سير وأعلام لغة وأدب

الرز البرياني هو السبب!

الرز البرياني

الرز البرياني هو السبب!

اتصل بي صديق قبل عشرين عامًا أو أزيد، وسألني: ما هو أفضل مطعم للرز البخاري والبرياني في شمال الرياض أو وسطها؟ أجبته: لقد وقعت على غير خبير! فقال: لكنك قطعًا تعرف كيف تحصل على الجواب الصحيح الذي أحتاجه بشدة لإكرام زائر قصير مكثه، وشرطه أن يأكلهما فقط! فرفعت السماعة على زميل عزيز أكيّل، ونقلت له السؤال فأخبرني بالعلم الأكيد، ثمّ رجعت إلى السائل الأول وقلت له: حدثني مَنْ أثق ببطنه أن أفضل المطاعم هي كذا وكذا؛ فضحك ملء شدقيه من وصفي لثقتي ببطنه، ولا عجب فهي مناط الخبرة.

والحقيقة أني استغرب من قوم لديهم دقة عالية -وربما مَرضية- في تمييز الطعام والشراب، وأسأل الله أن يعين أمهاتهم، وأزواجهم، ورفقتهم سفرًا وحضرًا، وأيّ مطعم أو مقهى يدخلون إليه، وأيّ طباخ يتذوقون طبيخه، مع أني أعتقد -من إنصافهم وذكر حسناتهم- بأن وجودهم من أسباب التجويد والحرص والاحتياط، وهذا يدل على أن تباين الطبائع والأذواق وطرائق العيش نعمة في أصلها، مالم تطغ على أصل ثابت بدين، أو عرف، أو اتفاق، أو نظام.

ثمّ إن لي مع الرز ذكريات، منها أني قابلت شابًا سمينًا، وغالب السمان ظرفاء، فقال لي: كنت نحيفًا إلى أن برعت أختي الكبرى بطبخ الرز؛ فأصبحت آكل منه ولا ألوي على شيء حتى انتفخت! وبعد سنوات طويلة من لقائي بهذا الشاب، جمعني مجلس عابر مع شاب آخر، فقال لي: إن الحظر المصاحب لكورونا زاد من وزني زيادة مفرطة لكثرة ما تناولت من الرز! وطبعًا أكاد أن أجزم بأن الرز مظلوم في الروايتين؛ بيد أن المسكين لا يقدر أن يدافع عن نفسه، وأيّ ضعيف أو مستضعف أو متنمر عليه عرضة لرمي المصائب في ساحته، وإحالة أيّ خطأ إليه، خاصة إذا أصبح هذا الفعل ديدن المتسلقين المتأكلين، أو فرصة الانتهازيين المنتقمين.

كما أذكر أني ذهبت مع عزيز لزيارة مسؤول كبير مهيب سابق؛ وفي الجلسة تباسط معنا وأصر على إطالة اللقاء، ومما قاله: لقد تعبت من السمنة ولا وقت لديّ كي أذهب للنادي! فلم يتردد مرافقي بإطلاق قذيفة من النصح في غير مكانها، ولا تصلح لهذا الموضع، ولا مع مثل ذلكم الرجل، إذ قال له: أتريد وصفة للرشاقة؟ فأجاب المسؤول متلهفًا: عجّل بها لي! فتحمس الصاحب العزيز قائلًا: دع عنك أكل الرز! وعندها تغيّر وجه المسؤول، وشخصت عيناه المخيفتان، ولكأن الكهرباء نفضته نفضًا، ورجته رجًا، وجلست على نار حتى خرجنا من عنده سالمين!

كذلك أخبرني صديق نقلًا عن أخيه أنه وقف على رأس ضيف زائر محتفى به من مسؤول كبير راحل، وكلما سأل المسؤول ضيفه عن الصنف الذي يود الأكل منه، أجاب الضيف: رز! وفيما بعد تهامس الطاقم مستغربين من إصرار الضيف على الرز، وتركه بقية الأنواع العالمية اللذيذة والشهية! ويبدو أن الافتتان بالرز عالمي على اختلاف تعامل الشعوب معه في كيفية الطهي، والإضافة، ووقت الوجبة التي تحتوي عليه. وهو طبق عابر للحدود، ومنتج ذو دخل مالي كبير، وفيه بعض أمثال العرب منها أنه عز جلب الندب إلى البرغل بسبب هجران الآكلين له.

ومن أخبار الرز أن جاري أنبأني بأنه صنع وليمة عرس لابنه ثاني أيام العيد؛ فلما حضرت الصحون من المطعم وفتحوها للأضياف، وجدوها خالية بلا لحم بسبب ارتباك المطعم من كثرة الولائم لديه، وبمشقة تدارك الجار هذا الخطأ، وأقسم ألّا يقيم وليمة في أيام العيد. ومع أن الرز وجبة أساسية في المناسبات لدينا، إلّا أني سمعت عن مناسبتي زواج أقيمتا قبل أربعين سنة بالضبط من عامنا هذا، وفي مكانين مختلفين من المملكة، وقد كان الطعام فيهما خاليًا من الرز تمامًا، ومضى العرسان ببركة وثمار طيبة، لكنهما لم يصبحا سنّة متبوعة لدى الناس؛ فلربما أن العادات والأعراف غلبت محاولات التصحيح والترشيد، وليت أن وجبات الطعام والمناسبات لدينا تعود إلى الاعتدال، وتنتهي منها مظاهر الإسراف والتفاخر والتكلّف، فما أكثر الجوعى حولنا، والله يتولانا ويتولاهم برحمته وعونه.

