سير وأعلام

ناصر السعيد: الداعية المغيث المربي

Print Friendly, PDF & Email

ناصر السعيد: الداعية المغيث المربي

ينتمي الشيخ ناصر بن عبدالرحمن بن عثمان السعيد (1363-1442) إلى مدينة جلاجل في سدير، ويرجع إلى أسرة عريقة من قبيلة الدواسر، ويمثّل بلادنا السعودية التي عرفت مناطقٌ كثيرة رجالاتِها من العقيلات وفي الزبير والهند وغيرها فوجدت فيهم الجدية وحسن العهد. وهو يعود إلى أرومة تحمل أخلاق العربي وأنفته، إضافة إلى أنه أساسًا رجل مسلم يحب دينه وأهله ويعتز بموروثه، ويفرح لما يسر أمته ولا ملامة عليه، ويؤلمه ما يضيرها. وعلى هذه الخصال الحميدة كان محيا أبي بدر، وعليها كان مماته، والله يبعثه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وما أحسنها من رفقة.

أما منجز الشيخ الأبرز فهو عمله في الهيئة السعودية لإغاثة البوسنة والهرسك قبل ثلاثين عامًا خلال ذروة العدوان الصليبي على المسلمين هناك، مع أن له أعمالًا تربوية ودعوية وإدارية وشورية قبل ذلك وبعده، إلّا أن منطق الأشياء يقول بأن عملًا واحدًا ربما يطغى على سيرة إنسان ومسيرته، ولا بأس من ذلك مالم تُغمط باقي الأعمال حقوقها، أو يطمرها النسيان، وتلك فيما يخصّ شيخنا مسؤولية الذين عاصروه في الأعمال الأخرى، وعسى أن يبادر منهم موفق فيكتب أو يروي.

اشتهر الشيخ بخصال كريمة إبان عمله الإغاثي، منها الانهماك في العمل دون نظر لوقت الانتهاء حتى صار الذين معه مثله في ذلك ولا يرجو أحدهم أموالًا إضافية، ويقف على متابعة العمل بنفسه وهي خصيصة يشاركه فيها الناجحون من المسؤولين، وانفرد الشيخ مع قلة بأن متابعته كانت تحت نيران القصف الصربي وربما وسعه لو أجل المتابعة أو غيّر المكان؛ والسر يكمن في شجاعته مع إيمانه بالقضاء والقدر، وأن الأجل والرزق قد كتبا وفرغ منهما. ومن سماته الإدارية الاستقطاب الرشيد، والتهيئة المتأنية، والتفويض مع الملاحظة، والفرح بمنجزات الآخرين، ومشاورة الجميع، والامتناع عن تخصيص ذاته بشيء دون غيره، وأخذ نفسه بالعزيمة والقوة قبل فرض ذلك على من معه أو تحت رئاسته.

كما روي لي عن كرم الشيخ ما يذهل، فمائدته يوميًا عامرة مفتوحة، ودعواته متكررة بل إنه يسعى في دعوة أيّ ضيف قادم، ويتخذ الدعوة حجة لجمع فريقه وغيرهم على العشاء معه، هذا غير الإفطار الذي يحضره معه للمكتب كي ينشط بتناوله العاملون والزوار. وفي ديوانه الليلي فوائد تتجاوز الطعام ونشر العلم وتداول الرأي والأخبار إلى الحفاظ على الشباب العزاب من البقاء ليلًا دون عمل أو ارتباط في بيئة تعج بالفتن وتحيط بها الشهوات. ويشهد المشاركون في موائده على طيب طعامها، وجمال أحاديثها، وحسن استقباله ووداعه، والأنس الذي يملؤها من أول اللقاء إلى خواتيمه.

وامتد كرمه إلى بذل شفاعته واستثمار وجاهته بمساعدة الآخرين في شؤونهم المالية والعلاجية والوظيفية والإدارية وغير ذلك دون ضجر من كثرة الطالبين، وبلا تردد في هذا الفعل المبارك من المروءة الذي يتناقص مع مرور الزمن. وهو كريم في الثناء على أصحابه وموظفيه بما يستحقونه دون زيف ولا بخس، حتى يحفزهم ويطورهم. ومن كرمه أن بسط وجهه للجميع حتى شعر كلّ واحد بأنه الأقرب والأحب، ونجح في التعامل الاجتماعي وتفعيل الذكاء في هذا الحقل لإدارة النفوس البشرية ذات الطبائع المتباينة، وهذا سلوك قيادي صرف يوفق الله له من شاء من عباده.

كذلك من بصيرة الشيخ أنه على زهده في نفسه لم يسحب هذا الزهد معه في مطالباته لعمله الخيري والإغاثي والدعوي، ولذلك إذا كتب طلبًا جعله في أقصى حدٍّ ممكن، وإذا أشرف على عمل حرص على أن يكون أكمل وأجمل، وظهر أثر هذا المنهج الصائب في المنشآت التي بنيت أو أصلحت في البوسنة من مراكز ومساجد ومدارس ومساكن ومشافي وكتب وترجمات وغيرها، ولا شك أن وجود أطراف متعاونة واثقة من أصحاب القرار والإدارة مما أعانه على ذلك، ومن البركة أن يكون الصدق والإخلاص والثقة من أسس العمل أيّ عمل، ومن القواسم المتوافرة في الشركاء كافة.

