مواسم ومجتمع

صبوة من ذي عقار!

صبوة من ذي عقار!

استلطف جمع عزيز من القراء القصة التي كتبتها عن واقعة حدثت لي قبل ربع قرن تقريبًا، ومن الطبيعي أني سررت بتفاعلهم والحمدلله. ولأنها متعلقة بالعقار، فقد تداعت عليّ الذكريات إبان عبوري من شارع مجاور لي؛ فتذكرت قصة منزل يقع على ضفة هذا الشارع القريبة من معبري؛ إذ هممت أن أستأجره قبل سنوات، بيد أن الله لم يكتبه؛ وصرفنا عن بعض، والخيرة خفية، والنفس بها رضية. وقد وقعت لي مع مالك الدار حكاية طريفة على أن حضوري فيها يشبهالكومبارس، خلافًا لوضعي في المقال السابق، فأحببت مشاركتها وإياكم.

المهم أني بواسطة رجل محبٍّ يملك مكتبًا عقاريًا، ذهبت إلى منزل انتقاه لي حتى أعاينه، فاستقبلني صاحب المنزل بترحاب بالغ، وأصر على أن نشرب القهوة معًا؛ لكني أبيت بعد شكره حفظًا لوقتي. ثمّ أراني مالك المنزل الدور العلوي الجميل تخطيطه، الواسعة أماكنه، المنشرحة إطلالته؛ فأعجبني، وزادت رغبتي في المكان لانفساح البقعة؛ إذ أن بعض البقاع تجلب الانشراح وبعضها تأتي بالعكس، إضافة لوجود مواقف كافية للسيارات، والمواقف تسبب أزمة أحيانًا.

وبعد التفاهم مع مالك العقار على كلّ شيء، سألني: هل عندك أطفال؟ فقلت له: اللهم نعم، وبعد أن ابتهل لله وسأله صلاحهم وهدايتهم قال لي: هل هم من ذوي اللعب وكثرة الحراك وارتفاع الأصوات؟ فأجبته بأن الحركة النشطة، واللعب الدائم، والصوت العالي، من سمات الطفولة الطبيعية، وأحد مكونات مرحلتها العذبة! فواصل استفهامه سائلًا: هل تضمن لي أنهم لن يقلقوا راحتنا بالإزعاج وقت القيلولة، وفي بواكير الصباح، وعند حلول هدأة الليل؟ فقلت له: لا أضمن السيطرة عليهم مع الأسف؛ فإدارة الصغار يصعب معها الجزم بشيء! ثمّ ودعته لا ألوي على شيء، وظننت أننا في طور إكمال باقي الإجراءات؛ والحياة تحلو بالأمل!

فاتصل بي صاحبي الذي دلني على العقار بعد يوم من زورتي للمنزل، وأخبرني بأن الرجل يعتذر عن إتمام التعاقد معي بسبب وجود الأطفال، فقلت له: الخيرة خافية، ومكانه لا يمكن أن يستأجره إنسان بلا أولاد. ونسيت المنزل والرجل الذي قابلته، علمًا أنه كبير في السن، لكنه محافظ على صحته، حريص على العناية بمظهره الذي يمنحه عمرًا أقل من الحقيقة بعقد أو أزيد، ولهذه المعلومة فائدة تنفي كونها مجرد حشو كتابي، والحشو من آفات الكتابة.

وبعيد أسابيع قليلة هاتفني صديقي العقاري ليعلمني بأن ذلك المنزل قد أستأجر! فدعوت للساكن والمالك بالبركة، وأخطرته أنه ليس من طبعي تتبع شأن تركته أو هجرته! وأتصور أن مسلكي هذا هو الصواب في العمل وفي الحياة؛ مع بقاء حسن العهد، وجميل الذكرى، ودون إفشاء ما حقه الكتمان، أو نكران ما يجب الاعتراف به من فضائل وإحسان، وليس أشقى قلبًا وأضيق نفسًا ممن يظلّ أسير الهم والضنك؛ لأنه في حال دائمة من التحري الشديد لخبر من ماض مضى، أو التجري المضني على متابعة ما لا يعنيه ولا يفيده!

لكنّ الرجل العقاري أبان عن سبب مبادرته لإشعاري بهذه المعلومة التافه مضمونها، اللطيف سياقها، حين واصل الحديث مخبرًا بأن مستأجرًا آخر حدث بينه وبين صاحب البيت مثل ما جرى معي بالضبط؛ بيدَ أن هذا المستأجر أرسل زوجته كرة أخرى وحدها لتفاوض الرجل على استئجار المكان، في استثمار بغيض متخابث للأنوثة وحضور المرأة؛ فوافق الرجل من فوره مع أنه عَلِمَ عِلْمَ اليقين بأن لديها عددًا من الأولاد الصغار الذين من طبيعتهم العبث!

