سير وأعلام

عبدالله العمير: طبيب الجواء الأول

عبدالله العمير: طبيب الجواء الأول

تحفظ الذاكرة الشفهية والمكتوبة أعدادًا لا تُحصى من جيل الأعمام والأجداد الذين لم تُكتب لهم الحياة فغادروا المركب الدنيوي وهم أطفال رضع، أو بعيد سنّ الفطام بسبب ندرة الخدمات الصحية، وضعف الموجود منها، وقلة المعالجين، مع نزوع الأشخاص والطرق آنذاك إلى تقليدية لا يسندها علم ولا برهان ولا تجربة أحيانًا، دون غمط جهود أولئك الكرام الأوائل الذين اجتهدوا وسعهم، وقدر طاقتهم.

وبعد تحسن الأحوال صار بمقدور بعض الناس السفر خارج البلاد للعلاج، وكانت البحرين ومصر والهند وإيران وجهات قديمة، وأصبحت الأردن وبلدان أجنبية هي المقصد الأول لراغبي الشفاء فيما بعد، وفي بعض الأحيان يهرع الناس إلى طبيب جاء بنشاط أحد المستشفيات الحكومية أو الخاصة على قلّتها، أو حضر لعلاج أشخاص بأعيانهم ثمّ أتيحت الإفادة منه لمن شاء من الناس كافة دون تمييز مادامت الحاجة له قائمة.

ثمّ شاء الله أن تصبح بلادنا الكريمة سبّاقة في التعليم الطبي، وفي الخدمات الصحية، فأول كلية صحية في الجزيرة العربية حسب علمي هي كلية الصيدلة بجامعة الملك سعود التي نشأت عام (1379=1959م) أي بعد عامين من ميلاد الجامعة، وأول كلية طب خليجيةحسب السؤالهي كلية الطب بجامعة الملك سعود التي أسست عام (1387=1967م)، واستقبلت أول دفعة دراسية بعد عامين من تأسيسها.

وبعد ذلك إلى يومنا توالى افتتاح الكليات الصحية والطبية على اختلافها وامتداد مواقعها، بل صار لدينا جامعة طبية مستقلة، وغدت السياحة العلاجية أحد الروافد الاقتصادية المتوقع ازدهارها في قابل الأيام، وهذا لا يعني أننا قد بلغنا التمام، ووصلنا إلى مرحلة الكمال بلا ملحوظات أو أخطاء، وإنما هو وصف لذلكم الانتقال من حال إلى آخر، بفضل الله وتوفيقه قبل أيّ شيء، ثمّ بهمة عاملين صادقين مخلصين ناصحين.

وقد كان من طلبة أول دفعة تخرجت في كلية الطب عام (1396=1976م) طبيب الأطفال الدكتور عبدالله بن عمير بن إبراهيم العمير، الذي نال شهادة البكالوريوس مع مرتبة الشرف، وهو بذلك أول طبيب من منطقة الجواء بالقصيم تخرج في كلية الطب بجامعة الملك سعود، ويتلوه في الترتيب طبيب مخ وأعصاب الأطفال الدكتور محمد بن ناصر بن سليمان الناصر، ويأتي ثالثًا طبيب الأنف والأذن والحنجرة الدكتور عبدالرحمن بن محمد بن إبراهيم الرباح، وتقسيم هذه السلسلة الجوائية حسب سؤالي وبحثي، علمًا أنه جاءت بعدهم أفواج من الأطباء والطبيبات بتخصصات متنوعة، ومن جامعات محلية وعالمية، والله يوفقهم وينفع بهم. ولحفظ التاريخ فهذا الجمع العزيز مسبوق بطبيب الأمراض الصدرية معالي الدكتور حمد بن عبدالله بن علي الصقير (1351-1440)، الذي تخرج في جامعة الإسكندرية عام (1379)، وبلغ مناصب عالية في وزارة الصحة، وهيئة الهلال الأحمر، ومجلس الشورى، وله نشاط إغاثي عالمي مرتبط بلجان حكومية.

لذلك يُعدّ د.العمير أول معيد في طب الأطفال من خريجي المملكة، وبالتالي فهو أول أستاذ مساعد في طب الأطفال بكلية الطب من المتخرجين فيها. وقد صرم عمره المهني في الكلية ومستشفياتها بين عامي (1397-1441= 1977-2020م)، ولم يجعل نصيبًا من وقته للعمل الطبي الخاص مع توافر الفرص، بيد أن الطبيب والأكاديمي لم يجد نفسه إلّا في قاعة الدرس يعلّم الطلبة، أو في العيادة والمستشفى يعالج المرضى، ويدرب أطباء المستقبل، وينشر البهجة في قلوب آباء وأمهات، إضافة إلى التصاقه بوالديه وخدمتهما، وحرصه على البقاء بجوارهما.

كما مارس د.عبدالله العمير الإدارة مع الطب بعمله كبيرًا للأطباء ومديرًا طبيًا لمستشفى الملك خالد الجامعي، ولمستشفى الملك عبدالعزيز الجامعي بعد افتتاح مستشفى الملك خالد مباشرة. وهو مؤسس برنامج زمالة التخصص الدقيق في طب الأطفال العام الأكاديمي، وهي أول زمالة سعودية بهذا التخصص في المملكة والمنطقة، وإن فضل التأسيس ليماثل فضيلة الغرس الذي يطول عمره، وتتوالى ثماره اليانعة وظلاله الوارفة، والأجر على الله فيمن علم وعمل وعالج.

