لغة وأدب مواسم ومجتمع

وعاد عنترة إلى الجواء!

الجواء

وعاد عنترة إلى الجواء!

ثقافة المكان في الجزيرة العربية غزيرة جدًا، حفظتها لنا أشعار العرب وخطبهم، وقصصهم ومروياتهم، وهي جزء أصيل من ثقافة أيّ مجتمع، ومكون ركين لأيّ حضارة، وعلاقتها متينة باللغة والعادات والتاريخ والمصير. وحين امتن الله علينا بالإسلام أضيفت لهذه الثقافة مزايا تتقاتل على مثلها الحضارات؛ إذ ضُمن للعربية البقاء والحفظ بالقرآن العزيز والسنة المطهرة، وصارت أرضنا مقدسة أو أكثر قداسة بما شرع الله لها من أحكام وخصائص، وشهدت نصوص ديننا للعرب بمكارم أخلاقهم وجميل فعالهم حينما أعلن النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام أنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق؛ بتأكيد فعل أو ترشيده أو الحض عليه.

فلا غرابة والحال هذه أن يكون للمكان علاقة بطبائع أهله، وما يعتلج في نفوسهم، ومن العجيب أن الذين يدندنون حول خشونة أبناء الصحراء، يتعامون عن لذيذ شعرهم الغزلي العفيف من جنس بوح عنترة لمحبوبته بشعوره وهو في معمعمة المعركة:

وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِلٌ ***** مِنِّي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمِي

فَوَدِدْتُ تَقْبِيلَ السُّيُـوفِ لأَنَّهَا ***** لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ الْمُتَبَسِّـمِ

كما يسكت أولئك عن صنيع الفارس الرحيم مع حصانه بالتسلية وجبر الخاطر، حتى وهو لا يدري ما المحاورة، ولا يعلم الكلام، ولا يحسن الشكوى! ومن العُجاب أن الذين يصرون على وصف حياة الجزيرة العربية بالفقر والبداوة يغفلون عن التصاوير الفنية العجيبة الظاهرة في شعر العرب ونثرهم، وربما تغيب عنهم الأفكار والحكم الحاضرة في إرثهم الضخم، مع أنها لم تكن أمة علم أو كتابة، وَالكُفْرُ مَخْبَثَـةٌ لِنَفْسِ المُنْعِـمِ كما يقول عنترة، والجحود شقيق الكفران.

أسوق هذه المقدمة بعد أن سعدت بخبر اعتزام وزارة الثقافة إقامة مناسبة ثقافية عن الشاعر العربي الشجاع عنترة بن شداد الأسبوع القادم في مدينة عيون الجواء بالقصيم، وهي التي ذكرها بشعره هو وغيره، كما ذُكرت مواضع أخرى تغنى بها الشعراء. وإن التعريف بالمكان وحدوده وسكانه وطبائعه وقصصه وأشعاره وأمثاله لفضيلة سابق إليها علماء وأدباء ومؤرخون ولغويون مثل الجاسر والعقيلي والجنيدل والعبودي والبلادي والجهيمان وابن خميس وغيرهم من الراحلين أو المعاصرين، والله يتقبل منهم، ويعينهم، وما أسعدهم بالأجر، والسير على طريق منير شريف فيه أبو عمرو بن العلاء، والأصمعي، وياقوت الحموي، وسواهم من علماء أمتنا.

إن هذا الإرث العظيم للمكان يحسن معه الإشارة إلى إمكان استثماره سياحيًا بما يعود بالنفع على البلاد وأهلها، وبما يفيد الزوار في دنياهم وفي دين من وفقه الله للهدى منهم. ومن الاستثمار الثقافي إقامة معاهد خاصة لتعليم اللغة العربية، وسوف تجد في الغالب إقبالًا لأسباب علمية أو تجارية أو سياسية، ومن عرف عن كليات اللغة العربية في كوريا والصين فضلًا عن أوروبا وأمريكا سيوقن بفرصة نجاح كبيرة لمثل هذا المشروع، ومن أحق بلغة العرب منا؟ ومنها معاهد الخط، ومعامل المخطوطات، وإتاحة الدراسات العليا، وغيرها.

أما على الصعيد الداخلي فمن الجميل الارتقاء بالذائقة السمعية واللغوية لدى الطلاب والشباب من الجنسين إلى مثل معلقة عنترة وأصحابه؛ كي لا يغدو أبناء العرب الخلّص أشبه بالأعاجم الحائرين أمام فرائد لغتهم العظيمة. ومنه الاقتباس من مضمون ذلكم الإرث الضخم بما فيه من أخلاق أصبحت من العبادات، ومكارم يجدر التحلّي بها، هذا غير الوعي، والمنطق، وحسن العرض، وباهر البيان، وإنها لمكتسبات ثمينة تغني الناشئة والشباب في أذهانهم وألسنتهم وأرواحهم، وسيغدو لها من حميد الأثر ما يبدو ولا يضمر.

