كأس العالم ليس رياضة فقط!
طبعًا الرياضة بأسرها ليست مسألة رياضية صرفة وإن حاول كبار أهلها إيهامنا بأنها كذلك، ومحاولة قصرها على هذا الجانب ولو في الظاهر فقط؛ وإنما خصّ كأس العالم بالعنوان لقربه زمنيًا، وأهميته في الأخبار، وشغف الناس عمومًا بكرة القدم حتى عدّها أحد الأدباء العرب الكبار شبيهة بالمخدّر. والحقيقة أنها تجمع النقيضين؛ فهي ذات أثر تنشيطي لمن وعى وتأمل، ولها آثار معاكسة بإحداث الانشغال والبعد عن الأحداث، والله يجعلها مع جميع الأعمال أسباب خير ونفع.
أما إذا أردنا التفصيل؛ فسوف نجد أن للرياضة منافع اقتصادية كبيرة دائمة ومؤقتة، محلية وإقليمية ودولية، وتتداخل مع قطاعات عديدة حتى غدت الرياضة صنعة كثيرة التعقيد فائقة التنظيم، وهي عالم شبكي مترابط متداخل مثل الشباك الحاضرة في أنواع عديدة من الرياضات، وشباكها ماهرة بالصيد كما لا يخفى. وللرياضة إذا أُحسنت إدارتها وأُجيد تدبيرها عوائد حسنة على الفرد والمجتمع والحكومة، والأمر لا يقتصر على كرة القدم؛ بل يشمل جميع أنواعها، ومن الحنكة أن تهتبل فيها الفرص، وتغتنم الغفلة عن بعض جوانبها للسبق والتميز.
والله يكفينا السياسة وشرورها، فكأس العالم أقيم أصلًا بمناسبة مرور مئة عام على استقلال الأورغواي، وعندما تمت نسخته الأولى عام (1930م) في الأورغواي، وأقيمت الثانية عام (1934م) في إيطاليا، كانت دول القارة اللاتينية تعتقد أن الثالثة عام (1938م) ستصبح في ديارهم؛ وقد غضبوا أن لم يكن وفازت بتنظيمها فرنسا! ولم تبرح السياسة تتلّعب بالرياضة؛ ففي عام (1978م) اعترضت منظمات ودول على استضافة الأرجنتين للكأس بسبب سجل حكومتها العسكرية السيء نحو الإنسان الذي كرمه الله، وجعلت له الأمم المتحدة بعض الحقوق. والاعتراض ديدن مستمر إلى يومنا دون جدوى فيما مضى، وستبقى الرياضة في مرمى مناكفات السياسة دومًا وأبدًا؛ فهي مثل حسناء مهياف، أو غرٍّ رقيق الجناح، ابتلاه الله بأن حصر طريقه غدوًا وعشيًا في أدغال يرتادها الوحوش والكواسر!
ومما يلحق بالسياسة الحروب عجل الله بنهايتها وحمانا وبلادنا من غوائلها ومن العدوان عامة؛ فالحرب لغة سياسية أخرى بجوار الدبلوماسية والتفاوض والمؤتمرات وأمثالها. ومن هذا الباب لم تشارك إسبانيا في مسابقة عام (1938م) لانشغالها بحربها الأهلية أجار الله المسلمين والمسالمين منها. وتوقفت مباريات كأس العالم لاثني عشر عامًا بعد انقضاء نسختها الثالثة عام (1938م)؛ وذلك بعد حجبها عامي (1942م و 1946م) لوقوعهما ضمن سنوات الحرب العالمية الثانية أو عقبها مباشرة.
