وهذه قصص أخرى يا سليمان!
بعد أن نشرت المقال الأول عن قصص وقعت لي بعد استعراض مئات الكتب بمقالات تعريفية، تواصل معي صديق عزيز للغاية، وقال: لك أربعمئة مقال وأكثر ولم تكتب سوى هذا المقال المختصر! فلعينيّ سليمان وكلّ عزيز مثل سليمان أكتب هذا المقال الإضافي. والإشكال الذي واجهته في هذا الباب أني لم أقيّد بعض القصص القديمة في حينها، وبالتالي ضاعت أو ضمرت من الذاكرة، وهاهنا فائدة قديمة متجددة في الكتابة فحواها ضرورة كتابة المعلومة مباشرة ولو على منديل!
فمما أذكره أن أحد المؤلفين حرص على وصول كتابه الفريد في موضوعه لي، وكتب إهداء طويلًا يتضمن الرغبة في إبداء الملحوظات من قبل القارئ، وحينما كتبت عنه لم أذكر ملحوظة واحدة، وتجاوزت ذلك إلى سرد بعض المقترحات؛ فغضب الرجل مني وقاطعني مدة سنة أو أزيد إلى أن عاد من تلقاء نفسه، فواعجبًا لطبيعة النفس البشرية التي تأنف من اقتراح يُساق بكلمات لطيفة وتعابير حنونة، فكيف لو سطرت له شيئًا من الملحوظات على كتابه بحدّ القلم الجارح المؤلم أحيانًا؟!
ومؤلف آخر عرضت له أكثر من كتاب، ثمّ أرسل لي مجموعة من كتبه الجديدة، ولم أكتب عنها لأني لم أقرأها لانشغالي أولًا وهو السبب الأهم، وثانيًا لما يقع في نفسي من ريبة تجاه الكتب والأعمال الثقافية ركابة الموجات وتباعة الصرعات! وفيما بعد وصلني منه بريد غاضب جدًا، فيه من التهم ما يكفي بعضها لأن أصبح مدانًا فوق أيّ بقعة من الأرض أمشي عليها رأسمالية كانت أو شيوعية أو بين بين مما لا صفة له أو مما يشابه الخنثى المشكل!
ولم أتعجب من غضبه وشكوكه لأنه أخبرني في لحظة مصارحة عجيبة بأنه مريض نفسي يتعاطى عدة أدوية، ولأني قبل ذلك سمعت منه مظلوميات ولطميات عن كل مَنْ تعامل معه في شأن معرفي والعياذ بالله. ومن الطبيعي أني لم أجب عن لائحة التهم الطائشة منه نحوي؛ فهي هذر وخذرفة لا يصدقها طفل مميز، وبعد شهور أرسل لي هذا المؤلف المسكين رسالة اعتذار وتودد، ومع ذلك لم أرد عليها خلافًا لعادتي؛ بل فرحت بانقطاع العلاقة معه، وفي يوم قابل ربما أكتب عن ذكرياتي مع بعض مرضى النفس عافاهم الله وعافانا.
أما أحرج الكتب التي سبق لي الحديث عنها فمنها الكتب المؤلفة من قبل نساء، وموطن الحرج ليس عندي وإنما لدى غيري مع أن بعض المؤلفات أكبر سنًا من أمي رحمها الله. ومنها الكتب التي شاركت في تحريرها، بيد أني أتخلص من حرج هذه الكتب الأخيرة بتجنب الثناء على شيء من مكوناتها مما لي فيه صلة مباشرة. ومنها الكتب التي يلحق دار النشر أو المؤلف أو حتى الموضوع ما يلحقه من تغيرات في الرأي، وهي مستجدات لا تلزمني بشيء عند المنصفين، فلو كتب الشيطان الرجيم –أعاذنا الله وإياكم منه– كتابًا؛ فلا علاقة لقارئ الكتاب بمؤلفه وناشره وما يحوك في نفوسهم أو يصدر عنهم مادام له دينه ولهم دينهم!
