كتابة السير وشيء مما جرى!
أصبحت الكتابة عن سير الإنسان والكيان والمكان جزءًا من برنامجي الكتابي حتى عُرفت بها إلى حدٍّ ما من ضمن موضوعات أخرى، وهذا ليس بغريب على مَنْ كتب ثلاثمئة وثلاثين مقالًا عن السير والتراجم لعرب وعجم، ومعاصرين وقدماء، ورجال ونساء. وبعض هذه المقالات مستلّة من كتب سير ذاتية أو غيرية، وبعضها معتمد على مقالات ولقاءات مرئية وحوارات، وقسم منها عن أناس لا أعلم أحدًا كتب عنهم باستيعاب قبلي، والحمدلله على فضله وآلائه، والله ييسر لي إكمال هذا البرنامج حتى الألف أو منتصفه.
وبناء على ذلك فمن المتوقع أن تواجهني بعض الحكايات التي يحسن روايتها للإمتاع والمؤانسة، وللإفادة ونقل التجربة ونشر الخبرة. فمنها مثلًا أني دعيت إلى سهرة حلال كلها في استراحة أنيسة بالجبيلة الواقعة غرب الرياض، وعندما أخذت مكاني قال المضيف العزيز: إن أحمدًا يكتب في السير والتراجم لكنه لا يكتب إلّا عن سروات الناس! فقلت له ولمن حضر: الكتابة عن السادات والوجهاء سنة متبعة، ومحمدة لا يهرب منها؛ ومع ذلك فقد كتبت عن مغمورين، وأطفال، وعن عامل من البنغال، وعن إغة!، وعن بقاع ومؤسسات؛ إذ أتبع في الكتابة السيرية الفكرة وليس الإنسان في الغالب!
كذلك قال لي أكثر من قارئ وفيهم أصدقاء ومقربون: أنت تكتب عن الجوانب المشرقة فقط! فأجبتهم بأني قد تركت الظلام والمثالب لغيري ممن يحسن النبش أو يعشق هذه الأعمال؛ فأنا يا سادة لا أكتب عن رجال رواية الحديث الشريف كي أتعبّد بالجرح وبيان العلل! طبعًا جوابي لم يرق لبعضهم، خاصة مَنْ يجد في نفسه غضاضة إذا أثني على غيره حتى لو لم يكن بينهما منافسة أو حتى معرفة، وبالمناسبة فهذا الإحساس كثير في جنس الناس!
ودخلت في ليلة مقمرة إلى قاعة زواج فخمة؛ فاستقبلني أحد أقارب العروس الرجل، وعرّفني لمن معه بأني أحسنُ مَنْ يكتب عن الأموات -حسب رأيه-، وربما أن جلود القوم قد اقشعرت من ذكر الموت في ليلة عرس، ثمّ لانت حينما عقبت مباشرة على قوله بأني أكتب عن الأحياء وعن الأطفال حتى! وفي صباح الغد أرسلت للرجل عدة مقالات عن أحياء يمشون في الأسواق ويأكلون الطعام؛ فأجابني وهو يبتسم بعد أن فهم المغزى. وبالمقابل ذهبت لتعزية صديق فقال للحاضرين: إنه يبرع في الكتابة عن الراحلين، ولم أعلّق على كلامه فللموت هيبة!
من طريف ما وقع لي أني كنت أجمع معلومات عن رجل رمز؛ فتواصل معي نجله الأكبر بدون سابق معرفة، وقال نحن نجمع مادة عن الوالد لتكون في كتاب، ولعلك ألّا تكتب عنه إلّا بعد ظهور الكتاب، فأجلّت الكتابة إلى حين صدور الكتاب مقدرًا جهودهم ومستجيبًا لرغبتهم، وقد أحضر هذا الرجل الكتاب بنفسه، وبعد أن كتبت المقال لم يبق من أنجال الراحل صاحب السيرة المدونة في الكتاب أحد إلّا وتواصل شاكرًا عبر الهاتف أو بالإرسال؛ وقالت ابنته في رسالة طويلة: ما كتبته أنت أشعرنا بالرضا عن عملنا، ووقع من نفوسنا موقعًا عليًا.
وهذا الابن الذي أدركني فأرجأت الكتابة عن أبيه ظفر بما لم يستطعه آخر؛ ذلك أني كتبت عن والده المتوفى من عقد مقالة سيّارة لم أضع فيها جميع ما توافر لدي، فوردتني رسالة منه وهو يستشفي خارج المملكة، وخلاصتها بعد الشكر أنهم ينوون تأليف كتاب عن أبيهم، ولو عرفوا بنيتي الكتابية لاستمهلوني؛ فقلت له: المقال في الغالب لا يغني عن كتاب، وإن شئت حجبته، فأبى أن يحجب، ومضت سنوات دون أن نرى الكتاب المزمع تأليفه!
