سير وأعلام عرض كتاب

ابن مالك: الركن النجيب!

ابن مالك: الركن النجيب!

قلة من الرجال الذين يجتمع فيهم هذا الأمر؛ فأنت لا تكاد أن تذكر التاريخ الحديث لبلدته دون تقديمه والإشادة به، ولا يمكن أن تُروى المنجزات التنموية في مدينته مع تخطيه أو إغفال جهوده. أما استعراض سيرة أسرته فمستحيل تمامها مع تجاوزه، هذا غير أن مواقفه وقصصه فيها الشاهد الجميل على مكارم الأخلاق ومحاسن الخلال؛ فهي تصف الكرم، والنجدة، وحسن الرأي، وصادق المشورة، وكمال التربية، مع الجدية، والقرب من الناس فقراء وأغنياء، عامة وسراة، وأظهر من ذلك التقرب لله رب الناس بالطاعات والقربات، والعيش الرضي البهي في الدنيا بعيدًا عن شر الوسواس الخناس، والوصية بذلك لمن يخلفه من أبناء وآل.

هذه الصورة المنيفة الألقة تصف تمامًا الشيخ الوجيه حمد بن منصور بن دخيل المالك (1312-1412)، الذي نُقلت لنا مرويات أمينة عن حياته في كتاب عنوانه: حمد المنصور المالك 1312-1412 سجل حافل بالعطاء، وهو من إعداد نجله خالد بن حمد المالك. ويقع هذا الكتاب التوثيقي في (386) صفحة، وصدرت طبعته الأولى عام (1419=1998م)، وقد تشارك الكتابة فيه أعلام كثر، وبعضهم سابق إلى الإدلاء بما لديه بمجرد أن علم بفكرة إصدار كتاب يترجم للشيخ الراحل، وفي المسابقة دلالة جليّة على خيرية الطرفين.

يشتمل الكتاب على إهداء ومقدمة ولمحة تاريخية عن مدينة الرس، ثمّ تعريف مختصر بالشخصية المترجمة في الكتاب. وبعد ذلك ينقسم كتابنا إلى تسعة أجزاء فيها شهادات للتاريخ، وأحاديث عن ضيوف وعلاقات، وتجلية لرحلة الرجل مع الحياة والناس، ثمّ وقوف خاص مع حمد المالك بين التربية والتعليم والعمل. ويليه الجزء الخامس بما يحوي من بيان حياته من منظور إنساني، وبعد ذلك تصويره كما يراه الأجانب، فتفريغ لقاء تلفزيوني معه، واختص الجزء قبل الأخير بنقل قصائد قيلت فيه إبان محياه، أو رثاء له عقب رحيله، أو قيلت عن أسرته العريقة، وآخر الأجزاء ينشر وصيته بما فيها من نصح وشفقة، ثمّ تعداد بنيه وأحفاده. ويعرض الكتاب عددًا من الصور التي تصف الحال، وتعزز ما جاء في سابق المقال.

ومع أني قرأت الكتاب قديمًا حال صدوره، إلّا أني سعدت بإعادة قراءة سيرة هذا الرجل الذي ترك لنا قريبًا من ثلاثين ابنًا وبنتًا، وعشرة أضعافهم من الأحفاد والأسباط والله يزيد ويبارك، وخلّف إرثًا من المكارم والمفاخر التي نرويها لأنفسنا ولأجيالنا عن رجل من أهل عصرنا لم تطوَ أشرعته إلّا قبل ثلاثة عقود فقط، وإنها لمرويات تؤكد عراقة إنسان بلادنا، وتعزز بقاء المروءات فينا، وتعيد بعث مآثر تحلو بها الحياة قبل أن تحلو بها المجالس، وتعذب منها الحكايات، وتطيب بذكرها الأيام والليالي.

أما مضمون الكتاب فغير محصور في تدوينه على أنجال العَلَم المترجم وأقاربه، بل فيهم علماء وأمراء وقضاة، ورجال تعليم وثقافة وإعلام، ووجهاء ووزراء ومسؤولون، وكتّاب وشعراء وشاعرات وأثرياء، وسفراء وزوار أجانب ورواة، ولو أتيح لرمال الرس، ومزارع القصيم، ومؤسسات الحكومة في الرياض ومكة والرس، أن تدلي بشهادتها لجاء الكتاب في عدة أقسام، ولا ينبئك مثل خبير، فلا عجب أن يتسابق الناس إلى إبراز مناقبه برًا به، ووفاءً لحقه، وغرسًا لشجرة القيم الوارفة الشامخة في أرضنا التي كتبت لها المكانة والقداسة.

