سير وأعلام مواسم ومجتمع

عنيزة: مدينة الاجتماع والمجتمع!

عنيزة: مدينة الاجتماع والمجتمع!

هطل المطر الغزيز على عنيزة في سنة ما؛ فتهدمت أجزاء من مقدمة جامعها الكبير، وتسابق تاجران إلى حبر عنيزة وإمام الجامع الشيخ ابن سعدي للمنافسة على الظفر بإعادة بناء الجزء المتضرر من السيول، وكسب الأجر والثواب. لكنّ الشيخ بعد الثناء على مبادرتهما رأى إتاحة المشاركة لمن شاء؛ فأقبل الناس كافة لجلب ما يستطيعونه من أجل ترميم المبنى، حتى نقل الرواة بأن فقراء البلدة أتوا وقد ملأ واحدهم كفه من رماد جمعه ليُستخدم في تجويد البناء وتقويته! ولنا أن نعجب من صنيع الفقراء، ومبادرة التاجرين، ومشاركة الأهالي كافة، وثقة العالم الكبير بخيرية أناسه وبركات مجتمعه حين رفض قصر البناء على رجلين من الأثرياء الأسخياء.

إننا حين نتحدث عن العمل المجتمعي والخيري في عنيزة، نفعل هذا ونحن على ثقة بأن بلادنا كلها فيها من الخير والفضل ما يمكن الإشارة إليه والإعجاب به؛ بل إن عمل الخير وبذل المعروف والإحسان للخلق فطرة مركوزة في النفوس، وهي باقية حتى لو طُمست أكثر معالم الفطرة ومنها فطرة التوحيد والإيمان بالله الواحد؛ فما أحنى النصارى على ضعيفهم، وما أنفع اليهود لقومهم، ولربما كان الوثني رفيقًا شفيقًا، وكلّ هذه الصفات الحميدة المشكورة لا تنجي غير الموحد من مصير محتوم والعياذ بالله، وإنما الفلاح لمن قال يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. وقد اقتضى البيان الإشارة إلى هذه المسألة حتى لا يظنّ ظان أننا نقصر الأمر على بلدة، أو نتعصب لقوم دون آخرين.

وإن تآزر الناس في أيّ بلدة لمنهج حسن وفأل مبارك، وهو قمين بالتشجيع والثناء والاحتذاء؛ ففيه ألفة بين فئات المجتمع، وتحقيق لفضيلة التعاون على البر والتقوى، وتحصيل لأجر بذل المعروف والبر بالأقربين، وزيادة في تمتين التوافق وإدامة الوئام، وتخفيف على الحكومة وأجهزتها؛ لأن العمل الخيري والمجتمعي يعين على قضاء الحوائج، وسدّ النقص، وتدوير المال داخل البلد، وتوظيف الشباب، ومن مزاياه الخفية السامية ازدياد ثقة المجتمع بنفسه، ومحافظته على عراقته، والتخفيف من شرّة الغضب أو حدة الاحتقان، وبصنائع المعروف تذوب عداوات، وتُسل سخائم، وتبقى مروءات، إضافة إلى الحماية من ميتة السوء.

أما إذا أردنا استجلاء ملامح العمل المجتمعي والخيري في عنيزة، كي يحافظ عليها أهلها، وتكون عونًا لغيرهم من باب الاقتداء؛ فسوف نجد فيها سمات قد تكون حاضرة في بلاد كثيرة، بيد أن اجتماعها في مكان واحد، وعند طبقات عدة، واستمرارها مع الزمن، وخلوها من أيّ حمولة فكرية تسبب التفرقة والخلاف النكد، لملامح تلفت النظر، فمنها:

