سير وأعلام

عبدالعزيز الهلابي: المؤرخ الأنيق الآسر!

عبدالعزيز الهلابي: المؤرخ الأنيق الآسر!

يكاد أن يتفق جميع مَنْ كتب أو تحدّث أو أجاب عن أسئلتي على أن الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن صالح الهلابي رجل أنيق للغاية في ملبسه ومسكنه ومكتبه ومشيته وألفاظه، وأنه رزين راقٍ في مكتوبه ومقوله، وفي مراميه ومعانيه، وإبان محاضراته ومداخلاته، وعند حضوره المهيب بسمت حتى وإن صمت مكتفيًا بالاستماع المنصت، وهي لعمركم صفات جميلة تكسو صاحبها جمال الأخلاق، وتهبه جلال العلم قبل أن تراه العيون؛ فإذا ما رأيته وجلست إليه أصبح الخَبر خُبرًا معاينًا، وعلى مثله يشهد المرء ضامنًا ألّا يفسد شهادته مغمز، أو أن يجد لقوله تفنيدًا.

وإذا أردنا تتبع المسيرة العلمية والعملية للبروفيسور الهلابي، فسنجد أنه درس اللغة العربية أولًا ثمّ أكمل مشواره العلمي العالي في التاريخ بجامعة بريطانية عريقة، حتى أصبح من مؤرخي العهد النبوي والراشدي والأموي على وجه الخصوص، ولم يقف عند هذا الحدّ الزمني؛ إذ سمت به همته وإحساسه الوطني إلى البصر بتاريخ بلاده، ودراسة بعض أماكنها، والتعريف بعدد من شخصياتها العلمية والسياسية، وإفادة أجيال من المؤرخين والباحثين، وخدمة مؤسسات علمية وبحثية وإعلامية وثقافية.

وقد شارك أستاذنا في ميدانه العلمي المهم من خلال التدريس، والتأليف، والتحقيق، والترجمة، وكتابة البحوث ونشرها، وإعداد الدراسات المصبوغة بالوفاء عن زملائه المؤرخين وإنتاجهم العلمي، إضافة إلى إلقاء المحاضرات والندوات، والمشاركة في أعمال لجان علمية مختلفة الهدف وإن كانت تحوم حول العلم ومحيطه الشريف، حتى أن جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية قلّما تخرج في منح الجائزة عن ترشيحات لجنة من أعضائها البروفيسور أبو صالح.

كما يحفظ السجل العلمي للأستاذ الدكتور عبدالعزيز الهلابي جهوده المباركة في التدريس الجامعي والعالي، ومساعيه مع رسائل علمية عليا إن بالإشراف أو المناقشة، أو ببذل العون الصادق بلا منّة ولا تأخر للدارسين، وله في نقاشاته العلمية وحواراته الثقافية خصلة رفيعة أبان عنها أستاذ اللغة البروفيسور أبو أوس الشمسان حينما كتب بأن ملاحظات المؤرخ الهلابي دقيقة لا تخلو من قسوة الحق؛ لكنها محوطة بهدوء الطرح وروية الأداء، وما أحوجنا لمن هذا ديدنه، وهو منهج لمن كان الحقوليس غير الحقرائده الأول والأخير حسبما يعتقده، وما أندرهم!

أيضًا من إسهاماته الرفيعة ما يشار إليه بإكبار عن جهده التأسيسي للجمعية التاريخية السعودية، ثمّ لكرسي الملك سلمان بن عبدالعزيز لدراسة تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها؛ ولذا أصبح أ.د.الهلابي أول مشرف عليه، ويضاف لذلك أعماله مع مركز حمد الجاسر، ومجلسه الأسبوعي، ومجلة العرب الدورية، وكونه أحد المحررين الأساسيين لأطلس السيرة النبوية، ولموسوعة الملك عبدالعزيزعجل الله إتاحتها ورقيًا للشراء-.

ومنها عضوياته التي تجاوزت العشرين؛ إذ يسعى إليه المؤرخون ولجانهم وجمعياتهم وندواتهم وبيئاتهم العلمية، وإن عالِمنا ومؤرخنا لمثل مشيته التي يخطوها بأناة رويدًا رويدًا، بيد أنه يجيء في الأول، وعليه فلا غرابة أن يغدو أول أستاذ جامعي سعودي يكرم وهو على رأس العمل بكتاب يشتمل على اثنتي عشرة دراسة من قبل زملائه أساتذة التاريخ، وقد طبعت على نفقة الجمعية التاريخية فيما بعد.

