأدب واللغة، ولا يخلو من لمحات تربوية، ولمعات مع ملح أخرى في الصحبة والصداقة والتلطف، وأما الذكاء والبراعة فيحيطان به إحاطة سوار براق بمعصم جميل، وفي أحشائه عدة مشروعات تأليفية تنتظر مهرة القناصين للمبادرة إليها؛ وهو دينٌ عسى أن يقضى، وإننا لأمة وفاء ونجابة، وكم ترك الأوائل الكرام لمن بعدهم من حملة العلم وعدول العصور والأزمان.
وفيه أيضًا منهج في التأليف والتتبع والاستقراء، ولو كان العلامة أبو فهر محمود محمد شاكر حيًا لكرر الكلمة الفخمة التي قالها مثنيًا على جهد الأستاذ العريان في حفظ سيرة الأديب الرافعي، بيد أنه سيصرف القول الرشيد عن قصره على الأصحاب والمعايشين إلى على كل عاقل نبيل، صاحب قلم وعلم وهمة، مثل الشيخ الدكتور عثمان العسكر، حينما انبرى للرواية والدراية بناء على أخبار ثلاثين شهرًا حافلة من حياة الشيخ الفقيه المفتي القاضي الذي طبعت سيرته على العذوبة والعراقة، فلا تكاد أن تُمل ترجمته، أو تُهجر ذكراه؛ فما أطيبها وأسناها وأشدّ الحاجة إليها، وإن تقادم بها الزمان؛ وذلك مصداق وحدة الأمة في منهجها ومسيرها، ودليل – إن شاء الله- على القبول وخلود لسان صدق في الآخرين.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 06 من شهرِ شوال عام 1444
26 من شهر إبريل عام 2023م
One Comment
لله درك على جمال النافذة التي فتحتها على هذا الكتاب والحكاية المشوقة للشيخ وأقضيته المدونة رحمة الله
وبهذه المناسبة أهنيك على ما فتح الله به عليك من جمال هذه المدونة التي تفرحنا بمليح إتحافاتك وهداياك النيّرة ..
جعلها الله لك ذخراً وكتب لها باب القبول والأثر وطولة العمر..