  1. أنه عمل قديم متواصل؛ ففي زمن مضى استعذب رجل أمواه بئر في مزرعته فسبّلها، ووضع القادرون “الرحى” في مكان عام كي يطحن الفقراء الحبوب لصعوبة امتلاك مطحنة خاصة بكل بيت.
  2. أنه عمل يدخل في جميع مناحي الحياة تقريبًا، ففيه علوم شرعية ودنيوية، وعناية بالقرآن الكريم والدعوة، وحفاظ على الأخلاق والعراقة، ونفع للمجتمع في مسائل الزواج والمرض والوفاة وإصلاح ذات البين، وخدمة الفئات كافة بما فيها أصحاب الاحتياجات الخاصة الذين يجدون عناية فائقة في عنيزة.
  3. أنه عمل احتفى بالإنسان ولم يهمله، ومصداق ذلك ما نسمعه عن مناسبات التكريم التي تُعقد في عنيزة للبارزين من أبنائها وهم على قيد الحياة، أو عقب وفاتهم.
  4. أنه عمل مفتوح للجميع كي يشارك فيه من شاء؛ ولذا يترك أمير أو محافظ أو وزير منصبه ويتقاعد؛ ثمّ ينصرف كلية للعمل الخيري، وهكذا يفعل الأستاذ الجامعي، والمصرفي الكبير، وأصحاب المناصب في الشركات والوزارات المدنية والعسكرية، والمهني، والمثقف، والمرأة، وغيرهم من عامة الناس الذين تهفو نفوس أكثرهم لخدمة عنيزة ولو بتوصيل رسالة، أو إهداء كتب.
  5. أنه عمل تجاوز حدود هذه المدينة الجميلة، ففي العاصمة الرياض لجنة لأهالي عنيزة تنسق مع اللجنة الأم، وفي الحجاز الشريف مجتمع لأبناء عنيزة، وفي الشرقية الأنيسة رابطة قديمة لبتروليو عنيزة المنتشرين في أماكن كثيرة، وفي البهية أبها موئل لبعض أسرهم خلال صيف نجد اللاهب. ولأهل عنيزة حضور في البحرين والكويت والبصرة والهند؛ حتى أنهم رحبوا بزيارة الملك سعود إلى البحرين عام (1373) ترحيبًا خاصًا.
  6. أنه عمل ممتد حتى شاركت عنيزة بخيرها وجهدها في أغلب الأماكن، ونرى مصداق ذلك في أثر علماء عنيزة داخل المملكة وخارجها، وفي إنفاق أثرياء عنيزة على الخير والإحسان دون تمييز بين منطقة وأخرى، وفي إسهامات قادة العمل المجتمعي ومنظريه من أهل عنيزة، وفي حرص كتّاب عنيزة على التعريف بأبناء البلاد كما نقرأ في أعمال د.الشبيلي، وأ.القاضي، ود.التركي. ومن الموافقة اللطيفة أن يكون لعنيزة في مجلس الوزراء الموقر خلال تاريخه ثلاثة عشر وزيرًا، منهم أربعة تولوا حقيبة الوزارة الاجتماعية المسؤولة عن هذه الأعمال والأنشطة المباركة في المملكة كلها.
  7. أنه عمل لم يعرض عن الثقافة والفنون والسياحة والحرف والرياضة والشعر والتراث؛ فله منها نصيب ظاهر ومبكر أحيانًا، ومن أبرز مظاهره الملتقيات الثقافية والسياحية، والأندية الرياضية القديمة، والرياضات الحديثة كالمشي وركوب الدراجة، والهوايات المختلفة مثل التصوير والطيران وركوب الخيل، والأسواق والبيوت القديمة بعد صيانتها، والمجالس المفتوحة في عنيزة من الفجر إلى ما بعد العشاء طوال أيام الأسبوع، والمطبوعات الثقافية، وفرق المرح، وغيرها.
  8. أنه عمل يشرع أبوابه لمن رام الإفادة أو شاء الاقتباس منه، ويتضح ذلك بالتقارير المرئية والمكتوبة، وسعادة الفعاليات المجتمعية داخل عنيزة بمن يزور فيسمع ويرى، ولربما أفاد واستفاد، ومن هذا الباب عقد الشراكات، وتبادل الخبرات، والله يزيد ويبارك.
  9. أنه عمل قابل للابتداء من أيّ أحد؛ فأمير عنيزة الأطول مدة في تاريخها الأمير عبدالله الخالد السليم يقترح توسيع السوق على الأثرياء، ويأمر بحماية الغضى من قبل الأهالي، والوزير الأول ابن سليمان يسارع إلى نيل فضيلة توصيل الماء للبيوت، وإنارة الجامع الكبير، وافتتاح المشروعات الإنتاجية الحديثة، والشيخ الفقيه المفسر ابن سعدي يحث الناس على فعل الخير، وتنهض فاطمة التركي من خلال بيتها بإنشاء مؤسسة، ورجل ربما لا يعرفه أحد يتبرع برحى، وصاحب مزرعة يوقف بئرًا، وما أعظم أكفّ الفقراء وهي تحوي حيلتها من الرماد للتصدق به؛ فهذا هو جهدهم الذي وجدوه وقدموه رجاء ما عند الله، ولربما سبقوا به غيرهم.
  10. أنه عمل لا يهمل المؤازرة المعنوية قبل المادية، وتجلّى ذلك في افتتاح المدارس الحديثة في عنيزة بتظافر جهود المربي ابن صالح وآخرين، وذهاب بعض أهل عنيزة مع ابن سعدي حينما اُستدعي للنقاش، وحرص الناس على حفظ سيرة أكابرهم من خلال مؤسسات خيرية، ومراكز اجتماعية، وبرامج وثائقية، وكتب ومؤلفات، ومؤتمرات وندوات.
  11. أنه عمل يحرص على التعاقب والحيلولة دون وجود الفجوات؛ فعندما توفي ابن سعدي جلس على كرسيه تلميذه النجيب ابن عثيمين بإلحاح من وجهاء البلد، وبعد وفاة ابن عثيمين تقاسم طلبته دروسه وأعماله، ومن هذا الباب إنهاء الأثرياء لشؤون أوقافهم وهم على قيد الحياة، واستمرار الأعمال حتى بعد رحيل مؤسسيها عنها أو عن الحياة لأنها مضبوطة إداريًا وتنظيميًا.
  12. أنه عمل لم يستثن حتى الأطفال والشبان في بواكير العمر؛ ولذا شاهدناهم يشاركون بسعادة في تنظيف المنتزهات وأماكن التخييم، ويحرصون على العون ولو بتوثيق مصور أو مكتوب، أو بكلمة ملقاة، أو شعر منشد، أو تغريدة أو صورة.

