الشيخ عبدالمحسن: العبّاد البدر!
هذه سير عذبة من أيّ نواحيها قصدت إليها، وتلك ذرية بعضها من بعض؛ ولعمركم إنه الشرف الباقي، والمجد الذي مثله يُرتجى، وما سواه فزائل وإن طال، وحائل وإن صال وجال، فكل شيء ما خلا الله باطل، وأيّ نعيم غير نعيم الجنة فهو زائل، ولا ريب أن الارتباط بالله الحق حق راسخ، وأن العلم والعبادة من أصناف النعيم الذي يؤدي بصاحبه بعد فضل الله وكرمه إلى الجنة، وهو نعيم ثابت باق، وعلى مثل ذلكم الحق تُعقد الخناصر، وإلى ذلكم النعيم الخالد يتسابق المتسابقون، وكم فيهم من عبّاد قانت متأله، وبدر في سماء العلم والدعوة والبيان.
وإن واسطة عقد هذه السير المستعذبة هو الشيخ المحدث عبدالمحسن بن حمد بن عبدالمحسن بن عبدالله الملقّب “عبّاد” بن حمد بن عثمان البدر، المولود في مدينة الزلفي عام (1353)، والمقيم حاليًا بمدينة النبي الأعظم، مجاورًا لمسجدها، ومغتنمًا فضل المحيا بها، والصلاة بالمسجد المضاعفة أجور الصلوات فيه، هذا غير الاسترواح بذكر الصالحين من الصحابة والتابعين والعلماء الذين سكنوا بها، أو قضوا شطرًا من العمر فيها، والتعبّد بانتظار إجابة داعي الرفيق الأعلى بمدينة نازلها خير خلق الله قاطبة عليه الصلاة والسلام.
فإذا أردنا التبصر بمصادر صناعة هذه الشخصية العابدة الزاهدة، وهذا الرجل العالم المعلِّم، سوف نجد من الملامح ما يفيد القارئ الحريص على النفع والبذر وخدمة الدين والأمة والبلاد. وأول شيء أن الشيخ نشأ تحت عين والده التقي الصالح، وسوف أذكر نبذة يسيرة من سيرته باختصار وأحيل على ملئ مثله يُتبع. وبعد الوالد والوالدة والبيت والبيئة المحيطة، نرى بوضوح أثر حلق تحفيظ القرآن الكريم، وكم في هاتيك الحلق المنتشرة في كل مكان من مشروع عالم ومصلح، وما أسعد الذين يعملون فيها تعليمًا وتربية وإشرافًا ومؤازرة مادية وإدارية ومعنوية، وما يدري الواحد منهم ما في خبايا الأقدار؛ فلربما كان بين يديه طفل سيصبح في يوم قادم من أعلام الأمة وعلمائها وأخيارها.
عقب ذلك يتجلّى لنا بركات العلم والعلماء ومجالسهم المحفوفة بملائكة الرحمن، وقد درس الشيخ أول الأمر على مشايخ بلدته وعلمائها، ومن أبرزهم الشيخ حمدان الباتل، وواصل الدراسة النظامية على كبر سنه مع افتتاح أول مدرسة بالزلفي عام (1368)، ورفض أبوه أن يشاركه الفتى عبدالمحسن في سفرة تجارية محدرة للكويت حتى يتفرغ الابن للعلم ومدارسته. وبعد انتقاله إلى الرياض والمدينة زاد في نهله من علماء كبار مثل المشايخ محمد بن إبراهيم، وابن باز، والشنقيطي، وعفيفي، والإفريقي، وإن للعلم نهمة لا يُشبع منها مهما أكثر المرء، وهو مسلك لا يُنتهى عنه، وطريق لا يُتوقف فيه وإن بلغ الإنسان في حصيلته العلمية ما بلغ؛ ففوق كل ذي علم عليم، ونحن أمة تحمل المحابر إلى المقابر.
ثمّ نبصر في حياة الشيخ ما يحدِثه التدريس، وإلقاء المحاضرات، ومتابعة القراءة، والتأليف، وصحبة أهل الشأن والجدية، من ثمار على صاحبها، ومجتمعه، فقد كان الشيخ عبدالمحسن حريصًا على أن يمضي عمره في التعليم والتدريس، ويبتعد عن القضاء لما فيه من حرج بالغ. لذلك عمل الشيخ بالتدريس في معاهد علمية، ومدارس ليلية دون مقابل، وفي جامعات شرعية، وكان أول من ألقى درسًا بالجامعة الإسلامية، وعمل مساعدًا لرئيسها، فرئيسًا لها بالإنابة عدة سنوات، وما أكرمها من حياة في معاهد العلم، وبين طلابه وأساتيذه ومكتباته، ولعمركم إنها لصحبة صالحة فيها الطيب والعطاء ولسان الصدق، ومنها يُحتذى كل أمر حسن، وخيراتها تتجاوز بلادنا الطاهرة، إلى أصقاع قصية من الكرة الأرضية.
ولا غرو بعد ذلك أن يكون لثمرة هذه المدخلات دروس علمية في الحديث والعقيدة على كرسي التعليم الجامعي منذ تأسيس الجامعة الإسلامية عام (1381) حتى انتهاء عمل الشيخ الرسمي فيها، إضافة إلى التدريس بالمسجد النبوي لأربعة عقود متواصلة في جميع أيام الأسبوع خلا يومًا واحدًا، ولم يتوقف هذا الجهد الذي سمعته آذان، ووعته قلوب، وتعلّقت به نفوس وهمم من بلدان شتى إلّا في الأيام الماضية؛ لأن الشيخ –أمتع الله به– دخل في عشر التسعين، وأصبح التحضير والاستعداد مجهدًا له، ومن توقير العلم منحه النفس كلها، واستفراغ الوسع في ذلك نصيحة وصدقًا وإخلاصًا وإحسانًا، ومن لم يستطع يفسح المكان لغيره وأجره على الله قد وقع بمنّة من العليم الخبير وفضل.