لذلك ظلّت إيطاليا محتفظة بالكأس مدة ستة عشر عامًا متوالية؛ لأنها فازت به منذ عام (1934م)، ولم تفقده حتى أقيمت رابع بطولة عام (1950م)؛ ففازت فيها البرازيل قاطعة المسيرة الإيطالية، علمًا أن المنتخب الإيطالي هو أول منتخب يحرز البطولة مرتين متتاليتين في نسختي عامي (1934 و 1938 م)، ثمّ تبعه منتخب البرازيل الذي فاز في عامي (1958 و 1962م)، وهما أكثر منتخبين فازا بالكأس مع ألمانيا. وبعد فوز البرازيل به عام (1970م) أصبح أول من يجمع بين ثلاث بعد فوزه على منافسه منتخب إيطاليا، وهو الأمر الذي تكرر باجتماع المنتخبين في نهائي عام (1994م) ففازت البرازيل بركلات الترجيح وبالكأس للمرة الرابعة، وأخيرًا انفردت البرازيل بفوزها بالكأس خمس مرات، وبحضورها في جميع نسخ كأس العالم، ولا غرابة أن يكون هذا حال البرازيل إذا علمنا أنها تشارك هذه السنة بستة وعشرين لاعبًا جميعهم يلعبون خارج البرازيل إلّا ثلاثة فقط!
ومن طريف ما يروى أن نائب رئيس الاتحاد الدولي ورئيس الاتحاد الإيطالي لكرة القدم الدكتور “أوتُرينو براسي” سارع إلى إخفاء الكأس العالمية الثمينة في صندوق حذاء مهين وإن غلا سعره! ووضع الصندوق الذي يحوي الكأس ويحميه تحت سريره طيلة اشتعال الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، وبتلك الكيفية الغريبة صانها من الوقوع تحت أيدي قوات الاحتلال أو غيرهم من السراق، والشيء بالشيء يذكر إذ سُرق الكأس أو فُقد عام (1966م) في بريطانيا إلى أن وجده كلب فأنقذ الإنجليز، ومن عجب أن يتهافت الناس على كأس هذا بعض خبره!
كما أن للرياضة مساس شديد بالثقافة والحضارة؛ فمن ذلك أن دولة الهند حينما استضافت مناسبة دولية أعطت الوفود المشاركة دليلًا في التعليمات والمحظورات كي لا ينجرح المجتمع الهندي الشرقي بثقافته ومبادئه من الحرية الغربية أو الانفلات في حضارات أخرى. وكم من مرة ومرة هتفت جماهير الرياضة بالتكبير والصلاة على النبي أو تأييد بعض اللاعبين، أو بما يغضب الفيفا وغيرهم؛ ولكن من يستطيع إصمات الصوت الناطق بما يجيش في نفوس الناس؟ وقد يلاحظ المتابع استخدام اللاعبين إشارات ثقافية على الأيدي والشعور، أو أداء حركات حين تسجيل الأهداف مثل رقصة السامبا، أو رقصات إفريقية، أو تصويب البندقية، أو الطحن، ويتخذ آخرون شعارات على قمصانهم الداخلية، ويظهرونها بمناسبة أو بدون مناسبة!
كذلك نجد في الكأس شيئًا من الكيل المجحف بحقّ آسيا وإفريقيا من ناحية قلة عدد المنتخبات المشاركة حتى أن جلّ منتخبات القارتين انسحبتا عام (1966م) غضبًا من تلك القسمة الضيزى! ومما أثار حفيظتهم ابتعاد الاستضافة عنهم مدة من الزمن حتى حلّت عام (2002م) مناصفة بين كوريا الجنوبية واليابان وهي أول استضافة مشتركة بالمناسبة، ثمّ في جنوب إفريقيا عام (2010م)، وأخيرًا جاءت البطولة إلى قطر عام (2022م). ومع اقتراب موعدها يزداد التشكيك والتشويش، والله يقدم الأصلح لعباده وبلاده، ويعيذنا من الزلل وصرف المال والوقت فيما يجلب الخلاف والتنغيص.