كما أرسل لي مرة أحد معارفي من المؤلفين كتابًا له، والحقيقة أنه لا يرقى للعرض، ولو أنه سيقبل مني النصيحة لطلبت منه سحبه من الأسواق؛ فالكتاب يتحدث عن خصوصيات أمر ما؛ لكنه لم يأت بشيء لهذا الأمر لا يشترك معه فيه غيره، وإنما جميع الأحكام الواردة تعمّ أغلب العاملين في ذلكم المجال. وسلمني ثانٍ كتابًا دسمًا له ورمز عينيه قائلًا: ننتظرك! فكرهت منه ذلك ولم أكتب عنه حرفًا مع أهمية الموضوع، وبعد سنوات أرسل لي ناشر الطبعة الجديدة نسخة من طبعة الكتاب الجديدة فقرأته وكتبت عنه.
وألحف موظف كبير سابق في الحرص على تسليمي نسخة من سيرته الذاتية، ولم أستطع إكمال قراءتها لما فيها من غثاثة، وانتفاء القراءة يعني استحالة الكتابة عنها بالتبع–عندي على أقل تقدير-. علمًا أن جلّ المؤلفين والناشرين يصنعون ذلك مع الكتّاب والصحفيين وليس معي وحدي كي لا يتسرب لذهن أحد أني أفاخر بمزية ليست عند البشر، ويفعل المؤلفون ذلك عسى أن يكون لمصنفاتهم تأثير وظهور، ولا ملامة عليهم من حيث المبدأ إذا صاحبه العذر لمن لم يكتب.
ثمّ إني لا أنسى أني حينما عرضت بعض كتب المؤرخ السوداني الكبير د.عبدالعزيز عبدالغني، وأعلنت في أحدها رغبتي بالتواصل معه، أن بادر بالاتصال الهاتفي بي للتهنئة بالعيد من بلدته في السودان. ولا يفوتني الثناء على بعض المحبين الذين قرأوا مقالًا كتبته على المؤلف مباشرة، وهو عالم كبير في السن والعلم، وكتابه مهم عن الفقه الدستوري. وأذكر بعد نشر مقال عن كتاب مماثل لعالم فاضل أنه تواصل معي موضحًا بعد الشكر بعض الغموض في عبارة واحدة في مقولي، ومصححًا لي موضعًا أخطأت فيه، وقد أصلحتهما، ومما أخبرني به أن المقال وصله عن طريق ابنته المبتعثة للدراسة.
كذلك أتذكر أني كتبت عرضًا عن سيرة ذاتية فتواصل معي نجل صاحب السيرة من أمريكا قائلًا: كنت أتيه فخرًا بأبي، وبعد قراءة أسطرك ازداد فخري به. وأهدى لي أحد الكتبيين كتابًا عن سيرة رجل مبارك من الأدباء الرحالة المؤرخين وقد توفي قبل عدة سنوات؛ فكتبت عنه محبة له ولأسرته العريقة، ولا أنكر المعاناة من صعوبة استلال المعلومات المتشابكة في الكتاب، والمكررة بطريقة تصيب بالإحباط من إقبال الناس على الكم وتضخيم الحجم، ثمّ قال لي صديق من أقارب الأديب المترجَم له: جلست مع ابن صاحب السيرة، وسمعته يقول لمن في مجلسه الأسبوعي: المقال أجود من الكتاب!
ووصلني كتاب يقع في ستمئة صفحة ذات ضحى وأنا على سفر بعد العشاء من اليوم نفسه؛ فما أتى المغرب إلّا وقد كتبت عنه، فتواصل معي المؤلف مثنيًا ومتعجبًا من الكتابة التي تفصح عن قراءة مستوعبة لكتابه الضخم في وقت قياسي، وشاركه في العجب صديق سمرنا وإياه في ليلة أُنس، وعندما تفرقنا أهداني كتابًا صادرًا عن مؤسسة حكومية يعنيه أمرها، وبعد ثلاث ساعات نشرت عنه مقالًا مع أن الكتاب يقع في قريب من ثلاثمئة صفحة، والسر سأخبركم به وأكشفه لكم بلا مواربة في مقال لاحق بإذن الله شريطة أن يهدي الله صاحب السر ويتجاوب معي!