كذلك فإن د.عبدالله هو ثاني طبيب سعودي يحصل على عضوية الكلية الملكية البريطانية للأطباء، ولديه عضويات وشهادات أخرى طبية محلية ودولية، وهذه العضويات تفيد أصحابها وهي فائدة تصبّ في صالح البلاد وأهلها عاجلًا وآجلًا. وعمل مستشارًا في الخدمات الطبية بوزارة الداخلية، وسمعت ثناء عليه وعلى عمله من أحد مسؤولي تلك الخدمات. وكان أول طبيب أطفال يصل إلى رتبة استشاري في قسم طب الأطفال بكليته ممن تخرجوا فيها، وله إبان عمله لأربعة عقود قرب من طلابه الشباب، ومن الأطباء حديثي التخرج فمن فوقهم.

من ذلك ما راوه لي أحد الأطباء عبر تويتر، أنه تعثر في آخر سنة له بدراسة الطب، وأثر ذلك على نفسيته كثيرًا؛ حتى أوشك أن يغادر الكلية مع قرب موعد التخرج، وهي مغادرة مؤلمة فالنتيجة المأمولة دانية تتدلى لولا عارض خطر على حين غرة. وكان من فضل الله على هذا الطالب الطبيب أنه في مجموعة طلابية بالكلية يرأسها د.العمير الذي اطلع على خبر تلميذه؛ وله الفضل بعد الله في اجتياز الطالب للأزمة، بتشجيعه ودعمه النفسي، وبجمال روحه وحس الفكاهة لديه في التوجيه اللطيف البعيد عن المباشرة أو الإيلام، وما أرق القلب الشفيق، واليد الحانية، وما أعظم آثارهما؛ فبدونهما لربما ضاع جزء من عمر صاحب القصة، أو تغيّر مسار مستقبله.

وللدكتور العمير حضور لافت في العمل غير الربحي، ويتبدى ذلك أجلى ما يكون في عمله المبكر عندما كان معيدًا مع أساتذة آخرين أسسوا الجمعية السعودية لطب الأطفال، وفي العمل رئيسًا لها منذ عام (1430) وحتى عام (1442)، ثمّ القيام على إدارتها التنفيذية عقب ذلك حتى يضمن انطلاقتها إلى ما يتمناه لها هو وجمهرة المخلصين معه، وإن العمل المجتمعي لدليل على حيوية أهل البلاد، وعلى مشاركتهم الفاعلة فيما ينفع الدار والديّار، وهي سمة غير مستغربة على رجل يضمر الإحسان، ويصنعه خفية.

أما على الجانب الشخصي؛ فنحن نعلم عن طبيبنا الكبير عصاميته وجديته، وبره الكبير بوالديه، وعلاقته المستطابة مع أسرته وبلدته ومحيطه، وسعيه في الخدمة الطبية وغير الطبية قدر مستطاعه، وعلاقته الحانية مع أولاده وبناته وأحفاده. ومن خبره إجادته المحكمة للغة الإنجليزية، وهضمه للمناهج التطبيقية والعلمية حتى لكأنه درسها بالأمس، ومنها دقته في أيّ عمل يتولاه، ومحاولاته اللطيفة في صرف الحديث الذي يتناول أشخاصًا غائبين بطريقة لطيفة، كأن يسأل المتحدث عن صحته وأحواله الخاصة.

ومن فرائد د.عبدالله العمير التي قّلما تتوافر في أمثاله، أن أنجاله الخمسةما شاء الله تبارك اللهتخصصوا في دراسات طبية، فمنهم أربعة أطباء، وأخصائي المجهر الطبي الإكلينيكي، وهذه أولية على مستوى منطقة الجواء، وربما أنها أولية بين كثير من زملائه في الكلية أو التخصص؛ ويحتاج الجزم بهذا القول لبحث دقيق لا يسعف على مثله الوقت، والله يطرح البركة فيهم جميعًا، ويحفظهم لوالديهم وأسرتهم ومجتمعهم الطبي ولبلادهم ومن فيها، ويجعل هذا التميز من مواضع الاقتداء، وسبل الاهتداء.

إن قصة الطب ممارسة وتعليمًا في بلادنا، ومثلها قصص نجاح ونهوض أخرى كثيرة في حقول شتى، لجديرة بأن يُلتفت إلى توثيقها، وسرد سيرتها، سواء أكانت سيرة المكان، أو الكيان، أو الإنسان؛ فبمجموع هذه السير يتألف تاريخ مهيب من الكفاح، والمصابرة، والتألق، والبهاء، وهو علم حقيق بأن يُتعارف به، ويصبح مشتهرًا بين العامة قبل الخاصة، وعند الناشئة قبل المكتهلين والأشياخ؛ ذلك أننا مجتمع يعرف للسابقين فضلهم، ولأصحاب الأوليات منجزاتهم، ولا يغمط أحدًا ممن يستحق حقه ومكانته.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 16 من شهرِ رجب عام 1444

07 من شهر فبراير عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)