إن هذا العرض السريع لا يُقصد منه المفاخرة ولا المقارنة، ففي كل بقعة من بلادنا العريقة فضائل ومناقب، وحري بأهل الديار بيان مآثرهم وصنائع بلادهم من الخير، ففي الحرمين، وجازان، وجدة، والقطيف، والجوف، والأحساء، وشقراء، والمجمعة، وحائل، وبريدة- على سبيل المثال لا الحصر-، من الأفكار والتجارب ما يضيء لنا مسيرة الأعمال الاجتماعية والمجتمعية، التي تنعم بحمد الله وبفضل منه ومعونة بوحدة راسخة، وأمن مكين، ومساندة رسمية، وإقبال طوعي، وعناية متزايدة، والله يجعل المستقبل أحسن وأكمل؛ حتى يكون لكل المدن والنواحي من الآثار ما يُشار له بالبنان، ويُشاد بتآزر أهله وتكاتفهم، وتعظم عند المولى حسناتهم؛ فخير الناس أنفعهم ولو بشق تمرة أو حتى بكلمة طيبة واحدة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 24 من شهرِ صفر عام 1444

20 من شهر سبتمبر عام 2022م

Please follow and like us:

One Comment

  1. دام قلمك وسلمت يمينك ..
    أغرقت عُنيزة وأهلها بوفائك ، فهذا المقال يخلد ذكر العمل الخيري في عُنيزة والباذلين فيه ، ويزرع في أطفالنا وشبابنا حبه والحث عليه ومواصلة السير على خطى آبائهم وقدواتهم ..
    دمت موفقاً ومسدداً ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)