فكيف سيكون حال ناشئة وفتية شداد في الدفاع عن دينهم القويم وتعاليمه، وفي الذود عن وطنهم ومصالحه، وهم يسمعون شاعرهم الفذ عنترة عندما يقول:

أَثْنِي عَلَيَّ بِمَا عَلِمْتِ فَإِنَّنِـي ***** سَمْحٌ مُخَالَطَتِي إِذَا لَمْ أُظْلَـمِ

فَإِذَا ظُلِمْتُ فَإِنَّ ظُلْمِي بَاسِـلٌ ***** مُـرٌّ مَذَاقَتُـهُ كَطَعْمِ العَلْقَـمِ

وأيّ سمو خلقي يتبدى في تصريحه:

يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الوَقِيعَةَ أَنَّنِـي ***** أَغْشَى الوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ المَغْنَمِ

وسنجد الانتصار على النبذ والاحتقار وهما من طبائع البشر، في شدو عنترة البين أثره لمن صبر وصابر:

وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا ***** قِيْلُ الفَوارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْـدِمِ

وإذا كان غضّ البصر عبادة؛ فهو مع ذلك شيمة أهل النبل والغيرة وحسن الجوار، وها هو المغوار ينشد:

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ***** حتى يواري جارتي مأواها

وما أقوى من تغلّب على دواعي التشفي والحقد والحسد، وما أحراه بالعلى والتقدمة، ومن نصح شاعرنا الصريح لنا:

لا يـحمِل الـحِقد مـن تـعلو بِـهِ الرُّتب ***** ولا يُـنـال الـعـلى مِـن طـبعه الـغضِبُ

كما يستبين رفض الفارس القاطع للمذلة والمنقصة حتى لو عاش بحطام قليل، أو في ظلّ العز يومًا واحدًا تاركًا خلف ظهره ألف عام من الذل والمهانة، ويصنع ذلك قانعًا به وإن سقته خياراته كأس علقم، وأنزلته منزلًا غير مريح. وهي من المعاني البارزة في شعر ابن شداد وزبيبة، ولأجل هذا قرأت مرة أن رجلًا من وجهاء الأندلس عبر من جوار نخاس يحفّظ غلمانه شعر عنترة قبل عرضهم للبيع؛ لأن الغلام الأديب عالية قيمته؛ فنهر الوجيه النخاس، وقال له: لا تروِّهم شعر عنترة وأمثاله كي لا تدركهم العزة والإباء فيعسر علينا إخضاعهم، ثمّ اقترح عليه بديلًا بأن يشغلهم بشعر المجان والمغرقين بالغزل وأضرابهم؛ ليصبحوا ألين عريكة وأسهل في التوجيه.

بناء على ذلك أتعجب ممن يزهد بهذه المآثر النفيسة ولا يلتفت إليها؛ بينما سمعت خطيبًا عربيًا نال جائزة شعرية، يعلن من فوق منبر تلكم الجائزة سعادته البالغة؛ لأنه يخطو على الأرض التي عاش فيها شاعره المفضل، وتسابق المستشرقون لدراسة أدبنا مع صعوبة لغتنا عليهم. وحسنًا ما فعلته وزارة الثقافة بلفت النظر إلى كنوز المكان ومن ارتبط به عبر الزمان، وأصابت أن شملت بعملها جوانب حياة فارسنا وشاعرنا، ولم تقصر الجهد الضخم على شيء دون شيء، وأتمنى أن تعود مثل هذه المناسبات بالفائدة على البلاد بأسرها، وعلى سكان المواضع بوجه الخصوص، وأثق بأن تلك الغاية من الأهداف الأساسية لهذه المبادرات التي تخلط الثقافة مع الإمتاع والسياحة والتدبير المالي.

يبقى أن أشير إلى أن عنترة بن شداد لو عاد في زماننا هذا؛ لربما جعل معلقته المكونة من تسعة وسبعين بيتًا في الافتخار بالدين القويم الذي أقصى الجاهلية، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنار أرجاء جزيرته فما بعدها. وسيكون في شعره الجزل نصيب غير منقوص للانتصار لدين رب الأرض والسماء، ودعوة أتباعه إلى الاستمساك الرشيد به، فهو قدرهم الذي جعل أرضهم منطلق الدين المهيمن، وموئل نزول القرآن المعجز، ومهاجر نبيهم الخاتم، ومأرز الإيمان آخر الزمان، وفيه الحرز والأمان من الدجال، وحقيق بهم أن يتمثلوا معه ما حكاه عنترة يومًا من غابر الأزمان لحبيبته الأثيرة:

وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلا تَظُنِّـي غَيْرَهُ ***** مِنِّي بِمَنْزِلَـةِ المُحَبِّ المُكْـرَمِ

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 27 من شهرِ ربيع الآخر عام 1444

21 من شهر نوفمبر عام 2022م

Please follow and like us:

One Comment

  1. التفاتة من عينيك نحو الحدث تثير الاعجاب! تدعونا للتأمل بشجاعة فارس نجد والجواء الذي صنع المستحيل، دحرَج ثبات الصخرة ومشى إليها، كانت معراجهما للقاء، قصة تختصر سيرة الخلود في معاجم الحب، تتقرّى التضاريس وتقيس مسافات البعد على قربهم، أجمل مافي قصة عنترة! أن دائرة الحب تأخذ في الاتساع لايمكن لها أن تضيق، روّض عذاباته بذكرى طيفها، استمد الشجاعة من رؤيتها، خفق بأجنحة الحنين بقصائده نحوها، خلع رداء الخوف مواجهًا للموت متدثرا بضحكتها..
    بسطت هذه المقالة الضوء بشكل إبداعي على مرحلة امتازت بهذه المآثر النفيسة، وحقيق بالأوفياء يتمثلوا ما حكاه عنترة يومًا من غابر الأزمان لحبيبته الأثيرة: قاطعًا وعده لها بأنها نزلت من قلبه منزلة من يحبها لا يحب سواها يقينًا قاطعًا غير قابل للشك…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)