لأجل هذا بقيت أعمال الهيئة العليا لإغاثة شعب البوسنة خير شاهد على تميز الرجل وامتياز العمل الإغاثي السعودي الذي ينطلق برؤية بريئة من أيّ شكوك أو أخطاء أو خفايا مع المتابعة والتدقيق لأجل التحسين والتطوير، وسيبقى هذا العمل بمئات المساجد وآلاف الخريجين والكتب والمنح الدراسية والأعمال التنموية دليلًا أصيلًا على خيرية البلاد وأناسها، وأنهم أهل لأسنى مكان وأعظمه أثرًا، وجدير بهم أن يواصلوا وألّا يتراجعوا، وحقيق بهم أن يتقدموا في المسار الناعم بهدوء وروية ونظرة مستقبلية ليشمل صنيعهم للمعروف أي بقعة تحتاج خاصة من ذوي القربى في الدين أو النسب أو المكان.

تلك هي شؤون الشيخ ناصر العامة، أما هو في خاصة نفسه فقد كان -ولا نزكيه على الله- نقي القلب، سليمًا من الغلّ والغش، بعيدًا عن تتبع العثرات أو نشر السقطات، متواضعًا حتى لكأنه من عامة العاملين معه، صاحب تأله ودوام تعبد، وقراءة خاشعة ندية للقرآن الكريم، مع قيام طويل، ودعاء صادق خاصة في الأيام العسيرة على المسلمين في البوسنة وسربرنيتسا، وهي مذبحة تاريخية يمكن أن نحاجج بها العالم على إرهابه وتآمره ودمويته لو أردنا أن نفعل وأن ننتقل من خانة المتهم المؤاخذ، وهي فاجعة قد تسكِت بعض الغوغاء من قومنا إن وجد فيهم بقية من عقل أو حياء.

أيضًا من خبره فرحه الذي يظهر على محيّاه السمح بأخبار الغيث والربيع حتى لو لم تكن تمشي له على الأرض سائمة، وإنما هو حبور بما ينفع البلاد والعباد والحيوانات، ويشرح الصدور، ويحفظ الماء في الأرض، وإنها لمئنة على طهارة قلب الإنسان، وشهادة براءة له من الحقد والحسد الذي يعمي قلوب بعض الناس والعياذ بالله. وهو من محبي القهوة والتمر، ولا يكاد يحبهما إلّا مضياف شهم كريم، وليس ذلك بغريب على ابن جلاجل ذات التمر والماء، والله يبارك في أمواهها ونخيلها ومزارعها ويزيد بركة أهلها الأبرار. ولم يهجر الشيخ لباسه العربي في أوروبا، ولم تنزع زوجه النقاب والعباءة في أوج الحرب والاستعداء، وإنها لمن أفعال الديانة والأخلاق والعراقة الأصيلة.

هذا جزء يسير من حكاية الشيخ المبارك الذي يبدو من العامة وهو صامت، ومن العلماء والدبلوماسيين إذا تحدّث، ومن كبار الإداريين والتنفيذيين إذا خطط أو عمل، ومن العبّاد إذا شرع في طاعة خالصة، وعسى أن يكون عند مولاه من المقبولين المغفور لهم بأعماله في المملكة وباكستان والبوسنة واليابان وغيرها. وأما في الدنيا فقد كسب ثقة القيادة السعودية ممثلة بالملكين فهد وسلمان، ونال الرضا من زعيم البوسنة علي عزت بيغوفيتش، وحفر اسمه في سجل الخالدين سواء في العمل الإغاثي الخيري، أو مع المشايخ البصراء الفاعلين الصادقين المحسنين الذين عاشوا مع شعب الإيمان وعاشت معهم.

رحم الله شيخنا ناصر السعيد الذي ارتحل عن الدنيا يوم السبت السادس عشر من شهر ذي القعدة الحرام عام (1442)، وصلي عليه ظهر الأحد في جامع الملك خالد ودفن في مقبرة جلاجل، والعزاء كلّ العزاء فيما تركه الراحلون من إرث في العلم والعمل والذرية والطلاب، وإن أمتنا لو لم تكن أمة إسناد وتعاقب ورواية وإنجاب متسلسل لما استطاعت الصمود في وجه العوادي والأعادي سواء القادمين من الخارج، أو الذين ينخرون بنيانها من الداخل، والويل لهم ثم الويل مع الثبور والخزي، فنور الله تام ولو كره كل منافق وكافر وعربيد وشيطان مريد.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الثلاثاء 19 من شهرِ ذي القعدة عام 1442

29 من شهر يونيو عام 2021م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. مقال جميل..و كتابة أوجزت و وفت…
    و ليأذن لي كاتب المقال بملاحظة…
    ذكر الكاتب عن نسب الشيخ ناصر (و هو يعود الى عرق نقي…بالإضافة الى أنه رجل مسلم..)الخ..
    ليت الكاتب لم يذكر تلك العبارة(عرق عربي نقي)حتى لا يفسر او يفهم منها (نفس عنصري)و كأن غير العربي النقي لا يتصف بهذه الصفات .
    ثانيا….أورد الكاتب عبارة(بالاظافة الى انه رجل مسلم)
    اوليس الأجدى ان تكون هذه العبارة هي الاصل..وليست(اظافة)
    أرجو من الكاتب قبول وجهة نظري..
    فإن أصبت فمن الله..و إن اخطأت فمن نفسي و الشيطان و الله ورسوله بريئان مما قلت…

    1. أخي عبدالوهاب الشعيبي:
      السلام عليكم، وشكرا لكم على القراءة والتعليق.
      أجريت تعديلا بناء على ما تفضلت به، وهي معاني غير مقصودة، ولم استشكلها لا أنا ولا غيري، ومع ذلك فرأيكم مقدر، ولكم التحية مجددا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)