ومن العنصرية البيّنة في تاريخ كأس العالم ما صنعه منتخبا ألمانيا والنمسا عام (1982م) لحرمان الجزائر من التأهل عن المجموعة إلى الدور الثاني من المباريات بعد أن عرفوا نتيجة مباراة سابقة، وأمضوا مباراة كئيبة يتداولون الكرة فيما بينهم؛ حتى أن الفيفا قرر إقامة المباريات بالتزامن منعًا لمثل هذا التصرف التآمري. ولأن أمريكا اللاتينية مهمة لدى الفيفا سعى الاتحاد الدولي لإرضائها جاعلًا مقر كأس عام (1962م) في تشيلي، بينما انتظر الفيفا نفسه أربعين عامًا بعد هذا الاسترضاء، قبل أن يسترضي آسيا وإفريقيا بعد مضي اثنين وسبعين عامًا على إقامة أول كأس!
أيضًا من العنصرية ووهم الفوقية أن إنجلترا منعت لاعبًا يحمل جنسيتها من المشاركة مع منتخبها في الكأس؛ لأن أصوله إفريقية مع استحقاقه وبراعته الكروية، ثمّ عادت لتكريمه والاعتذار إليه بعد وفاته، ومن اللافت في هذا الباب أن منتخب فرنسا يكاد أن يكون منتخبًا إفريقيًا بسبب وجود عدة لاعبين مؤثرين من إفريقيا يحملون جنسية دولة الاحتلال والنهب لخيرات بلادهم سواء في باطن الأرض وظاهرها، أو في أقدام أبنائهم!
وحتى تظهر العنصرية والتحيز يناسب الإشارة إلى أن بريطانيا شاركت بأربعة منتخبات عام (1958م) هي إنجلترا، وويلز، واسكتلندا، وإيرلندا، بينما كان نصيب قارات كاملة آنذاك لا يتجاوز منتخبًا أو اثنين! ولإكمال المعلومة فهذه هي المرة الأولى والوحيدة التي تشهد مشاركة جميع ممثلي الكرة البريطانية. وأتصور لو أن البطولة أقيمت في دول ترفض الإملاء، ولا يشعر الغرب بعنصرية تجاه أهلها ودينهم، لما تجرأت منظمة ولا دولة على المطالبة بحق حرية التعبير للسكان الأصليين، وحرية رفع أعلامهم الوطنية في بلد محتل، كما يصنعون الآن مع الشواذ، والخمور، وأيّ محرم في ديننا، ولعلّ الرياضة أن تزيد بصيرتنا بالإجحاف والتطفيف والكيل المزدوج.
أما أخبار الكأس المتفرقة فمنها أن أول بطولة شارك فيها ثلاثة عشر منتخبًا دون مباريات تصفية، وصاحب أول هدف لاعب فرنسي هو “لوسيان لوران” واستقبلته شباك المكسيك، بينما طال عمر الأرجنتيني “فرانشِسكو فَرايو” وأصبح آخر لاعب توفي ممن شاركوا في الكأس الأولى بعد وفاته عام (2010م) مما يعني أنه عمّر طويلًا. وفي عام (1974م) حصل لاعب منتخب تشيلي “كارلوس كَزالي” على أول بطاقة حمراء في تاريخ الكأس. وأول بطولة يشارك فيها اثنان وثلاثون منتخبًا هي التي أقيمت في فرنسا عام (1998م)، وشهدت تسجيل مئة وواحد وسبعين هدفاً، وهو أكبر عدد إجمالي للأهداف في بطولة واحدة.
بينما فازت نسخة عام (1954م) بكونها أعلى معدل لتسجيل أهداف بمعدل خمسة أهداف لكل مباراة، خلافًا لبطولة عام (1990م) التي أصبحت باهتة مملة لقلة أهدافها التي لم تتجاوز هدفين لكل مباراة، ولكثرة البطاقات الحمر فيها إذ بلغت ست عشرة بطاقة. ومع أن أول نقل تلفزيوني للمباريات بدأ عام (1958م) إلّا إنه كان نقلًا جزئيًا وليس لجميع الدول؛ وصارت بطولة عام (1970م) هي أول نسخة تتابع جماهير الكرة جميع مبارياتها مباشرة أينما كانوا، وفي تاريخ الكأس لاعبون صغار في السن أشهرهم البرازيلي “بيليه” الذي لعب وهو دون الثامنة عشرة، وفي هذه النسخة تشارك في التحكيم ست نساء لأول مرة، ثلاث منهن حكام ساحة!