وحينما تواعدا لتوقيع العقد في المكتب العقاري، فُجع مالك البيت الأشيب المتشبب بأن الطرف الثاني الذي سيشاركه في العملية التعاقدية ليست المرأة التي رآها، وإنما زوجها الذي لم يقبله مستأجرًا قبل أيام! وأسقط في يده من هذه المفاجأة ومن هول مكرهما به، ومع ذلك مضى يوقع العقد مجبرًاأو في حكم المجبرواللسان منعقد، ولربما أن عرقه تصبب، وغيظه تصاعد، إلى أن حطّم مؤشر حنقه على نفسه، أو على المرأة، أو على الحظ العاثر، الرقم القياسي المعتاد لديه في أيّحلطمةسالفة! وقد يكون أضمر في نفسه شيئًا، والعلم عند الله.

إنالتميلحبين الجنسين ظاهرة عالمية توجد في الرجل والمرأة إذا كان الواحد منهم في موضع يقع أمام الجنس الآخر، وهي غير منحصرة في بيئة أو جنس أو حال أو مجتمع؛ كي لا نكون مثل أقوام يطربون لنقد أنفسهم ومجتمعاتهم، ويتباهون بالتقازم أمام الآخرين، والشعور بالدنو، ومن يهن الله فما له من مكرم، ومن يهن يسهل الهوان عليه حسب المتنبي الذي أكمل حكمته البديعة قائلًا: ما لجرح بميت إيلام!

وبسبب هذه الظاهرة ضاعت حقوق، وانتهكت قواعد، وخرمت أسس، وفي العرف والعقل والنظام والشرع ما يضبط الدنيا؛ لأن البشر ليسوا ملائكة، فلهم من النوازع والشهوات ما يخوضون بسببها شواطئ بعيدة، أو يقطعون لأجلها القفار والأحراش، وربما قفزوا فوق تلال وجبال، وأولئك هم الناس الذين نحن منهم؛ فاللهم زينا بزينة الإيمان، والركانة، والحكمة، والتعقل، واكفنا شر الهوى واللجاجة، وافض علينا عفوك وحلمك وسترك.

وهذه الظاهرة ضارة إذا صارت أساسًا في تقديم أو تأخير، أو أصبحت مادة للتباهي بالانفتاح ومراعاةالعنصركما يسمونه من باب التزين اللفظي الممجوج. وهي سبب للشعور بالغبن، وإحداث خلل في الأولويات، وبعثرة أنساق وسياقات، ولربما أن آثارها لا تظهر إلّا في المستقبل، وحينها يحاول الرجوع أقوام بعد أن توغلوا في الغلو، وبلغوا مرتبة عين اليقين مثل صاحبنا الأشيب، حين أيقن أن حلاوة المنطق، وجمال المظهر، ليست سببًا في تفضيل، أو علة لانتقاء، أو دافعًا لموافقة، أو مسوغًا لإبراز وحجب، ولربما أنشد ذلكم المسكين مع المتنبي قوله الذي يندب فيه على الناس محبة أيّقبيحوجهه حسن، والمعنى لا ينصرف إلى المرأة فقطحاشاهاوإنما يعمّ كلّ شيء ناقض جوهره منظره ماديًا كان أم معنويًا.

إنها يا قوم لبليّة في الغرب والشرق؛ ولدى أمم كثيرة، وقد خلق الله كل شيء بقدر مقدور، وميزان قويم، وليس الذكر كالأنثى في كلّ شيء، وإن انضوى أفراد الجنسين المكرمين بتكريم الله الأزلي لهما تحت عدل الله ورحمته في منظومة حقوق وواجبات مشتركة، وإن استقل كل شقٍّ منهم بشيء، ولله الأمر والحكم الذي يجلب السير عليه بصدق وحسن قصد الرشاد للخلق والسلامة للأمم، وأما غير ذلك فمفضوح وإن طال به الزمن، ولا يسمن ولا يغني حتى لو انتفش وانتفخ.

ومن يدري فربما ينتقل العالم في مسيرة انتكاس قيمي، ومناقضة للفطرة السوية، التي تجعل للمرأة مكانة أصلية وحقوقًا مرعية مثل ما لقرينها الرجل، ويتحول عالمنا من مراعاة المنظمات النسوية المستعرة، والرضوخ لمطالبها الغالية فضلًا عن المقبولة، إلى الانصياع لقذارات الشذوذ ورغباته الفجة، وحينها ستظلم الأرض في نهارها قبل ليلها الدامس، ولا يعلم إنسان ما سيكون ولا كيف سيكون، ولربنا ربِّ الكون القادر القدير نجأر بسؤاله الستر والعافية، وأن يبطل كيدهم، وينقض غزلهم وما أبرموه، ويطفئ جمرة باطلهم، ويجعل العاقبة مخالفة لإفكهم وما يمكرون وما يحيكون.

 أحمد بن عبد المحسن العسَّافالرِّياض

ahmalassaf@

السبت 29 من شهر محرم 1444   

27 من شهر أغسطس 2022 م 

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)