ومع قلة المطبوع من الكتب باسم البروفيسور الهلابي، إلّا أن رصيده المكتوب غزير وثمين، وليته أن يُجمع في كتب مطبوعة؛ كي يغني المكتبة التاريخية العربية، ويثري الكتاب السعودي، ويزيد من عدد الكتب التي ألّفها أبناء بلدته التاريخية العريقة عيون الجواء، ويسهل الوصول إليها من قبل الشداة فمن فوقهم، هذا غير ما في هذا المسلك المطروق من علم، وأجر، وخلود، وعسى أن نراها كذلك في قريب عاجل، وما أحراها بأن تتسابق للفوز بطباعتها المؤسسات المختصة بالتاريخ سواء المستقلة أو المرتبطة بالجامعات؛ فكل الصيد في جوف الفرا.

أما السجل العملي الحافل لمؤرخنا أ.د.عبدالعزيز بن صالح الهلابي فسوف نرى فيه أنه واصل التدريس عقودًا متوالية في تخصصه، وأسندت إليه وكالة كلية الآداب، وعمادة شؤون المكتبات، ومن خلالها أشرف مع زملائه على إقامة معرض أو معرضين للكتاب، ولربما أنه من أسعد منجزاته العملية، وأقربها لنفسه في سنوات العمادة. ولم يطل مقامه في رئاسة قسم الإعلام الحديث إنشاؤه آنذاك، فتركه بعد عام واحد من إدارته ذلك أن اللغوي المؤرخ لا يرتاح بين صخب الإعلام وأضوائه! وفي سنوات عمله الجامعي حفظت عنه المساعدة في بناء المقررات، ومحتويات المناهج، بما ينفع الدارسين، ويكثر السمين الصحيح، ويقصي الغث ولو سبقه البريق الخادع.

إن النظر الدقيق فيما يلفت الانتباه بسيرة أ.د.الهلابي حسبما قرأت وسمعت ولاحظت، يقودنا إلى رأي خلاصته أن الرجل قد حباه الله بالعقل مثل المكرمين من أبناء آدم عليه السلام، ثمّ امتن الله عليه بزيادة في ذلكم العقل بفضل دراسة اللغة التي روي أنها تزيد من عقول أهلها وهي كذلك غالبًا، ثمّ أضاف إلى هذين العقلين عقلًا ثالثًا استقاه من التاريخ رواية مستوثقة، ودراية فاحصة، إذ جمع المرويات، وعرضها، ونقدها، واستخلص ما يطمئن إليه منها، دون أن يحجبه تقديس غير مقدس، أو إقدام لا يُحمد في مثل مواضعه الإحجام، فحاز مع هذه العقول منطق التاريخ وحكمته، دون أن يثلم دينه، أو يزري بمكانته العلمية.

ولربما أن أناقة اللغة والأدب التي تنعم بها آداب أمتنا شعرًا ونثرًا قد أفاضت عليه ما يُرى منه في شأنه كله دقيقه وجليله من أناقة وسمو، ولربما أن تجارب التاريخ قد أضافت إلى حياته المباركة الكثير من العبر والحكم، فغدا أينما حلّ هو الرجل الهادئ طبعه، الوقور حضوره، والأستاذ الغزيرة علومه، الحكيمة طرائقه، اللطيفة ردوده، ولاريب عقب هذا أن يصبح بعيدًا عن استجلاب العداوات، أو الدخول في وحل المناكفات، على أن ذلك كله لم يمنعه من سوق رأيه المستقر في نفسه؛ وإن خالف سواه لكن بأدب جم، وعلم بيّن، وحجة واضحة، وإنه لبعيد كل البعد عن أيّ منازلة أو مشاحنة.

أمتع الله بعلوم الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الهلابي وبمنهجه وعمره، فقد اجتمعت فيه أمشاج أسرتين نسيبتين عريقتين، ومن خلفهما بالنسب والمصاهرة أسر مثلهما بالنبل والفضل، ونال تربية بيتية ومجتمعية جادة صارمة؛ فصيرته كذلك في الصلابة والإصرار دون أن يفقد الرفق أو اللين. وأسأل المولى أن يلبسه دومًا لباس الصحة والعافية، وأن يعينه على الدفع بكنوزه العلمية إلى العلن المطبوع للمختصين وسواهم، وأتمنى فوق هذا كله أن نشاهد له ما يستحقه من تبجيل وتقدير، إضافة إلى ما صدر عنه أو حوله من ملفات وكتب للاحتفاء بمقامه والإشادة بجهوده وعلومه؛ وما هذه الأمنية بالعسير تحقيقها على أولي العزائم والبصائر والوفاء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الجمعة غرة شهرِ جمادى الأولى عام 1444

25 من شهر نوفمبر عام 2022م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. بارك الله فيك في فيما سطرته عن العم أبوصالح ونحن الذين نهلنا من علمه وخلقه كان قدوة لنا في زمن شح فيه القدوات الله يمتعه بالصحة والعافية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)