إدارة وتربية سير وأعلام مواسم ومجتمع

الجامعة الإسلامية: الجامعة الدبلوماسية!

الجامعة الإسلامية: الجامعة الدبلوماسية!

ليس لهذا المقال علاقة بالمسألة الجدلية المصطنعة للتشويش أو الصرف، أو لتجريب القدرات الكلامية والحجاجية، وهي مسألة العلاقة بين الدين والسياسة. ولو امتعض قلة من هذا الاحتمال فلربما ينقص امتعاضهم الانتقائي إذا عرفوا أن في تاريخ وزراء الخارجية الأمريكان قسٌّ شهير وربما أكثر، وأن الدِّين حاضر في السياسة الأمريكية مع أنها أكبر دولة ليبرالية في عصرنا، ومصداق ذلك في التعابير الكنسية التي تطلق على كثير من الأعمال العسكرية، وروابط الوعاظ والكهان والإنجيليين بالبيت الأبيض وساكنيه من رؤساء البلد العلماني، وفي هذا الموضوع غير كتاب مطبوع، وبعضها رسائل علمية محكمة، وفي النهاية فالمراد مما كتبته شأن تعليمي علمي خالص، وجاءت السياسة تبعًا له.

فمما وفق الله إليه ولاة الأمر أن أصدر الملك سعود أمرًا بتأسيس الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية بتاريخ 25 من شهر ربيع الأول عام (1381)، وهي الجامعة التي حظيت بعناية الملكين سعود ثمّ فيصل فمن بعدهما من ملوك المملكة العربية السعودية منذ بداية الدراسة فيها في اليوم الثاني من شهر جمادى الآخرة عام (1381)، ومن ذلك أن الملك سعود حضر الجلسة الأولى لمجلس الجامعة الذي شارك فيه علماء أكابر من السعودية ومصر والعراق وسورية وتونس واليمن وموريتانيا والهند والباكستان، وشملها الملوك بالرعاية عبر الرئاسة الفخرية لمجالسها، والمتابعة لها، والإغداق عليها؛ ولا غرو فهي هدية السعودية إلى العالم.

لذلك يوجد في الجامعة الآن عشر عمادات، وتسع كليات منها كلية خاصة بالقرآن الكريم، وأخرى للحديث الشريف، وهما أصلا الإسلام ومصدره المرتبط بالوحي المقدس. وفيها معهدان أحدهما لتعليم اللغة العربية، والآخر للبحوث والدراسات، ومكتبة نفيسة بما فيها من محفوظات وكتب ومكتبات علماء، ويصدر عنها أربع مجلات علمية، وفيها حاليًا (853) مقررًا دراسيًا، يدّرسها علماء وأساتذة يصل عددهم إلى (1127) عضو هيئة تدريس، ويساندهم من الموظفين (1300) موظف، وجميعهم يعملون لخدمة (16279) طالبًا من السعوديين والمقيمين وطلاب المنح، وهذه الأرقام من موقع الجامعة الشبكي الجميل المتجدد.

وخلال تاريخ الجامعة أدارها اثنا عشر مديرًا، منهم ثلاثة بالتكليف، وفيهم علماء شرعيون من أبرزهم الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبدالعزيز بن باز، وهما مفتيان سابقان للسعودية، والشيخ عبدالمحسن العباد البدر، كما درّس في الجامعة علماء كبار لدرجة الرمزية العلمية في العالم الإسلامي قاطبة وفي الأعصر المتأخرة مثل إضافة لمن سبقوا الشيخ المحدث الألباني، والشيخ المفسر الشنقيطي، والدكتور محمد أمين المصري، وآخرون يعزون على الحصر، وبالمقابل تخرّج فيها طلبة نابهون أصبحوا من الشخصيات العلمية والرسمية المهمة في بلدانهم ومجتمعاتهم.

فليس بكثير أن تغدو هذه القلعة التعليمية الشامخة الفريدة أشبه بجامعة دبلوماسية؛ ويتأكد هذا الوصف إذا علمنا بأن الجامعة الإسلامية قبلت في تاريخها طلابًا من أكثر من مئة وسبعين دولة، يتحدثون بأكثر من خمسين لغة، وهذا يعني أن الجامعة لو وضعت أعلام دول طلبتها في صورة واحدة لوقع في خلد المشاهد أنها منظمة دولية واسعة الانتشار، ولو كتبت كلمة ترحيبية مختصرة بكل لغة محكية يفهمها الدارسون في أروقتها؛ لاحتاجت إلى لوحة عريضة تدخل كتب الموسوعات والغرائب، ولعمركم إنها لمن أرقى أصناف القوة الناعمة المستحقة للعناية، والحماية مما يخدشها بسبب خلل إداري، أو إجراء يفسد هذه الزينة البهية المتكاملة التي نقدمها للعالم أجمع.