وأول مشاركة لمنتخبنا السعودي في الكأس جاءت في عام (1994م) بأمريكا، علمًا أن منتخب الكويت هو أول منتخب آسيوي يشارك في البطولة عام (1982م)، بينما نال منتخب مصر الأولية العربية على الإطلاق حينما شارك في نسخة عام (1934م)، وتلاه منتخبا المغرب فتونس عامي (1970 و 1978م). وبعد مشاركة تونس عام (78م) لم تنقطع المنتخبات العربية عن المشاركة، وفي نسخة عام (2018م) في روسيا حضرت أربع منتخبات عربية، وفي البطولة القريبة سوف تشارك أربع منتخبات كذلك.
ومما يشار إليه أن أكثر المنتخبات العربية حضورًا هي السعودية والمغرب وتونس بواقع ست مشاركات لكل منتخب منها، ومجموع المشاركات العربية تسع وعشرون مرة من تسعة منتخبات، أربعة منها خليجية، وأربعة مغاربية، ومصر الكنانة. وينفرد المنتخب السعودي بمشاركاته المتتابعة في أربع بطولات متعاقبة، ويُعد المهاجم السعودي سامي الجابر أكثر العرب مشاركة في المونديال لأربع مرات متتالية ابتداء من بطولة عام (1994م)، ويليه حارس المرمى السعودي محمد الدعيع بثلاث مشاركات متوالية مثل زميله غير أنه لم يشارك في الرابعة عام (2006م).
يبقى أن أقول إن هذه المناسبات المقامة في بلاد المسلمين تمثّل فرصة دعوية لإنقاذ الناس من جهنم وظلام الكفر، خاصة أن العالم يعلن رغبته بالحوار والتعايش وسماع الآخر إن صدقوا. وهي فرصة ليشاهدنا العالم أهل اعتزاز بثقافتنا فلا يقدّر الأقوياء غير الراسخ الشامخ، وما أحرانا على صعيد الأفراد والمجتمعات والحكومات أن نكون كما نحن دون تزلف أو ميوعة نفقد بها الخصوصية التي يُفاخر بها، فإن الذي جعلهم يقبلون زحزحة الشهر من يونيو إلى نوفمبر، ويؤخرون جداول مناسباتهم الرياضية الأخرى، ويتحملون وعثاء السفر، وحرارة الجو، واختلاف التوقيت، سيعينهم على الصبر مدة بقائهم على الأرض العربية الإسلامية الطاهرة بدينها وعراقتها، والله يعين قطر على إدارة هذا الحشد الضخم، وهذه المناسبة التي ترمقها العيون وترقبها النفوس.
كما أنها فرصة سانحة ليقتبس شباب العرب والمسلمين أحسن ما لدى أولئك القوم من سمات ومعارف وفوائد؛ فألمانيا مثلًا خرجت محطمة منهكة من الحرب العالمية الثانية عام (1945م)؛ لكنها فازت بالكأس عام (1954م)، وقد حازت عليه أربع مرات مثل إيطاليا الغائبة عن مناسبة هذا العام. ومع شغف تلك الشعوب بالمتعة والرياضة وغيرها من المباح والحرام إلّا إنهم نجحوا في تقسيم الوقت إلى زمن الجد والكدّ وهو أغلبه في محياهم، ووقت الراحة والعبث وهو أقله، وهذه فائدة ثانية غير فوائد أخرى من الرياضة ومن ثقافات الشعوب وطرائقها الحسنة والحسنة فقط.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الأربعاء 15 من شهرِ ربيع الآخر عام 1444
09 من شهر نوفمبر عام 2022م