من لطائف عرض الكتب أيضًا أني دعيت للمشاركة في ندوة عن كتاب سبق لي الكتابة عنه، ومعي في الندوة رجلان آخران من مثقفي أهل البلدة؛ فطلبت من مدير الندوة جعلي الأخير حديثًا، وحينما جاء وقتي تحدثت عن لمحات مستقاة من الغلاف الخارجي للكتاب فقط، وسبب نهجي هذا ترك الفرصة للزميلين فعرضهما لن يخرج عن صلب الكتاب غالبًا، وكي لا أكرر قولهما ولا مقالي السابق ثانيًا، وقد تفاجأ مقدّم اللقاء من طريقتي؛ لكن بداهته الحاضرة هدته لأن يسارع بطلب نسخة من الكتاب، ورفعها أمام المستمعين حتى يتابعوا الغلاف مع كلامي.
وعرضت كتابًا فكريًا مهمًا؛ لكني اكتفيت بمقدمة المترجمة التي تقع في ستين صفحة من أول الكتاب، وفيها وصف شبه كامل للموضوع وفلسفته. وأما الكتب التي اتكأت على خاتمتها وخلاصتها فأكثر من واحد، خاصة من الرسائل الجامعية التي تضع نتائج وتوصيات تلخص الكتاب. ومن القصص اللطيفة ما حدث بعد أن قرأت كتابًا صغيرًا جدًا لسفير هندي حتى قال لي مَنْ حولي: هذا ليس فيه ما يُكتب عنه لهزاله وقدم نسخته المهترئة! ولم ألتفت لرأيهم فربما أن كل الصيد في جوف الفرا، وقد كان.
أرضيت يا سليمان يا أيها العزيز؟ أتمنى أن نعم، وإن لم يكن فلربما حاولت استرجاع المزيد من الحكايات، وتقييد الجديد منها؛ حتى أتبع الثانية بثالثة، فما أجمل الثلاثيات أحيانًا، وطبعًا نتحدث هنا عن القراءة والكتابة وشؤونهما، ولا يتجاوز كلامنا إلى أيّ إطار آخر مهما اجتهد المفسرون أهل التأويل، ولا أدلّ على ذلك من كثرة الثلاثيات فيما كتبته، والله يجعلها حجة لي ولكم، نافعة لي ولكم، ولمن يجئ بعدنا، ولا يهمني بعد ذلك إن كانت واحدة أو مثنى أو ثلاث أو رباع أو حتى تسع!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الأربعاء غرة شهرِ ربيع الآخر عام 1444
26 من شهر أكتوبر عام 2022م
4 Comments
انتبه لا يقرون خاتمة المقال:)
ممتع والابهام مستفز!
أولاً؛ جعلك يا سليمان للجنة!
أن استحثيت خطى كاتبنا العزيز لكتابة هذه المقالة الممتعة، في رشاقة مفرداتها، وسلاسة سرد المواقف فيها وانسياب العذوبة من تلك الذكريات بنعومة متدفقة كتدفق الماء حين ينساب مُبللاً لأرواحنا العطشى، بصمة “كتابات” ا/أحمد … مطبوعةٌ عصيّة على الزوال، كيانٌ فريد لا يشبه غيره! حينما تقرأ مقالته هذه الثانية وقبلها الأولى، لن يخالجك شك بأن المقالة الثالثة والأخيرة بتصوري، سيكون معها لذة الحكاية ومتعة الاشتباك بالكتابة، أتخيلها مقالة “ثالثة ” بديعة (تترقب من يحرك الجمرة في إناء بخورها لتتضوع رائحة المسك منها وتزهر الحكايات معها ويندى حروفها)…
ثانيا؛ لسليمان مرة أخرى… ما بك محمومٌ فكرك بالاستيهام! او رصد ما وراء الايهام! لا تستفز بتعليقك اللطيف بعض الأنام! فتعليقك المصاحب بتحذير شديد الحذر ربما أشعل الفوضى، اقرأها بثقة واطمئنان فظاهر خاتمة المقال كأوله، و لك مني السلام!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هلا بالغالي مقال جميل جدا جدا فيه كلمة بدلته واعرف أنه خطأ مطبعي وهي بلدته السودان للدكتور عبدالعزيز
شكرا، وصححت الخطأ والله يرعاكم.