جور من ذي عقار!
رائع جدًا أن تجري التعاملات اليومية أو جلّها بسلاسة وإحكام، بما يحفظ الحقوق، ويزيل الجهالة والغرر، ويقلل أعباء أجهزة الضبط والتقاضي الحكومية. ومن هذا الباب انبثقت عدة تطبيقات ومنصات وأنظمة من وزارات وهيئات كثيرة تخفف من الجهد البشري، وتريح أصحاب المصلحة وأطراف العملية التعاقدية، وهي أظهر ما تكون في خدمات وزارات الداخلية، والعدل، والإسكان، والخارجية، والإعلام، والموارد البشرية، والصحة، والتعليم، ولو أردنا التتبع فهي على التحقيق في معظم الأجهزة الحكومية، ونتمنى لهم المزيد من الإبداع، والسلاسة، والوضوح، والبعد عمّا يشكل على المستفيد بإضافة مقاطع شرح مختصرة، وتقليل دهاليز المواقع.
وقد تذكرت حكاية استئجار أول منزل لي قبل ربع قرن تقريبًا، ودافع الذكرى هو التنظيمات المتوالية من منصة إيجار التابعة لوزارة البلديات والإسكان، وهو تنظيم ضروري لهذا الشأن المهم والعام، والله أسأل أن يرزق الكافة ويعتقهم من الكراء وثقله على الجيب والنفس. وهذه القصة فيها طرافة، وشيء من طبائع بعض هذا الناس، مع فوائد ستظهر تباعًا للقارئ، وما كنت أحسب أني سأكتب عن هذه الواقعة كلمة واحدة يومًا ما.
فأول شيء أذكره أن عقد الإيجار وقعه شقيقي د.عبدالله نيابة عني مع المالك عند مكتب عقاري؛ لأني كنت منشغلًا عن التوقيع آنذاك، وبعد سنوات قال لي شقيقي: إن المالك تواصل معه مدعيًا بأن المبلغ الذي أدفعه سنويًا على قسمين أقلّ من المتفق عليه، وحددّ الرجل مبلغًا آخر أزيد مما يأخذه، والزيادة المعينة زهيدة! فقلت له: وماذا تعتقد أنت؟ فأجاب من فوره: أثق بأن الحق معك دون عصبية؛ فطمأنته من فوري إلى صدق حدسه، وأحضرت له لاحقًا صورة من العقد الذي وقعه بنفسه.
وأكملت لتحصيل مزيد الاطمئنان قائلًا: كلّ سنة أعطي المالك شيك الأجرة على قسمين ولا يعترض، ومع أن الأسعار كانت في نزول –رعى الله تلك الأيام–، إلّا أني لم أطالبه بتخفيض القيمة. وقد استغرب أخي من صاحب العقار إذ كيف يورد عليه هذا الإشكال دون أن يكلمني فيه وأنا المستأجر، وشريكه في التعاقد، وصاحب الشأن، وهو الذي يراني بين فينة وأخرى! لكني لم أتعجب لمعرفتي أسباب هروب صاحب البيت من مواجهتي!
المهم أن المالك أتى لي قبل أيام من موعد نهاية العقد الذي استمر لسنوات، وقال: ابني سوف يتزوج وأريده أن يسكن بجوار أهله، فباركت له زواج ولده وفرحت له مثل فرحي بأيّ زواج أسمع عنه، وأخبرته بأني سأخرج حالما أجد مكانًا آخر، فالمفترض عليه أن يطلب مني الإخلاء في وقت مبكر حسب شروط العقد. وبعد أن عثرت على مكان آخر تركت له عقاره، وسلمته المفاتيح وجميع ما يخصّ الدار، ونقلت كتبي وبقية أثاثي في رابعة النهار ورائعته دون استخفاء أو استعجال أو مباغتة.