وسوف تزداد أهمية الجامعة مع الإقبال الكبير على العلوم الشرعية والعربية من قبل أبناء العالم الإسلامي في دولهم، أو في دول أخرى بحكم المواطنة، أو العمل، أو العيش مع جالية مسلمة أو أقلية. ولربما أن التنافس على استقطاب هذه الطلائع الشبابية النهمة سيتعاظم في دول مثل مصر، وإيران، وتركيا، وماليزيا، وقد تدخل بلاد أخرى من هذا الباب لإيجاد موضع قدم وتأثير لها؛ مع أنها لا تملك من المقومات ما تملكه الدول السابقة باستثناء المال، والمنافسة قائمة حتى لو كانت بعض تلك الدول بعيدة عن هموم المسلمين وشؤونهم، أو عن العلم الشرعي ومنابعه.

لكن هذه الدول جميعها مع التقدير لها وللمخلص من جهودها، لا تستطيع تشييد جامعة تقع على ضفاف وادي العقيق، وعلى بُعد عشرة أكيال من المسجد النبوي الذي صلى فيه النبي وخطب، وفيه روضته، وهو المسجد العظيم الواقع في الجهة الغربية من المدينة النبوية التي كانت مهاجر النبي الأكرم، ومنزله البرزخي، وموئل الخلافة الراشدة، وفيها مسجد قباء، وقبور الصحابة في بقيعها أو مقبرة شهداء أحد، وليس ببعيد عنها حرم الله الأقدس وبيته الحرام في مكة، وهذان المسجدان مع المسجد الأقصى هي المخصوصة بشدّ الرحال إليها. وبين نواحي المدينة وأطرافها وحدودها توجد الأراضي التي تحرك فيها النبي عليه الصلاة والسلام، وسار عليها الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، رجالًا وركبانًا، للحج والعمرة، أو للفتح والجهاد والنصرة، أو لتبليغ العلم والضرب في الأرض يبتغون من فضل ربهم ورضوانه، وهي مواضع شهيرة في كتب السيرة والفتوح والتاريخ والبلدان والشعر واللغة.

وقد كانت الجامعة المباركة من أسباب انفتاح الشيخ ابن باز على العالم، ومعرفة البلدان به، وما أحرانا بالتيقظ لهذا الملمح الرفيع، والإكثار من علماء البلد البارزين ضمن الهيئة التعليمية والإدارية للجامعة، وعونهم للانفتاح على الطلبة في الاستضافة المنزلية، والدروس المسجدية، والصحبة؛ لما في ذلك من مصالح متبادلة، ومنافع عظيمة لا تخفى. ومن المفيد لو أتاحت الجامعة لمن تخرج في غيرها من طلاب المنح داخل السعودية أو سواها من البلاد ممن درسوا علومًا تطبيقية أو نظرية أن ينتظموا في الدراسة سنة أو سنتين في برنامج تأهيلي شرعي مكثف؛ وحينها سنقطف ثمارًا غرسها وسقاها الآخرون، وسيمحو عبق الجامعة ورائحة المدينة الزكية أيّ أثر لغيرها.

ومن الجهود المشكورة للجامعة خدمة طلبتها وأسرهم في غير ميدان، والتواصل مع المتخرجين فيها، وهي حكمة لازمة؛ إذ كيف يتركون بعد ما صرف من جهود وأوقات وأموال بلا صلة أو رابطة، خاصة من كان منهم ذكيًا مجتهدًا نجيبًا؟ ومن الأفكار العملية مساعدتهم على إكمال دراستهم العليا داخليًا، والإفادة من لغاتهم الأجنبية في التعريب أو التعجيم، وإلزام حملات الحج القادمة من بلادهم بالتعاقد معهم للفتيا والتواصل والإرشاد، واستثمارهم في الرحلات السياحية، والمعارض التجارية والثقافية والتراثية، وغيرها من مناسبات وفعاليات.