ويستبين لنا من هذه السيرة المجيدة العلاقة المتأصلة بين الشيخ حمد وملوك المملكة وأمرائها، وبينه وبين أمراء الرس وكبارها، وبينه وبين علماء المملكة وأشياخها الكبار وقضاتها، وبينه وبين وزراء المملكة وعلى رأسهم الوزير الأول ابن سليمان. ويكفي لبيان منزلته أن الرجل معروف لدى المسؤولين وهو بلا وظيفة رسمية، وهو عضو في أيّ لجنة فصل في أمر أو تنظيم لشأن يكونها ملوك المملكة؛ إذ يدرج اسمه في مقدمة أهل الرس ومعه أميرها وأعيانها. وهو وبيته مقصد للزوار من الملوك والأمراء والوفود والمنقطعين وذوي الحاجات، وبه ازدادت معرفة الرس لدى الآخرين، وبسببه استعاد البعض محبة الرس كما يخبرنا الأستاذ منصور الخريجي.

كما كان أبو إبراهيم صاحب مجلس عامر مفتوح، وإطعام وإيواء وإغاثة، ودأب على نقل احتياجات الناس لرجالات الحكومة وأجهزتها، ومنه انتفعت قطاعات وشؤون مثل التعليم والزراعة والتجارة والحمى. وهو ذو عون على نوائب الدهر وعوادي الزمن، وممن سعى بالصلح وحقن الدماء، وبذل في سبيل تحقيق نهجه الحاتمي ماله وجاهه وشفاعته التي كانت لا ترد من قبل من تصل إليه، حتى لكأن المشفوع إليه ينتظرها أو يتمنى ورودها، ولا غرو وهذه هي الحال، أن تزدحم بوابة منزله والشوارع المحيطة بها بالناس والسيارات، وأن تبكيه العيون عندما مرض، وتنفطر برحيله أكباد وقلوب؛ فهو رجل دولة، وسيد مجتمع، ورأس أسرة، ومجمع نبل وفضل.

ومن خصاله أنه رجل نابه بصير، حسن الحديث حلو الأخبار، ولم تحل هذه الخصيصة الجميلة عن اكتسابه منقبة حميدة هي جودة الإصغاء التي يفتقدها المتحدثون الفصحاء منهم وحتى أهل الفهاهة في الغالب إلّا من رحم الله. ومن طريقته متابعة الشؤون المحلية والعالمية بوسيلة استجلاب إعلامية عجيبة؛ إذ ينقل إليه أحد جماميل الرس الأخبار مكتوبة من رجل من أهل عنيزة يملك جهاز استقبال إذاعي حسب اتفاق بين ابن مالك وهذا الرجل!

وإنه لإنسان لصيق بالتربية، فمع كثرة المشاغل وارتفاع الهمة لم يغفل عن توجيه بنيه وإحسان تربيتهم لدرجة تلامس حد الصرامة التي لا تؤذي ولا تكسر الشخصية، ومن هذا الباب حدبه فيما يرتبط بالتعليم إذ قصد مكة لإقناع مسؤولي المعارف بافتتاح مدرسة ابتدائية بالرس، ولم يكتف بذلك بل استقبل مديرها على مدخل الرس مع وقت الإفطار في يوم من شهر رمضان وهو صائم، وكان قد جهز للمدير مسكنًا بما يحتاجه، وشاركه في اختيار مقر المدرسة، وإكمال بناء الناقص فيه، والتزم بحضور احتفالاتها، والتبرع السنوي لها، حتى غدا قدوة للموسرين والأثرياء في بلدته. ولم تقف جهوده التعليمية عند الجانب المدني منه؛ فهو سبب في افتتاح مدرسة عسكرية في الرس، ولا نستغرب بعدها كثرة العسكريين من أنجال هذه المدينة الجميلة، ولعل الله أكرمه بتفوق ذريته الدراسي، ثمّ توفيقهم لإنشاء جائزة تعليمية تحمل اسمه.

حقًا إن طلائع الجيل الجديد بحاجة لهذا الكتاب كما ورد في الإهداء، وصدقًا إن الكتاب ليس حديثًا عن والد كما يجزم الأستاذ خالد أحد عمالقة صحافتنا المحلية عندما سطر بمداده مقدمة كتابه عن أبيه، بل هو سجل حافل يحكي عن تجربة غنية بالعبر، شاهدة على الإخلاص، حافلة بالعطاء، وهي سردية تمزج بين أعمال الراحل داخل أسرته العريقة، وبين بذله لصالح بلدته ووطنه الكبير، وإن التأريخ له ولأمثاله من أهل الخير والمعروف والإحسان ونفع الديار وأهلها لتأريخ لبلادنا كافة؛ وكيف لا يكون ذلك كذلك وهذا الرجل أحد رموز الرس والقصيم والمملكة خلال سبعين عامًا من عمره الذي بلغ قرنًا من الزمان مليئًا بالباقيات الصالحات، وبالمكرمات والمعالي.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد الثاني من شهرِ الله المحرم عام 1444

31 من شهر يوليو عام 2022م

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)