لكن هذا المالك الذي يناهز السبعين اتصل بي بعد سنتين من مغادرتي لملكه، وقال لي: أنت لم تدفع لي أجرة المدة الأخيرة! فقلت له: يا أبا فلان: أتذكر حكاية عداد الكهرباء وفاتورته؟ فقال: نعم! قلت له: وهل كنت تعلم عنها أو ستعلم عنها بدوني؟ فقال: لا! وحينها استحلفته بالله: أيُعقل أن مَنْ ينبهه على خلل في فوترة شركة الكهرباء التي حسبت استهلاك منزلي على عداد سكنه المظاهر لي، ثمّ يساعده في حلّ هذا الإشكال عن طريق الشركة، ويدفع المستحق من المال بأثر رجعي دون تعسف أو مماطلة، أيُعقل بعد هذا أن يترك دفع أجرة واضحة لا لبس فيها؟ فسكت الرجل ولم ينبس ببنت شفه ولا بابنها إن كان لها ابن!
ثمّ قلت له: دعنا من الكهرباء وفواتيرها، فهل تعرف أنت من نفسك الرفق والعفو حتى تتركني أسكن في منزلك شهور عددًا دون أن أدفع لك الأجرة مقدمًا؟! وفوق ذلك تشاهدني أرحل أمامك خلال أيام متوالية جهارًا نهارًا فلا تطالبني بمالك المتأخر! وعقب ذلك تصبر أربعة وعشرين شهرًا حتى تسأل عن المبلغ الذي تزعم أنه مستحق لك؟ أتغيرت عليّ يا رجل وأصبحت آية في السماحة والليونة؟! ومع إغلاظي له بالمعنى دون طريقة القول فقد ضحك الرجل ملء شدقيه؛ لأني وصفت له حقيقة نفسه، وأنهى الحوار بتأكيد طلبه لما يظنه من حقوقه الضائعة أو حتى المسلوبة من قبلي حسب اتهامه المبطن لي زورًا وبهتانًا.
فطلبت منه إمهالي لأثبت له بأن المال آلَ إلى جيبه في وقته غير منقوص ولا متأخر. ورجعت لأوراقي فوجدت كعب الشيك المصرفي، وراجعت أقرب فرع للبنك حولي، فأخبروني أن الشيك مصروف في وقته من أحد الفروع وعينوه لي، فذهبت للفرع بعيد العصر مباشرة، وتعاونوا معي إذ أظهروا لي صورة الشيك وعليها توقيع الرجل بتسلّم المبلغ نقدًا أو مقاصة –نسيت أنا–، وأعطوني صورة من هذه الورقة، وإني أتعجب من لطفهم وتعاونهم، فغالب أهل المالية والقانون وإداراتهما فيهم من الصعوبة والثقل الكثير، مع التحية لهم والمحبة طبعًا، وبعض مواقفهم المتصلّبة مفهومة، وبعضها مرفوضة غير مفسرة.
بعد ذلك اتصلت به وقلت له: لقد صرفتَ الشيك بالتاريخ الفلاني من فرع المصرف الواقع في حي كذا وشارع كذا، ولديّ من الصور ما يثبت هذا، فتعال إلى مكان حددته له، وفي وقت سميته له، كي تطلّع على الأوراق وأعطيك صورًا منها؛ علمًا أن ذلك المكان والزمان مناسب لي لارتباطي بموعد فيه، ومرهق له لبعده النسبي؛ ولكنه يستحق الرهق لدعواه التي أثق أنه موقن ببطلانها منذ إنشائها.
وحين جاء أريته الأوراق، وفحصها كأنه يقع عليها لأول مرة، ثمّ اعتذر بالنسيان؛ فقلت له: اسمع يا أبا فلان، إن عندي صورة من جميع ما دفعته لك من إيجار، وفواتير مياه وكهرباء وهاتف، وهي في ذلكم الزمن فواتير ورقية عليها أختام سداد بنكية، والحمدلله الذي أراحنا من الأوراق، ونسأله المزيد. ولأني أشرت للهاتف أردت تقريعه فذكرته بأنه لم يصدق معي في الهاتف؛ إذ زعم بأنه يعمل مباشرة، بينما اضطررت عندما سكنت للاستعانة بفني يعيد تسليكه وتصليحه، ولأنه غير صادق فيما أنبأني به أبدى تعجبه من عمل الهاتف لديّ عندما علم بذلك، وسألني عن مكان الفني الماهر الذي أصلحه لي؛ كي يعمل الشيء ذاته في بيته المظاهر لي!