ومن الطريف بمناسبة السياق أن رجلًا من كمبوديا قصّ عليّ خبر ضياعه في منى أيام الحج، وما استطاع أحد من رجال الأمن الكرام أن يفهم كلامه لغرابته، فلا أحد يجيد لغته خلاف الوضع الآن بكثرة اللغات المحكية من العاملين في خدمة الحجيج؛ وضاقت الأرض بما رحبت على الحاج المستضاف ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين، وعلى من معه من رجال الميدان، حتى طرقت مسامع الحاج كلمات من لغته في خيمة مجاورة؛ وما أعظم فرحته عندما عثر على طالب علم يدرس في الجامعة من فيتنام وهو يعظ أهل لسانه؛ علمًا أن كمبوديا وجزء من فيتنام كانتا ضمن مملكة إسلامية واحدة قسمها الاحتلال وشتت شملها، قصم الله ظهور دوله الغازية الباغية.

كما أن وجود معهد لتعليم اللغة العربية ضمن وحدات الجامعة فرصة جديرة بالاهتبال للنهوض بهذا الروض الأنف من أبواب العلم والشرف السامق بعد التعاون مع مثيلاته محليًا، ومع مجمع الملك سلمان للغة العربية، من أجل العمل على نشر اللغة، وتيسير تعليمها، وحث الدول الإسلامية على اعتماد حرفها، وكم في هذا الصنيع الجليل من مكاسب ومحامد دنيوية وأخروية في أبواب دعوية وثقافية وحضارية واقتصادية وسياسية، ومن ظهورها فلا داعي للإثقال بذكرها.

ألا ما أعظمها من قوة حين تقابل المفتي الأكبر في أيّ بلد إسلامي ثمّ تعلم أنه تخرج في الجامعة الإسلامية أو في غيرها من جامعاتنا، وما أكبرها من نعمة إذا سمعت عن رجل دولة كبير، أو وزير مؤثر، أو سفير نشيط، أو عالم متفنن، أو خبير بصير، من بلد عربي أو إسلامي أو من مجتمع مسلم، وبعد هنيهة تعرف أنه درس العلم الشرعي أو النظري أو التطبيقي في واحدة من جامعتنا، وما أسناه من شرف تاريخي باذخ حينما تذكر كبريات المدارس والمعاهد في تاريخ المسلمين وحواضرهم، وتغدو الجامعة الإسلامية بالمدينة من أعظمها بركة وتأثيرًا، وخير من ذلك كله الأجر المذخور والثواب المرتجى عند رب العالمين لمن كان سببًا في وجودها، أو معينًا على إدامة جهودها، رحم الله الأموات منهم، وبارك في الأحياء.

ومن المناسب الإشارة في الختام إلى أن منحة دراسية سنوية لبضعة آلاف من الطلبة المسلمين في التخصصات كافة لا تضيّق على أبناء البلد الفرص، وأن القطاع الخاص، والأوقاف، وإدارات المسؤولية المجتمعية، يمكنها المشاركة في خدمة هذا البرنامج الطيب أصله، المباركة ثماره، المديدة منافعه، الغزيرة تجاربنا فيه؛ فبلادنا منها انبثق آخر نور نزل من السماء إلى الأرض، وحقيق بها أن تظلّ دومًا مصدر التنوير الحقيقي الذي لا معنى له إن أعرض عن نور الله، وتاه في مهامه الظلام أيًا كان اسمها ورسمها.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الأحد 25 من شهرِ رمضان المبارك عام 1444

16 من شهر إبريل عام 2023م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. استمتعت بقراءة مقالكم حول الجامعة الإسلامية، حيث قدمتم فيه رؤية دقيقة ومفصلة حول دورها محليا ودوليا. كانت لديكم طريقة رائعة في التسليط على جوانب متعددة من الجامعة، خاصة فيما يتعلق بتعزيز التفاهم الثقافي والديني.

    لقد أظهرتم كيف يمكن للجامعة أن تكون جسرًا للتواصل بين مختلف الثقافات وتعزيز التبادل الثقافي. كما أعجبتني طريقتكم في التعبير عن أهميتها الدبلوماسية الثقافية وكيف يمكن أن تساهم الجامعة في بناء جيل من القادة المؤهلين لفهم التحديات العالمية.

    لا يمكن إنكار الدور الحيوي الذي تلعبه الجامعة في تعزيز الفهم المتبادل وتوطيد العلاقات الدولية.

    شكراً لكم على تسليط الضوء على هذه الجوانب المهمة، وأتطلع إلى قراءة المزيد من مقالاتكم الملهمة في المستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)