كما أنه من يانع الثمر ما ألقاه الشيخ أو كتبه عن علماء كبار مثل المشايخ ابن باز، وعمر فلاته، ومحمد بن عثيمين، وما نقله عنهم وعن صحبتهم وخبره معهم. ومنها الفتاوى الكثيرة، والمواد الصوتية، والموقع الإلكتروني الذي يحفظ قسمًا من جهود الشيخ العلمية التي احتسب في أدائها وتبليغها وبيانها، ولعله من البر العلمي بالشيخ وإرثه أن تُجمع تلك الدروس والفتاوى، ويعاد تهيئتها للطباعة والنشر؛ فالمكتوب أبقى غالبًا من سواه.
كذلك من هاتيك الثمار سمة الزهد والخفاء، والانصراف عن الثناء والبروز، فقد عُهد عنه إنكار بعض القصص والمرويات التي تُساق في المحافل على اختلاف درجاتها في الموثوقية؛ فمَنْ من الناس يسمع المناقب تُقال عنه فينكرها ويردها؟! ومع جفوله من ذلك فيما يخصّ ذاته حتى أنه يرفض نشر صورته؛ إلّا أنه كثير الوفاء والثناء على أشياخه ورفاق دربه العلمي والتعليمي. ومنها امتناعه عن استخدام سيارة الجامعة بالمدينة النبوية في شؤونه الخاصة، وبعد نهاية عمله الرسمي رفض ركوب السيارة كي يعود لبيته بعد آخر يوم عمل؛ وإنه لمثال في النزاهة والأمانة جدير بأن يُظهر وبه يُقتدى. ومن حكمة الشيخ أنه استنكر على بعض الوعاظ وطلبة العلم استخدام ألفاظ لا تليق بهم مثل “عندي“، و “أرى“، وأمثالهما، وقد حفظنا أن مصاحبة الأشياخ يُقتبس منها السمت والأدب والنهج قبل العلم والفهم.
ومع جدية الشيخ وصرامته إلّا أن له نصيبًا من المزاح المباح، ومن هذا الباب المستملح ما رواه الشيخ أنّه يداعب الشيخ عمر فلاته حول مقدار عمره، وأنه لا يظهر عليه الكِبَر، وفي سنة من السنوات ترافقا في الحج، ودخلا إلى مخيم التوعية بعرفات، وإذا فيه رجل قد ابيضّ منه كلُّ شيء حتّى حاجباه، فقال شيخنا للشيخ عمر: هذا من أمثالك كبار السنّ! وبعد أن جلسا خاطب ذلك الرجل الشيخ البدر قائلًا: أنا تلميذ لك إذ درّستني في مدرسة ليلية ابتدائية في الرياض –سنة 1374هـ تقريبًا–، فوجد الشيخ عمر رحمه الله مقولة ذلكم الرجل مناسبة ليقلب الموضوع على الشيخ عبدالمحسن، وأخذ يكرّر مخاطبًا ذلك الرّجل: أنت تلميذ الشيخ عبدالمحسن؟
إن الشيخ عبدالمحسن يتوسط المقام بين والده العابد الصالح الشيخ حمد (1328-1428)، وبين نجله العالم، والأستاذ الجامعي، وصاحب الدروس والبرامج النافعة، والكتب الموفقة، الشيخ د.عبدالرزاق الذي كتب ترجمة وفيّة لجده، ونشرها بموقعه، ويمكن الاطلاع عليها هناك كاملة؛ ففيها طرف من حرص الجد الشيخ على التبكير للصلوات حتى أن تكبيرة الإحرام لم تفته سنوات عددًا تصل إلى عقود، وسابق إلى رفع الآذان، وبناء المساجد، ومتابعة شؤونها، وغوث أصحاب الحاجات، وإدامة ذكر الله، وإطالة الصلاة حتى مع كبره وضعفه، والإكثار من الصدقة على أنه ليس من أهل الثراء، وغير ذلك من حميد السجايا والخصال.
فلا عجب بعيد ذلك أن نسعد بهذه العراقة في العلم والإيمان ونفع الناس كافة، ونقول باعتقاد وفخر غير مذموم ولا مستنكر: إنها ذرية بعضها من بعض، وذلكم الفضل، وتلكم الخيرية، وهذا هو المغنم الذي لا يبلى ولا يوهب ولا ينزع، وإن الباب إليه لمشرع، والطريق سالكة، والدروب لاحبة مستبينة، والله يعين وييسر ويسدد، ومن جود ربنا ورحمته أن كتب النضارة لمن بلّغ العلم والآيات والأحاديث وإن كانت آية واحدة، ونسأل الله أن يكون هذا من عاجل بشرى شيخنا وآثاره.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الثلاثاء الثاني من شهرِ رجب الحرام عام 1444
24 من شهر يناير عام 2023م
2 Comments
ماشاءالله تبارك الله كفيت و وفيت
وحقيقة اسلوبك و عباراتك وطريقتك في العرض صرفتني عن أي معلومة من المقال و صرت فقط اتامل في العبارات
نفع الله بك و جعلك مباركا حيث كنت
أحسن الله بك شيخ أحمد
فمدونتكم ما تزال تنوه بأصحاب الفضائل والمكرمات
أدامها الله من مدونة وأدام صاحبها وألبسه لباس التقوى