ثمّ رويت له حكاية قصيرة قائلًا: لا تستغرب من احتفاظي بالأوراق، فهذا مقتضى الكياسة والحذر، إضافة إلى أني أحفظ قصة لرجل باع سيارة قديمة في مطلع القرن الجديد لأحد المقاولين –والمقاول بالمناسبة يحيي السيارة الميتة ثمّ يهلكها مرة أخرى باستخدامه–، وبعد خمسة عشر عامًا عثرت الأجهزة الأمنية على السيارة في مكان بعيد عن مدينة مالكها الذي باعها، وقد وقعت فيها جريمة، والسيارة لا تزال رسميًا باسمه، ولولا احتفاظه بعقد البيع لصار مدانًا، وتبين فيما بعد أن المقاول باعها لآخر، وطبعًا هذا الإجراء الملتبس غير وارد الآن بسبب نظام البيع الإليكتروني الفوري الضابط لحقوق جميع الأطراف وواجباتهم، ونهاية القصة أن ذلك الرجل صور نسخًا من عقد بيع تلك السيارة ووضعها في بيوت إخوانه احتياطًا للمستقبل، ويبدو أني يا فلان سأفعل مع أوراقي الخاصة بمنزلك مثل صنيع بائع السيارة تمامًا!
ضحك الرجل المسن ضحكة المقهور المغلوب المغضب، وحتى يتجاوز الموقف قال لي وهو صادق –وما أندر صدقه-: هل تعرف بأن هذه الأراضي التي تقع على هذا الطريق يمنة ويسرة كلها كانت لي فيما مضى، وبعتها بربح طبعًا؛ لكنها الآن تساوي أضعاف السعر الذي بعتها فيه، فأجبته بما لم يحتسب: مادام أنك تملكها وتملك غيرها فلم تبحث عن بضعة الآف تدعي أنها عندي وهي ليست لك! فسكت الرجل وسكن واستأذن بالانصراف، ومن ساعتها إلى يومنا لا أعرف عنه أيّ شيء.
ما لم أقله أني اكتشفت مبكرًا بأن تعامل الرجل المالي والأسري ليس من الصفاء ولا النقاء في شيء؛ فأما أسرته التي يحضر إليها بضعة أيام كلّ شهر فما أكثر صراخه عليهم، حتى أن صوته النشاز يصلني في مكاني وهو يوبخهم، وما أكثر شكواه منهم لي، وأتصور أن أغلب الحق لهم عليه؛ فهو ذو مال عريض، وهم لم يستفيدوا من ثروته في حياته حسبما ظهر لي، والله أعلم بالسرائر.
أما التعامل المالي فكم من مرة ومرة يُطرق الباب عليّ، وبعد خروجي للطارق أجده عاملًا يريد ثمن إصلاح الخزان إبان بناء البيت، أو سباكًا يطارد خلف أجرته منذ سنوات، وثالثهم الكهربائي الذي أصلح لي أسلاك الهاتف يشتكي بأن الرجل لم يصرف له قيمة تعبه وقد جف عرقه منذ أسابيع وربما أزيد، وحينها أيقنت أني سكنت بجوار ثعلب ماكر لا يتعامل مع الله، فازداد حرصي وحذري بسبب هذه الشواهد.