أما ثالثهم فرجل عزيز صاحب فضل على كثير من محبي الثقافة والاطلاع لا ينكره إلّا جاحد، وقد بلغه أني أجمع عنه بعض المعلومات، فتواصل معي شاكرًا المبادرة، وطالبًا مني التراخي في التنفيذ وإرجائه، وعلّل السبب لي، فتوقفت عن الكتابة وإن كنت أتلقط أخباره بلا توقف، وآمل أن أتمكن من الكتابة عنه قريبًا حتى يطالعها بناظريه ويسعد بها، فمثله يستحق أن يثنى على جهوده، وأن تبرز تجربته بما فيها من حسنات وفوائد، ويغفر الله عمّا سلف، وعمّا ندّ وفلت.
ومن أعسر ما يصادفني في مرحلة البحث أن بعض الشهود يغرق في الحديث عن نفسه ناسيًا أو متناسيًا الإنسان الذي سألته عنه، وقلّة قالوا: كم لي مقابل المعلومة وكأني أكتنز من أثر تلك الكتابة ذهبًا وفضة! وهذا لا ينفي أن غالبية من يجود بالمعلومة لا ينتظر لها ثمنًا، وإنما تهفو نفوسهم الطيبة للخير وإشاعة المعروف. ومن أغرب الإجابات أن يقال لك: أنت تسأل عن أسرار، والحقيقة أنها ليست كذلك، وإنما ابتلي بعض بني أبينا ببخل وشح وحسد، والله يعين من اجتمعت به هذه المعايب، ويصبّر من يجتمع اضطرارًا مع المصاب بها؛ إذ لا مكان للاختيار هنا، ولو توافر هذا الخيار فسيهرب عنه أكثر الخلق!
ومرة كتبت عن عالم راحل مقالتين، وظللت أبحث عن المزيد حتى أكتب الثالثة عنه فسيرته مليئة؛ فقال لي رجل عزيز من مصادري الدائمة: سألتُ لك فلان وهو من نفس بلدة الرجل الذي أبحث عنه فقال: ألا يكفيه كتابة مقالين اثنين؟! وبسبب هذه النفسية البغيضة الضيقة من إنسان لا أعرفه تجاه رجل متوفى، فقد ازدادت حماستي وارتفع إصراري لكتابة الثالثة ففعلت، ولو تفرغت ورجعت لمحفوظاتي الآن لكتبت عنه رابعة، وأعوذ بالله ممن يتميز من الغيظ والحسرة حتى بسبب الثناء على أموات راحلين وهم بحاجة لدعوة وتذكير الأحياء بهم.
يقودني الحديث عن هذا الرجل الراحل لإخباركم أن الذي اقترح عليّ الكتابة عنه هو مضيفي في الجبيلة السالف خبره. ومن أعاجيب ما وقع لي أني كتبت عن د.عبدالله نصيف مقالًا انتشر انتشارًا لافتًا، ثمّ زرت بعد المغرب أحد طلبة العلم بعد وعكة ألمت به، فقال: ما كتبته عن نصيف جميل فلم لا تكتب عن فلان وهو حي يرزق؟ ثمّ خرجت وصليت العشاء في مسجدنا، وبعد الصلاة سلّم عليّ المؤذن وأقترح أن أكتب عن الرجل نفسه الذي تحدّث عنه طالب العلم! ومع صلاة الفجر وردتني رسالة ثالثة من صديق يدرس خارج المملكة يكرر المقترح نفسه؛ فقلت قد وجبت وكتبت عنه ما يستحقه، وأشير هنا إلى أن الكتابة عن الدكتور نصيف لها شأن خاص لعلي أن أفرد له مقالًا جديدًا فيما بعد.
كذلك من القصص أن رجلًا تجاوز التسعين دخل إلى المستشفى بوضع حرج، ولدي في مجلد خاص بي مادة عنه لكنها لا ترضيني، فتواصلت مع صديق من أقاربه وسألته عنه؛ فاستنكر السؤال، وقال: هل تستعجل شيئًا؟ فقلت له: يا رعاك الله القدر مكتوب، وسؤالي لا يعجل ولا يؤجل، والرجل في عمر والدي المتوفى منذ ثلاثين عامًا، وهو الآن مريض على كبر! فرجع صاحبي إلى حصاته، وعلم أنه لم يوفق في رأيه خاصة بعد أن قرأ المقال المنشور عن قريبه الذي ارتحل عن الدنيا من مرضه ذاك وليس بسبب سؤالي!
هل هذا هو كلّ شيء عما جرى بعد كتابة مقالات عن سير وأعلام قياسًا على سؤال سليمان المنطقي حول حكايات حدثت مع الكتب التي عرضتها؟ طبعًا لا ليس ماورد أعلاه هو كلّ شيء، وعليه فسوف أكمل لاحقًا بحول الله وقوته، بعد مراجعة ذكرياتي المسجلة لدي، أو التي تحدث في قابل الأيام، أو أتذكرها بإعادة النظر في ذلكم السجل من المقالات المئوية، والله يجعلها بأجمعها ذات أفكار صالحة للاقتداء في الحاضر والمستقبل، ويكتب فيها المنافع والمصالح لمن كتب وقرأ ونقل وعمل، ولمن روى شيئًا لها، ولمن ذُكر بها.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الخميس الثاني من شهرِ ربيع الآخر عام 1444
27 من شهر أكتوبر عام 2022م