الهيئة القدوة!
شرعت منذ زمن بالكتابة عن بعض المؤسسات السعودية الحكومية؛ للتعريف بها وبتاريخها، مع إطلالة على حاضرها ومستقبلها، وهو باب من أبواب خدمة الوطن والأجيال، وفرصة للابتعاد قليلًا عن السير الشخصية دون انقطاع أو انكفاء تام عن هذا الباب المهم أيضًا. ولم أتوقع أن تكون بعض التفاعلات شبيهة مع ما يُكتب عن السير والترجمات؛ فمن القراء من يشكر هذه المبادرة، ويفهم دوافعها، ويقدّر الأثر الثقافي لها.
بيد أن منهم من تغلبه طبيعته البشرية؛ فيبدأ بسرد المآخذ على المؤسسة المكتوب عنها، مع أني فيما أكتبه لم أقل تصريحًا ولا تلميحًا إن هذه المؤسسة كاملة التكوين تامة الأداء دومًا! بل إن بعضها لم ينصفني فيما وقع عليّ والحق لي كله، والأطراف الأخرى المعتدية تحت نظرهم وسلطتهم، ومع ذلك فلهم نصيب قادم من الكتابة. وبعض القراء -سامحه الله- يسأل عن مقابل الكتابة؛ وقد لا يصدقون بأنها دون رجاء ولا انتظار لشيء؛ بل عسى أن أخرج من الكتابة كفافًا لا لي ولا عليّ!
بعد هذا البيان، أقف اليوم باختصار مع هيئة كانت فكرة، ثمّ غدت واقعًا قائمًا، وآلت إلى أن تصبح هيئة قدوة، وعلى منوالها يُنسج، ووفق مثالها يكون العمل في إطاره العام. وكانت هذه الهيئة هاجسًا في فكر أمير الرياض التاريخي الأمير سلمان -الملك حاليًا-؛ ولأجل ذلك أجريت دراسات ميدانية على تخطيط الرياض من قبل شركات عالمية، وراجعتها لجنة محلية برئاسة أمير الرياض حينذاك، ثمّ كتبت اللجنة توصياتها لمجلس الوزراء الموقر الذي وافق بقرار على أمرين معًا، ووضع لهما ضوابط وقواعد.
وبناء على هذا تأسست الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، مع الموافقة على تخطيط المدينة وحدودها حسب توصية اللجنة، وذلك بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (717) بتاريخ التاسع والعشرين من شهر جمادى الأولى عام (1394)، ويحمل توقيع النائب الثاني الأمير فهد -الملك فيما بعد-. والهدف من القرار إيجاد سلطة مسؤولة عن التطوير الشامل لمدينة الرياض، وقيادة هذا الملف الإستراتيجي لعاصمة البلاد؛ كي تبدو العاصمة بهيئة تستحقها بما لها من ثقل سياسي واقتصادي، وحتى تستوعب كثافة المشروعات والسكان المتوقعة في المستقبل، داخل حدود الرياض المعتمدة بناء على توصية اللجنة، وهو ما كان.
فعمدت الهيئة إلى العمل في مسارات متوازية، إذ استقطبت الكفاءات المحلية المتاحة آنذاك على ندرتها وعلى رأسهم عميد كلية الهندسة د.محمد آل الشيخ، وتعاقدت مع مكاتب عالمية لكن بشروط منها أن يشارك أبناء الوطن معهم مشاركة فيها تعليم، وتدريب، وتنفيذ ميداني، وأن يكون عمل هذه الشركات الاستشارية والمكاتب الهندسية وفق الأطر المرسومة لها بما يناسب البلاد وعراقتها الضاربة جذورها في الأرض، وثقافتها الشامخة بأصولها نحو السماء، وهي عراقة شملت التصاميم، والمساحات، والتسميات، وثقافة ظهرت في المساجد، واللغة، والتقاسيم، ولا ريب أن هذه المطالب تحتاج لمفاوضات مضنية، وإصرار شديد، واعتزاز داخلي عميق.
وامتاز العمل في الهيئة بمزايا على رأسها أنه خالط نفوس العاملين فيها حتى سيطر على يومهم دون حساب لساعات عمل أو أوقات راحة، وأصبحت الهيئة جامعة تطبيقية في بابها المختص بتطوير المدن وعمارتها، ولأجل هذا أنجبت عددًا كبيرًا من المسؤولين وهي على الطريق سائرة. ومن مزاياها الانضباط الإداري الشديد وإن غاب الرقيب، والصرامة المالية حتى لو تدفقت إليها الموازنات في زمن وجد الراتعون فيه أبوابًا مشرعة للإثراء بلا سبب مشروع، وإنه لحال غير مرضي نأمل أنه قد ولى في أيامنا هاربًا ولن يعود.
ليس هذا فقط؛ بل أنجزت الهيئة مشروعات بناء يكاد من يراها أن يظن بأنها حديثة عهد؛ وقد لا يصدق أن بعضها يدلف إلى عقده الخامس! فمنها حي السفارات، ومنطقة قصر الحكم، وإسكان وزارة الخارجية، وكان لها لجان خاصة ضمت لاحقًا تحت إدارة واحدة لمشروعاتها، وتواصلت المشروعات لتشمل بعض الطرق الأساسية، والمراكز التاريخية، والمجمعات الحكومية، والمتنزهات والحدائق والأودية، ومنها مشروع الدرعية التاريخية، والرياض الخضراء، والمسار الرياضي، وحديقة الملك سلمان، ومن ضخامة العمل أن استقل آخر مشروعين بمؤسسات خاصة، وهي سمة للهيئة التي ينبثق عنها مؤسسات أخرى؛ وسيكون لها ولأعمالها شأن حضاري وبلداني كبير.