أسأل المولى لنا ولكم الصدق في التعامل مع السماحة فيه، وأحمده على وسائل الضبط العديدة التي لا نحتاج معها إلى حفظ أوراق في ملفات، أو مراجعة إدارات وأجهزة. وأضرع للمولى القدير بأن ييسر للكافة من المساكن ما تأنس به النفوس وترتاح القلوب، فإن المرء لا يستقر مادام مستأجرًا، وما أوسع موضع الملك ولو كان صغيرًا، وما أضيق المكان المكترى ولو كان قصرًا منيفًا؛ فاللهم الرزق الوفير، والمسكن الواسع، والمركب الهنئ، والجار الصالح، فبهذه العطايا يسعد المرء في دنياه.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الأحد 16 من شهرِ الله المحرم عام 1444
14 من شهر أغسطس عام 2022م
6 Comments
سلمت يمينك، قصة جميلة و لا ينقضي عجبي من حرص بعض أهل الأموال على تحصيل المال ايا كان طريقه، نسأل الله العافية.
عجباً لبعض الناس مثل أخينا هذا يحسب أنه يُحسن صنعاً..
وما علم لمرضِ أو جهلِ في نفسه أنه شقى وأشقى من حوله..
يعيش دائماً في قلق وتوتر وإضطراب نفسي رهيب وما ذاك إلا ثمنِ بخس دريهمات، نقصها لن يضره أبداً كما أن زيادتها لن تنفعه أبداً..
القناعة والرضى بما قسمه الله لنا هما والله السعادة الحقيقية هي المفترض حتماً أن نعيشها ومن الجرم فعلاً أن نضيع برهه ولو صغيرة منه في تافه من فتات دنيا زائلة..
تحياتي لك يا صديقي 😘
شخص قبيح أتى في سرد جميل ،،
تحياتي إستاذ أحمد .
ا لكاتب والاديب القدير ابا مالك حفظه الله ورعاه .امتعتنا بهذه القصة مع مشاكل الايجار . . بالنسبة صار لي متزوجة 54 سنة ومنذ ذلك اليوم الى الان سكنت في 25 بيت اتنقل في بيت الى اخر . معظمها بيوت في سكن جامعي في شقق مع عائلتي المتكون من خمس اولاد وانا ووالدهم في بلدان مختلفة . خلال هذه السنوات ال 54 . سكنت في دار بنيناه بالعراق ملك صرف لنا . .. مدة 8 سنوات فقط .ثم تركنا العراق ومازلت اسكن الان في شقة ملك صغيرة . مستورة والحمد لله . ولكن ما اكتبه عن السكن . عشت في مشتمل صغير لعائلة انكليزية في بريطانيا تابع للمالك . مدة 6 سنوت يايجار قليل نصفه كنا نصرفه على تدفئة البيت وهم يعلمون ويغضون البصر لمساعدتنا لاان زوجي طالب . وعندي طفلين صغيرين .رجعنا للعراق بعد هذه السنوات الست. وبعد رجوعنا بشهرين طبعا بقى التراسل بيني وبينها لاانني احبتتها للطفها وتواضعها لم تجعلني احس انني غريبة .. فاخبرتها سنعود السنة المقبلة لاان احد اولادي يحتاج لااجراء عملية جراحية كانت ام البيت تعرف بها واخبرتها ربما سنعود ثانية لبريطانيا لااجراء عملية معقدة نحتاج للشقة ثانية . اخربتني بان الشقة لم تعرضها للايجار لاانها حزينة على فراقنا واخبرتني بانها سوف تترك المفتاح على بابها لاانها لاتعلم متى سنعود بالضبط وعندما عدنا في نها ية السنة وجدت المفتاح بالباب والشقة منظمة والثلاجة ملئة بالفواكه والخضروات والحليب والبيض والاشياء الحلال لانهاتعلم باننا مسلمين والله عمل هذه السيدة الكريمة فضلا لم انساه طول حياتي . سبحان الله بالنهاية كلنا اولاد ادم وحواء . والى الان اتواصل معها حفظها الله ورعاها
احداث هذه القصة حدثت في منتصف السبعينات
حكاية جميلة استاذ احمد وفعلا التوثيق ضروري ولا يعرف الشخص إلا من خلال التعامل المالي …نسأل الله السلامة والعافية