ومن لطائف الرز ما كرره أبواي دائمًا، أن الوالد رحمه الله أحضر أصنافًا كثيرة من الفاكهة الشهية الطازجة، وصيرتها الوالدة غفر الله لها وجبة غداء خالصة بلا طبخ، وبعد أن أكل إخواني وهم صغار آنذاك، سأل أحدهم: أين الغداء وأين الرز؟ فقيل له: هذا هو الغداء! فبكى غير مقتنع بالجواب ولا راضٍ به. ومن مكانة الرز أن له أسماء متنوعة؛ فهو في العراق تمن، وفي الخليج عيش فبه المعيشة، وترتبط به وجبات شهيرة منها الكبسة السعودية، والمنسف الأردني، والمكبوس الكويتي، وهي أسماء مخيفة والله يكتب لنا ولكم الأمن والإيمان.

أيضًا مما سمعته من قريب أن أخاه مبتلى بالجوع الحار، ولذلك يصنعون له وجبة خاصة لتصبره قبل موعد الوجبة الحقيقية، وهذه “التصبيرة” هي طبق رز. وسمعت امرأة تحكي عن نفسها أنها قالت لأبويها: لا أحمل همّ زوجي على المائدة، ونوع الطعام، ومذاقه، ولكني أتعب من طفلي مع أنه دون العاشرة؛ لأن جوعه شديد حتى لكأنه رمي بداء الذئب، ودرجة التمييز لدى صغيرها عالية، وفحصه للطعام فحص محتسب أو مخبر، وكلام المرأة أرويه بالمعنى طبعًا.

وسافرت مرة مع وفد دون العشرين من الرجال، وسكنا في أحد الفنادق، وعندما عزمنا على الغداء في الفندق وليس في الأماكن التي نزورها، اشترط رئيسنا على كبير الطباخين أن يقلّل الفلفل في الرز البرياني، لكننا كدنا أن نحترق من حرارته عندما طعمناه، فلما لام الرئيس الطباخ، أجاب بأن ما وضعه هي الكمية المعتادة للأطفال والضعفاء! وهذا الجواب هو نفسه الذي قاله حارس استراحة هندي طبخ البرياني لصاحب الاستراحة ورفاقه، وعندما لسع الفلفل ألسنتهم اعتذر الحارس الطباخ بأنه وضع كمية يُستحى من مثلها!

بقي أن أقول لكم إن الذي حفزني لكتابة هذا المقال عن الرز البرياني، أن صديقًا أثيرًا حبيبًا -لا أخلى الله مكانه- قد غضب مني، لسبب لا أشك في وجاهة دواعيه، ولا أشك في وجاهة عذري، وبعد حوار بيني وبينه بواسطة الواتساب وفيه عتب ونقاش مكتوب ومسموع، رجع إليّ كسابق عهده الجميل المفيد، والسبب الذي ساقه لي هو أن قد وقع بين يديه صحن من الرز البرياني اللذيذ، فلما أكل استطعم، وبلغ منه الكيف مبلغًا أعاد لعلاقتنا توازنها، وهي علاقة قوية لا يؤثر عليها حدث واحد أو أكثر والحمدلله، فرأيت كتابة هذا المقال احتفاء بالرز البرياني الذي يوصف بأنه من المائدة الإسلامية في فارس والهند، على اختلاف البهارات المستخدمة فيه، وللبهارات حكاية في الكتابة والحديث، وفي الطبخ والمذاق، وفي السياسة والاقتصاد.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 20 من شهرِ رجب عام 1444

11 من شهر فبراير عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. كلام جميل ولطيف كلطائف الرز، هذا ما تفعله بنا الأطباق الأساسية و التقليدية، كالكسكس في الجزائر والمغرب وليبيا و غيرهم، ويسمى في الجزائر بعدة أسماء منها الكسكس، الطعام، العيش، ومازال الطبق المفضل في الأعياد والأعراس،الله يدوم النعمة.

    1. معلومة جديدة!!
      إضافة لا بأس بها لديك خبرة جيدة جدًا في ثقافات البلدان المجاورة؛ والمسميات العاطرة في وصف اللذائذ طالما أنه مفضل في الأعراس والأعياد؛ أدام الله نعمة الكبس والرز!

      بس اعجبني شيء آخر!
      ملاحظة الكاتب التعجبية عن اولئك القوم الذين يمتلكون الدقة العالية في التمييز!
      ليت قومي يعلمون، ويعقلون !؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)