كما فازت مشروعات الهيئة بجوائز عالمية وإقليمية ومحلية، ومن كثرتها أن جمعت في كتاب من إصدارات الهيئة، وهي إصدارات متاحة إلكترونيًا في موقعها لمن شاء، علمًا أن الجوائز تسعى إليها دون انقطاع، والحديث عن مشروعاتها في مجالس العمارة والهندسة المدنية لا يكاد أن ينقطع، وإنها لأحدوثة عذبة في الفؤاد وعلى اللسان، خاصة في جلسات رؤساء مركز المشاريع الأوائل الذين سمعت منهم على انفراد أو في ملأ أن الملك سلمان -حفظه الله- يقف خلف نجاح أعمال الهيئة بالمشاركة في التخطيط وإبداء الرأي، وبالتوجيه والمساندة، وبالمتابعة وتذليل العقبات، وبما له من حضور مهيب سواءً أكان قريبًا يسمع ويرى، أم بعيدًا يسأل ولا ينسى، وبمن يختارهم من رجال ذوي أهلية لمجالس الهيئة، ولأعمالها التنفيذية.
ثمّ صدر في عهد الملك سلمان تنظيم هيئات تطوير المناطق والمدن، بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (475) وتاريخ السابع من شهر رمضان عام (1439)، ونصّ القرار على أن “هيئة تطوير مدينة الرياض” لها شخصية اعتبارية واستقلال مالي وإداري، وترتبط تنظيميًا برئيس مجلس الوزراء. وعقب ذلك صدر الأمر السامي الكريم رقم (أ/470) بتاريخ التاسع والعشرين من شهر ذي الحجة عام (1440) القاضي بتحويل “هيئة تطوير مدينة الرياض” إلى هيئة ملكية باسم “الهيئة الملكية لمدينة الرياض”، وأن تنقل إليها جميع المشروعات الوطنية الكبرى بالرياض، وبعد هذا التاريخ بأربعة أشهر بالضبط صدرت الترتيبات التنظيمية للهيئة الملكية لمدينة الرياض.
ومن الملاحظ توافق تاريخ صدور أكثر القرارات العليا بخصوص الهيئة في اليوم التاسع والعشرين من الشهر الهجري، وفيه لنا فأل بأن الجودة قد بلغت المنتهى، وأن الثمرة مسك ختام مرتجى. ومن الموافقات اللافتة ذات الدلالة أن إحدى أهم لجان تأسيس الهيئة العليا استعانت بأساتذة من جامعة الملك سعود في عشر التسعينات الهجرية، ثم أصبحت الجامعة الأولى بعد نصف قرن من تلك الاستعانة تحت لواء الهيئة الملكية وضمن مسؤولياتها.
وللهيئة حاليًا مجلس إدارة برئاسة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، وبعضوية عدد من الأمراء والوزراء وكبار المسؤولين، مما يؤكد على أهميتها، وعلى أنها هيئة قدوة لغيرها من هيئات المدن وبقية المؤسسات الحكومية. وفي تاريخها تولى رئاسة مركز المشاريع أو الرئاسة التنفيذية للهيئة خمسة رؤساء أصالة أو تكليفًا، منهم ثلاثة وزراء، وهم على التوالي: د.محمد آل الشيخ، م.عبداللطيف آل الشيخ، م.إبراهيم السلطان، م.طارق الفارس، أ.فهد الرشيد، وأخيرًا كلّف معالي المهندس السلطان برئاستها من جديد.
أسأل المولى القدير للهيئة التوفيق والعون، ولمشروعتها التنموية والعامة المضاء والتمام على حال تسر الناظرين، وتبهج القلوب، وتنفع البلاد وأهلها، حتى تصبح الهيئة ومنجزاتها مسيرة تُروى وتُسرد، وحكاية بها يتغنى، وعنها يتحدث، وفي أروقة الجامعات تدرس، وفي قاعات المحاضرات تعرض، وما هو بالمطلب العسير بعد فضل الله وعونه؛ ثمّ بالهمة والمتابعة الحثيثة الدائمة، حتى تصبح العاصمة المنيعة الجميلة من درر المدن والعواصم والحواضر، وتغدو مطوقة لا بجبل طويق فقط، وإنما بثمرات العقول، وجهود العاملين، وأثر الأموال، ونتيجة المحاسبة والمراجعة، وتلك مننٌ من الرب المنعم يُحمد عليها ويُشكر بالطاعات وما أوسع بابها؛ كي ننال منه سبحانه الرضوان والتأييد.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 29 من شهرِ رمضان المبارك عام 1444
20 من شهر إبريل عام 2023م
2 Comments
جميل: قول متزن وإيجابي. والمؤسسة على اعتاب نقلة في القيادة التنفيذية لها خبرة وممارسة وحسن تدبير.
وفقك الله وسددك لمزيد من النفع والإفادة
مقال رائع وان كان لي من اضافة فهي أننا تعلمنا في الهيئة ان النجاح يحسب للجميع وكذلك تعلمنا منهج العمل المبني على اسس نظرية وتطبيقية امتازت بها الهيئة